من أعلام الفكر الإسلامي العربي في القرن العشرين (مالك بن نبي) رحمه الله (1905-1973م)، الذي ولد في مدينة (قسنطينة) في (الشرق الجزائري) سنة (1905)، في أسرة فقيرة، بين مجتمع جزائري محافظ، حيث فتح (مالك) عينيه على تحوّلات حوله في (قسنطينة) أو قريبة منه في (عنابة) أو بعيداً عنه، شرع يدرك آثارها لاحقاً في (الجزائر) العاصمة أو نذرها في الجنوب.
انتقل بعد مولده صحبة أسرته إلى (تبسة) حيث زاول تعليمه الابتدائي والإعدادي، ونجح في "امتحان المنح، ذلك الذي كان ذا دلالة لطفل من (الأهالي) ماكان في وسع أبويه أن يرسلاه إلى المدرسة الثانوية"(1) بقسنطينة، حيث قضى سنته الدراسية الأولى (1921-1922م) وقد شرعت (قسنطينة) ذاتها تمور بالحس الوطني، والفكر الإصلاحي بعد الحرب العالمية الأولى، فتتلمذ في المدرسة نفسها على أساتذة وطنيين، في العربية، زرعوا في نفسه بذرة العمل الوطني، كما درس على أساتذة فرنسيين عنصريين، أشعروه بالخط الاستعماري الفرنسي لمسخ الشخصية الإسلامية العربية في الجزائر، وتشويه تاريخ الوطن.
من هنا شرع فضوله يكبر، واهتمامه بالشيخ (عبد الحميد بن باديس) يزداد اتساعاً، لكنه ماكاد ينهي تعليمه في هذه الثانوية حتى عاد إلى العزلة في (تبسة) باحثاً عن عمل، مفكراً في مشاريع لذلك، ثم في (آفلو) بالجنوب الجزائري، موظّفاً بمحكمتها، راضياً بذلك، في محيط عام بدأ يتصعلك منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى "ولم يبق للشباب إلا الرغبة في الحصول على بعض المقاعد يتبوأونها في ظل الاستعمار"(2).
تخرج (مالك) بعد سنوات الدراسة الأربع، في مدرسته التي اعتبرها "سجناً يعلّم فيه كتابة صك زواج أو طلاق"(3) وتخرج في (جوان 1925) وفي نفسه مع زميل له توق إلى (فرنسا) من أجل "أن نفتح لأنفسنا باباً على العالم، لأن الأبواب موصدة في الجزائر"(4)، فركبا (الباخرة) من (سكيكدة) إلى (مرسيليا)، بحثا عن عمل لهما (مالك وقاواو)، زميله لكن (مالك) في (مرسيليا) يبيع معطفه الجديد بثلث ثمنه كي يستطيع السفر إلى (ليون) التي ظفر فيها مرافقان من (الجزائر) يهودي وفرنسي بعمل، الأول في بيرلييه(Birlier) والثاني في (زينيت)(Z鮩th) وأخفق (مالك) وصاحبه (قاواو) فباتا يضيقان "ذرعاً بالحياة بعد قضاء سحابة نهارنا ننتظر الفرج من غير طائل في مكاتب الاستخدام"(5)، لكنهما عثرا على عمل في مصنع للإسمنت في (Noterdame - lorette) لحمل الآجر والأكياس، ذات الخمسين كيلو غراماً، وسرعان ما تركه للعمل بباريس، في مصنع للمشروبات، لكن على "رصيف الزجاجات الفارغة"، باقتراح من (تبسي) سبقه هناك، لكن سعير الحرارة في (جهنّم) الموقع أكل روحه وجسده، فأرسل إلى أهله في (تبسة) "ابعثوا مالاً للعودة" فكانت مراسلته الأولى، "ولم أعرف من باريس إلا أرصفة نيكولا الفارغة والمملوءة، وعرفت عن بعد برج (إفل).... عدت إلى الجزائر وعاد معي السؤال: ما العمل؟ ذلك السؤال الذي دفعني إلى المغامرة البائسة التي عشتها مع قاواو"(6).
وبعد العودة تبدأ تجارب جديدة في الاهتداء إلى عمل، كان أهمها، عمله في محكمة (آفلو) حيث وصل في (مارس 1927م)، في محيط بدا له غريباً: "لكن العشرة الحسنة للناس الذين رحبوا بي في آفلو طمأنتني، وبلغ بها الأمر أن شغفتني حباً"(7)، بل" كانت آفلو المدرسة التي تعلمت فيها أن أعرف أكبر معرفة فضائل الشعب الجزائري التي ما تزال سليمة لم يمسها شيء، كما كانت حقاً في الجزائر كلها قبل أن يعيث الاستعمار فيها فساداً"(.
لكنه اكتفى بقضاء سنة واحدة هناك، فعاد إلى (تبسة) في (مارس) أيضاً
(1928م)، ليدخل في مشروع تجاري مع زوج أخته انتهى بالخسران وخيبة الأمل الطاحنة، مما آلمه أكثر لكون شريكه ذا أسرة في حاجة إلى طعام، فتجدّد مشروع السفر إلى الخارج من جديد، لكن بطريقة معقولة، زكّاها والداه، فقالت له أمّه: "اذهب إلى باريس وتابع دراستك"..
وأتمّ أبي تفكيرها فقال:
ـ تعلم أن (ابن ستيتي) درس سنة في مدرسة اللغات الشرقية، بعد أن أتمّ دراسته في المدرسة مثلك، وهكذا أعفي من شهادة الدراسة الثانوية فسجل نفسه في كلية الحقوق..
سوف نبعث إليك ما أنت في حاجة إليه كلّ شهر"(9)..
فلم تمض سوى ثلاثة أيام حتى استقل الباخرة من (عنابة) إلى (مرسيليا)، ومن هنالك إلى (باريس) بالقطار، حين نزل في (محطة ليون) صباح يوم من شهر (سبتمبر 1930) معلناً في نفسه "لا أعود هذه المرة إلى الوراء مثلما عدت المرة الأخيرة بعد النكسة التي أصابتني مع رفيقي قاواو في صيف 1925 (10)..
فكانت الرحلة هنا علمية جادة، طمح فيها (ابن نبي) للدراسة "بمعهد الدراسات الشرقية في باريس أملاً في التخرج محامياً، فهيأ نفسه لامتحان الدخول، وانتظره هنالك واستعدّ له". (11)، ثم اجتازه وكله ثقة في النجاح، لكن النتيجة كانت خيبة الأمل، المقررة مسبقاً، فقال عنها: "لقد طلبني مدير المعهد، وفي هدوء مكتبه الوقور شرع يشعرني بعدم الجدوى في الإصرار على الدخول لمعهده، فكان الموقف يجلي لنظري بكل وضوح هذه الحقيقة: إن الدخول لمعهد الدراسات الشرقية لا يخضع بالنسبة لمسلم جزائري لمقياس علمي وإنما لمقياس سياسي، ونزلت كلمات المدير على طموحي نزول سكين المقصلة على عنق المعدوم.... وفي ذلك اليوم لم يتحطم فقط أملي، بل شعرت أن حلم والدتي ووالدي قد تحطم أيضاً على صخرة الإرادة المقررة في خبايا الدوائر"(12) الاستعمارية، في (فرنسا) مثلما في (الجزائر).
فاضطّر للتعديل في أهدافه وغاياته، فالتحق بمدرسة (اللاسلكي) غير البعيدة عن (معهد اللغات الشرقية) للتخرج كمساعد مهندس، ممّا يجعل موضوعه تقنياً خالصاً، بطابعه العلمي الصرف، على العكس من المجال القضائي والسياسي..
لكن تشاء الأقدار أن يدخل (مالك بن نبي) من هذا الباب نفسه إلى عالم (الفكر السياسي): فبدأ الكاتب هنا يرتفع بشعوره إلى مستوى وطني رفيع، يحس بمسؤولية ما تجاه وطنه ومجتمعه للخروج من التخلف، والأخذ بأسباب الحضارة والثقافة الحديثة"(13)
وانغمس في الدراسة، وفي الحياة الفكرية، كما تزوج (فرنسية) واختار الإقامة في (فرنسا) مع تردّد على (الجزائر) مع زوجته الفرنسية المسلمة (خديجة) وشرع يؤلف، في قضايا العالم الإسلامي كله، فكان سنة (1946)، كتابه "الظاهرة القرآنية" ثم "شروط النهضة" 1948، و"وجهة العالم الإسلامي"1954.
ثم ينتقل إلى القاهرة بعد إعلان الثورة المسلحة في الجزائر (سنة 1954) وهناك حظي باحترام، فكتب "فكرة الإفريقية الآسيوية" 1956. وتشرع أعماله الجادة تتوالى، وبعد استقلال (الجزائر) عاد إلى الوطن، فعين مديراً للتعليم العالي الذي كان محصوراً في (جامعة الجزائر) المركزية، حتى استقال سنة
(1967) متفرغاً للكتابة، بادئاً هذه المرحلة بكتابة مذكراته، بعنوان عام"مذكرات شاهد القرن"، فنشر الجزء الأول بهذا العنوان وحده بالفرنسية، وترجمه إلى العربية السيد (مروان القنواتي)، سنة 1969 وأضيف تحت هذا العنوان في الجزء الثاني الذي نشر في 1970 اسم (الطالب) لكونه يخص مرحلة الدراسة في فرنسا (ابتداء من سنة 1930) أما الجزء الثالث فبقي مخطوطاً بعد وفاة المؤلف في (31-10-1973)...
و(مذكرات شاهد القرن)، صورة عن نضال (مالك بن نبي) الشخصي في طلب العلم والمعرفة أولاً، والبحث في أسباب الهيمنة الأوروبية ونتائجها السلبية المختلفة وسياسة الاحتلال الفرنسي في (الجزائر) وآثاره، ممّا عكس صورة حية لسلوك المحتلين الفرنسيين أنفسهم في (الجزائر) ونتائج سياستهم، ووجوهها وآثارها المختلفة: الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية..