فى الوقت الذى يستعد فيه العالم للارتياد القرن الحادى والعشرين بمزيد من التقدم فى العلوم تقدماً يقترب من الخيال، يحصر المسلمون اهتماماتهم حول قضايا ترجع إلى خرافات تنتمى إلى القرن الحادى والعشرين قبل الميلاد. من نوع عذاب القبر والثعبان الأقرع التى اخترعها أجدادنا المصريون القدماء ثم عادت إلينا منسوبة زوراً إلى النبى ، ونحن مشغوفون بهذه الخرافة ونعتبرها من المعلوم من الدين بالضرورة من أنكرها يكون كافراً.
وهكذا ينفصل المسلمون عن عصرهم بأكثر من أربع آلاف سنة مع أن الإسلام حين نزل فى القرن السابع الميلادى وقف موقفاً حازماً من الأساطير والخرافات ووضع منهجاً علمياً تجريبياً فى القرآن للبحث والاكتشاف.. لكن الأسلاف ركنوا إلى الخرافة وأهملوا ما جاء فى القرآن الكريم من منهج علمى تجريبى.. وعندما بدأت الصحوة فى العصر الحديث فوجئنا بخرافات العصور الوسطى التى يرفضها القرآن الكريم وقد عادت إلى الظهور والتأثير على عقول الشباب المتدينين ليزدادوا تخلفاً باسم الإسلام وهو دين العلم ودين التعقل والتبصر.
مرة أخرى.. ماذا يراد بنا ؟!
هل يراد بنا أن نكون رقيق القرن الحادى والعشرين نعيش فى زوايا النسيان بينما يتقدم العالم من حولنا.. هل يراد بديننا الحنيف أن يكون عنواناً للإرهاب والعجز والتخلف والخرافة؟!
إن هذه الدراسة الموجزة عن عذاب القبر وأساطيره محاولة متواضعة لتبرئة الإسلام وتنبيه المسلمين، وهو هدف نبيل يستحق أن نتحمل من أجله المزيد من أذى وتطاول الذين اتخذوا القرآن مهجوراً، وأن نصبر ونتسامح.. والله تعالى ولى الصابرين.
الفصل الأول
عذاب القبر والثعبان الأقرع
فى ضوء القرآن والسنة
العقائد التى لا وجود لها فى القرآن يحاول أصحابها إيجاد سند شرعى لها بتأويل الآيات وتأليف الأحاديث ونسبتها للرسول عليه الصلاة والسلام. ذلك ما ينطبق على موضوع عذاب القبر ونعيمه والثعبان الأقرع أو الشجاع الأقرع..
وإذا ما حاول باحث مخلص لدينه حريص على تبرئة النبى عليه الصلاة والسلام مما ينسب إليه من أكاذيب- إذا ما حاول الاحتكام إلى القرآن الكريم فى توضيح تلك القضايا تناولته الاتهامات من كل جانب وأسهلها أنه منكر لسنة النبى عليه السلام.
علاقة السنة بالقرآن:
والسؤال الذى يفرض نفسه هنا:
ما المعنى المراد بسنة النبى التى يرفعون منها شعاراً يدارى عجزهم عن الاجتهاد ورفضهم للحق القرآنى؟
إن النبى عليه السلام كان متبعاً للقرآن ، ومن يحب النبى فعلاً هو ذلك الذى يؤمن بأن أقوال النبى وأفعاله كانت تأكيداً للقرآن ولم تكن أبداً مناقضة للقرآن، أى كانت طاعة لله تعالى وكتابه الكريم ولم تكن عصياناً لله تعالى وقرآنه.. وذلك الذى يؤمن بالنبى ويحبه يكون أحرص على تبرئة النبى من ذلك الزيف الذى نسبوه إليه والذى يجعله يقول ما يخالف القرآن ويضعه فى موقع العصيان للرحمن..
أما الذى يحرص على نسبة ذلك الزيف للنبى بزعم أنها سنة النبى ويغلق عقله عن تدبر آيات القرآن الكريم فإنما يضع نفسه فى قائمة أعداء النبى دون أن يدرى، لأن السنة الحقيقية للنبى تطابق القرآن، ولأن القرآن و المنهج الذى كان يحكم به النبى عيه الصلاة والسلام، ولأن الله تعالى جعل مقياس العداوة للنبى هو فى إتباع الأحاديث الشيطانية التى ينسبها شياطين الأنس والجن لله ورسوله وهى تخالف الكتاب العزيز.
واقرأ قوله تعالى عن مشاهد يوم القيامة ﴿وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِمُ عَلَىَ يَدَيْهِ يَقُولُ يَلَيْتَنِي اتّخَذْتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلاً. يَوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً. لّقَدْ أَضَلّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً. وَقَالَ الرّسُولُ يَرَبّ إِنّ قَوْمِي اتّخَذُواْ هَـَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىَ بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً﴾ (الفرقان 27: 31).
يندم المجرم يوم القيامة يتمنى لو اتخذ مع الرسول عليه الصلاة والسلام سبيلاً وليته ما اتخذ فلاناً خليلاً، ذلك الذى أضله عن الذكر- أى القرآن- إذن فسبيل الله ورسوله هو القرآن وهو الذكر، يقول تعالى: ﴿صَ وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ﴾ (ص 1).
ويندم على أنه أسلم قياده للشيطان فخذله الشيطان، ثم ينتقل القرآن إلى مشهد آخر يعلن فيه الرسول براءته ممن اتخذ القرآن مهجوراً، ولم يقل القرآن وقال الرسول يا رب إن قومى هجروا القرآن، وإنما قال "اتخذوا القرآن مهجورا" أى اتخذوه فى صورة كان فيها موجوداً وكان أيضاً مهجوراً، فكيف كان موجوداً ومهجوراً فى نفس الوقت؟ هذا هو ما يحدث الآن، فالقرآن معنا ولكننا نهجره إلى أقاويل أخرى تناقصه وتعارضه، وإمعاناً فى الكيد لله ورسوله نصمم على نسبة تلك الأقاويل للنبى...!! ولذلك يقول رب العزة فى التعليق ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىَ بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً﴾ (الفرقان 31).
الأحاديث المزورة ليست سنة النبى:
إن هجر القرآن وعدم الاعتداد به هو عداء لله تعالى ورسوله، وهو خصومة للرسول تجعله يعلن براءته ممن يصمم على نسبة أقوال الزور إليه وهى تخالف القرآن الحكيم، علاوة على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقلها ولم يعرفها، بل إنه- كما هو معروف- نهى عن تدوين غير القرآن، وأمر بمحو أى كلام له : "لا تكتبوا عنى غير القرآن، ومن كتب غير القرآن فليمحه" . وعلى ذلك سار الصحابة، ما كان معهم كتاب غير القرآن وأول خطبة لعمر بن عبد العزيز قال فيها "أما بعد فإنه لا كتاب بعد القرآن وإنى متبع ولست بمبتدع.."
ثم حدثت الأهواء وانتشرت أحاديث منسوبة للنبى أتيح لها أن تكتب منذ القرن الثالث الهجرى كتابة منظمة، وكل منهم يكتب من الأحاديث ما يتصور أنه سنة النبى، وكل منهم يكتب ما يخالف به الآخر، بل ويناقض نفسه أحياناً فى الصفحة الواحدة، علاوة على ما فيها من أحاديث تتناقض صراحة مع الكتاب العزيز وما كان عليه خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.. ومع ذلك فقد اختلفوا فيما كانوا يكتبون، وعكفوا عليه قروناً من الزمان يختلفون فى هذه الرواية وذلك السند وتلك السلسلة، إلى أن فاجأنا غزو نابليون بونابرت فهرع الشيوخ إلى كتب البخارى يلتمسون منه العون والمدد أمام مدافع الفرنسيين فلم يغن عنهم البخارى شيئاً، بل اقتحم الفرنسيون الأزهر بخيولهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
طريقان للصحوة
وأحدثت الحملة الفرنسية ـ وقبلها التدخلات البريطانية فى الخليج العربى والدولة العثمانية ـ هزة عنيفة فى المجتمعات الإسلامية التى بدأت فى النهوض واتخاذ طريقين.. فى صحراء نجد ظهرت الدعوة الوهابية تنشد العودة إلى الماضى وتعتبر التصوف وحده سبب التخلف وتزعم أن الأحاديث التى رواها السلف هى سبيل النجاة.. وفى مصر نهض محمد على إلى إنشاء دولة عصرية على النسق الأوروبى، وسار مشروع الدولة الحديثة يتقدم حيناً ويكبوا أحياناً حسب النفوذ الأجنبى وشخصية الحاكم، بينما قامت الدولة الوهابية السعودية ثلاث مرات وسقطت مرتين.. إلى أن جاء عصر النفط وأتيح لثقافة الوهابيين أن تغزو عقول المصريين والمسلمين عبر قطار النفط السريع فأعيدت إلى المناقشات الفكرية قبيل القرن الحادى والعشرين قضايا كانت تعتبر فى العصور الوسطى فى قاع التراث مثل اللحية والجلباب والثعبان الأقرع وعذاب القبر وسائر الغيبيات الخرافية التى يرفضها القرآن الحكيم..
عصر النفط والصحوة:
وقبل عصر النفط كان فى مصر حركة اجتهاد دينى بين جنبات الأزهر تزعمها الإمام محمد عبده ومدرسته المتفتحة، وظل عطاء هذه المدرسة قائماً ومتجدداً حتى الستينات من هذا القرن العشرين فى شخص الشيخ محمود شلتوت، والذى ردد أقوال الإمام فى كتبه (الإسلام عقيدة وشريعة)، (الفتاوى)، (من توجيهات الإسلام) وقدم لنا الوجه الحقيقى للاستنارة الإسلامية فى موضوعات البنوك والفوائد، وفيما يخص أمور الغيبيات مثل علامات الساعة وأحوال اليوم الآخر أعلن أن مصدرها الوحيد هو القرآن الكريم لأن أغلبية الأحاديث أحاديث تفيد الظن ولا تفيد اليقين.. وبالتالى فإنه لم يعط مشروعية دينية أو أصولية للخرافات (المقدسة) التى تتحدث بالأحاديث عن عذاب القبر ونعيمه وغيرها من الغيبيات.
وتلك النهضة العقلية التى ظلت ترفع الاستنارة فى الأزهر وتنتشر منه للعالم الإسلامى ما لبث أن أطاح بها عصر النفط الذى أعاد فى عقول الشباب أسوأ عصور التراث فى القرون الوسطى، بحيث أن ترديد أفكار الشيخ شلتوت التى كانت تقال منذ ثلاثين عاماً فقط تعتبر مخاطرة ودخولاً فى دائرة المحظور، والأكثر مخاطرة والأكثر تهديداً لحياتك أن ترجع للقرآن الكريم وتحتكم إليه، فإنك بذلك تضع خصومك أمام موقف حرج لا يستطيعون التخلص منه إلا بكيل الاتهامات لك واضطهادك ما أمكن، وذلك موجز تاريخ كاتب السطور فى العشرين سنة الماضية.
على أنه لا مفر لنا من الاحتكام للقرآن فى هذه القضية فى موضوع عذاب القبر نفسه وفى الأحاديث المنسوبة للنبى عليه الصلاة والسلام بشأنها، ونرجو الهداية لنا ولغيرنا ونتمسك بالتسامح والغفران لمن يترك الموضوع وينهال علينا بالسباب والتجريح.. عندما يعجزه الرد.
هل للنبى أحاديث فى عذاب القبر؟
عذاب القبر وما يحدث فى اليوم الآخر وعلامات الساعة كلها تدخل فى نطاق السمعيات أو الغيبيات.. وهناك قسم كبير من الأحاديث المنسوبة للنبى فى كتب التراث تتحدث عن هذه الغيبيات منها أحديث علامات الساعة وقيامها والمهدى المنتظر وأحوال الآخرة والشفاعة والخروج من النار والمبشرين بالجنة.. كل تلك الأحاديث تدخل فى إطار الغيبيات والسمعيات.. والسؤال الهام الآن: هل قال النبى فعلاً تلك الأحاديث؟..
إن علماء الأصول يقولون أن أمور السمعيات أو الغيبيات لا تؤخذ إلا من القرآن الكريم والأحاديث المتواترة فقط..
ونتساءل ما هى الأحاديث المتواترة التى يمكن أن نأخذ منها أمور الغيبيات مأخذ العلم اليقين والتسليم؟
إن الحديث المتواتر هو الذى يفيد اليقين وليس محلاً للشك أو الظن، وعند أكثرية المحققين مثل الحازمى والشاطبى وأبى حيان والبستى والنووى فإنه لا وجود للحديث المتواتر.
وبعضهم أثبت أثبت وجود حديث واحد متواتر هو حديث "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" على اختلاف بينهم فى وجود كلمة "متعمداً" أو حذفها..
بعضهم ارتفع بالحديث المتواتر إلى ثلاثة أو خمسة.. ولكن ليس من بينها إطلاقاً حديث عن عذاب القبر أو نعيمه، وبالتالى فإن المرجع فى موضوعنا هو القرآن فقط..
وإذا نحينا الحديث المتواتر جانباً وجدنا أمامنا غير القرآن تلك الألوف المؤلفة من الأحاديث التى يقال عنها أحاديث آحاد والتى تفيد الظن ولا تفيد العلم واليقين، وبالتالى فليست محلاً للاعتماد عليها فى أمور الغيبيات والسمعيات كما قال علماء الأصول.
ونتساءل: إذن فلماذا نحتاج إلى وجود تلك الأحاديث التى تملأ كتب التراث وهى تتحدث بالظن والتخمين وليس بالعلم واليقين عن قضايا اعتقادية مثل الغيبيات والسمعيات؟.
كان ذلك مأزقاً شديداً أمام علماء الأصول، وخرجوا منه بأن تلك القضايا الغيبية قضايا خلافية اجتهادية، وكل فريق عزز مذهبه فيها بالأحاديث التى عنده، ولذلك امتلأت كتب الفرق الإسلامية مثل كتاب "مقالات المسلمين" بالاختلافات المتشعبة مع أنهم جميعاً مسلمون.
ونترك علماء الأصول وآراءهم واجتهاداتهم ونلتفت إلى القرآن الكريم نحاول الإجابة على نفس السؤال: هل تحدث النبى عن عذاب القبر، وبمعنى آخر: هل كان النبى يتحدث عن الغيبيات؟ وبمعنى آخر: هل كان النبى يعلم الغيب ويتحدث فى الغيبيات من واقع علمه بالغيب؟.. إن الإجابة على هذه الأسئلة من القرآن الكريم تستلزم منا أن نضع عناوين للعديد من الآيات التى تؤكد نفس المعنى الذى يحتويه العنوان والتى لا يستطيع المسلم إلا أن يقول لكل آية عبارة واحدة هى "صدق الله العظيم".
الله وحده هو الذى يعلم الغيب:
هذا المعنى تؤكده الآيات الكريمة الآتية ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاّ هُوَ﴾ (الأنعام 59). ﴿فَقُلْ إِنّمَا الْغَيْبُ للّهِ﴾ (يونس 20). ﴿وَللّهِ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلّهُ﴾ (هود 123). ﴿وَلِلّهِ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ (النحل 77). ﴿قُل لاّ يَعْلَمُ مَن فِي السّمَاواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللّهُ﴾ (النمل 65).
وكل الآيات الكريمة تؤكد نفس المعنى بأسلوب القصر والحصر، أى لا يعلم الغيب إلا الله، مثل قولك لا إله إلا الله.. لأن العلم بالغيب صفة إلهية..
الأنبياء والغيب:
يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رّسُلِهِ مَن يَشَآءُ﴾ (آل عمران 179).. ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىَ غَيْبِهِ أَحَداً. إِلاّ مَنِ ارْتَضَىَ مِن رّسُولٍ﴾ (الجن 26: 27).
وقد أعطى الله بعض أنبيائه مثل يوسف وعيسى بعض الغيوب مثل تفسير الأحلام كوسيلة من وسائل إثبات نبوتهم.
لكن أنبياء آخرين لم يعطهم الله العلم بشىء من الغيب وقد أعلنوا ذلك صراحة مثل نوح عليه السلام الذى كان يقول لقومه ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ (هود 31).
وقد أكد القرآن على أن خاتم النبيين لا يعلم الغيب فى قوله تعالى: ﴿قُل لاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلآ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلآ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ إِلَيّ﴾ (الأنعام 50).
أى أن الله تعالى أمر خاتم النبيين بأن يعلن أنه لا يملك خزائن الله وأنه لا يعلم الغيب وأنه ليس ملكاً من الملائكة، ويزيد على ذلك بتأكيد أنه يتبع الوحى، وأنه لا يمكن أن يتكلم بما يخالف الوحى وأوامر به له ﴿إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ إِلَيّ..﴾.
والله تعالى يأمر خاتم النبيين بأن يعلن بأنه لا يعلم موعد الساعة أقريب هو أم بعيد، لأن الله لم يطلع على غيبه إلا من ارتضى من رسله وليس هو منهم ﴿قُلْ إِنْ أَدْرِيَ أَقَرِيبٌ مّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّيَ أَمَداً. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىَ غَيْبِهِ أَحَداً. إِلاّ مَنِ ارْتَضَىَ مِن رّسُولٍ﴾ (الجن 25: 27).
كانوا يسألون النبى عن الساعة وكان النبى يرفض الإجابة ونزل الوحى يقول: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا. فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا. إِلَىَ رَبّكَ مُنتَهَاهَآ. إِنّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ وقوله تعالى للنبى ﴿فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا﴾ تساؤل ينكر من البداية توجيه ذلك التساؤل إليه، لأن أمور الساعة من الغيبيات، والنبى لا شأن له بمعرفة الغيبيات.
وتكرر السؤال للنبى وجاءت الإجابة بشكل أكثر تفصيلاً وأكثر تحديداً، يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنّكَ حَفِيّ عَنْهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف 187).
والآية بعد أن تؤكد علم الساعة هو من عند الله وحده، تؤكد على أن النبى لا يعلم شيئاً عنها، ويأتى ذلك بصورة استنكارية ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنّكَ حَفِيّ عَنْهَا﴾..
ثم تأتى الآية التالية تؤكد أن النبى لا يعلم الغيب ﴿قُل لاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسّنِيَ السّوَءُ إِنْ أَنَاْ إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف 188). أمره ربه أن يعلن أنه لايملك لنفسه- فضلاً عن غيره- نفعاً ولا ضرراً إلا ما شاء الله، وإنه لو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير وما أصابه السوء.. وفعلاً لو كان يعلم الغيب ما حدثت له الهزيمة فى أحد ولاستكثر من النصر فى بدر وغيرها..
ولو كان يعلم الغيب ما وقع ضحية لخداع المنافقين حين كانوا يكذبون عليه فيصدقهم، وفى إحدى المرات أقنعوه بأن اللص ليس لصاً بل برئ وطلبوا منه أن يدافع عن ذلك اللص البرئ فدافع عنه النبى مخدوعاً بكلامهم، ونزل الوحى يعتب على النبى ويقول له: ﴿إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾ أى لا تكن محامياً عن الخائنين، ثم يأمره بالاستغفار ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً﴾ ويأمره ربه بألا يدافع عن الخونة: ﴿وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً﴾ (النساء 105: 107).
أولئك الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، وكانوا يتآمرون على خداع النبى، وصدقهم النبى لأنه لا يعلم الغيب، ثم نزل الوحى يخبر بالحقيقة ولو كان النبى يعلم الغيب ما استطاعوا خداعه..
وكانوا يدخلون عليه يقدمون له فروض الطاعة ثم يخرجون من عنده يتآمرون عليه، وهو لا يعلم شيئاً عن ذلك الغيب إلى أن ينزل الوحى يخبره: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً﴾ (النساء 81).
لم يكن يعلم الغيب وكان ذلك واضحاً فى سيرته القرآنية أو غزواته التى حكاها المؤرخون. وبالتالى فقد كان يتصرف فى غزواته وفق إمكاناته البشرية.
وكانوا يسألونه عن الغيبيات مثل أمر الساعة فينزل القرآن يستنكر ذلك السؤال ويؤكد على أن النبى لا يعلم الغيب..
وهناك آية جامعة محكمة فاصلة فى الموضوع: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ إِلَيّ وَمَآ أَنَاْ إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ﴾ (الأحقاف 9).
أى أمره ربه بأن يعلن أنه ليس متميزاً عن الرسل ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرّسُلِ﴾.
وأمره أن يعلن أنه لا يدرى ولا يعلم ما سيحدث له أو ما سيحدث لغيره فى المستقبل سواء فى الدنيا أو عند الموت أو فى البرزخ، أو عند قيام الساعة أو فى الآخرة، وبالتالى فلا يمكن أن يتكلم فى أشياء لا يعلمها فقد أمره ربه أن يعلن أنه يتبع ما يوحى إليه فقط أى يطيع أوامر ربه ﴿إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ﴾ ومعناه أن النبى لا يمكن أن يتكلم مثلاً عن عذاب القبر لأنه غيب.. والمعنى المستفاد مما سبق أن النبى لم يتكلم أبداً عن الغيبيات، ومن واجب المؤمن تبرئة النبى من ذلك الزيف المنسوب إليه والذى يخالف القرآن..
والآيات السابقة وهى تؤكد على أن النبى لا يعلم الغيب تضع الذين يتمسكون بأحاديث الغيبيات وعذاب القبر والشفاعة فى موقف حرج.. فهم إن آمنوا بتلك الأحاديث فقد كفروا بآيات القرآن، وإن آمنوا بالقرآن فقد كفروا بتلك الأحاديث.. ولا يمكن أن يؤمن الإنسان بالشىء ونقيضه.. والمتسكون بتلك الأحاديث التى تخالف القرآن مضطرون لأن يعلنوا باللسان إيمانهم بالقرآن، ولكن مأزقهم الحقيقى فى أنهم يؤمنون فعلاً بتلك الأحاديث مهما تناقضت مع القرآن، ولا يستطيعون نفى الآيات القرآنية التى تخالف هواهم ولكى يخرجوا من هذا المأزق فإنهم ينسون القضية تماماً ويكتفون بكيل الاتهامات والسباب لكاتب هذه السطور.
بسيطة...!! لكن هل يستطيع السباب أن يحل المشكلة؟ ..لا أعتقد...!!
ونخلص مما سبق إلى تقرير الآتى:
1- أن السنة الحقيقية هى اتباع القرآن، وأن القرآن يؤكد على أن النبى لا يعلم الغيبيات ولا يتحدث فى الغيبيات، إذن فالسنة الحقيقية للنبى تخلو من أى حديث له عن عذاب القبر وغيره من الغيبيات.. ذلك هو ما نستخلصه من القرآن العزيز..
2- إن علماء الأصول يقرون أن أمور الغيبيات لا تؤخذ إلا من القرآن والحديث المتواتر، وحيث أن الحديث المتواتر لا وجود له عند أغلب المحققين وحيث أن من أثبت وجود بعض الأحاديث المتواترة فليس منها شىء عن عذاب القبر، لذلك فالأحاديث الأخرى- أحاديث الآحاد- ليست مصدراً معتمداً ٌلإثبات عذاب القبر أو نفيه، لأن القرآن وحده هو المرجع.
3- إذا كان الله تعالى لم يعط النبى علم الغيب وإذا كان النبى لم يتحدث عن الغيبيات فإن غير النبى أولى بعدم معرفة الغيب، وبالتالى لا تؤخذ منه أقوال عن غيبيات القبر ولا يصح الاحتجاج به. ومع ذلك تحفل كتب الحديث بالأحاديث المنسوبة زوراً إلى النبى الكريم ومن بينها أحاديث تعرض للوسائل التى تنجى المؤمن من عذاب القبر مثل الموت يوم الجمعة أو ليلتها؟! أو الموت بداء البطن؟! فيزعمون أن الرسول قال: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة إلا وقاه الله تعالى فتنة القبر" وقوله "من تقتله بطنه فلا يعذب فى قبره؟!".
========================================
الفصل الثانى
قضية الحساب
فى النسق القرآنى
حديث القرآن عن قضية الحساب يأتى ضمن منظومة كاملة تتحدث عن خلق النفس وموتها وحياتها والبرزخ والموت والنوم والبعث والنشور. وكى نفهم الموضوع لابد أن نبدأ البداية ونسير إلى النهاية وكل ذلك بالآيات القرآنية وبالترتيب.
وبداية لابد أن نقرر أنه لم يرد فى القرآن الكريم مطلقاً ذكر ما يسمى بعذاب القبر أو نعيمه أو الثعبان الأقرع، وحيث أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد المعتمد فى القضية فالحكم هنا قاطع فى نفى عذاب القبر ونعيمه وثعبانه.
لكن البعض يخلط بين القبر وما ورد فى القرآن حول البرزخ، ويرتبون على ذلك القول بعذاب القبر ونعيمه، وهذا يدعونا للبحث فى ماهية النفس الإنسانية، وفى علاقتها بالجسد وفى ماهية الموت وفى مصر الجسد بعد الموت، لنصل إلى تحديد المقصود بالبرزخ ومصير النفس الإنسانية فيه حتى البعث يوم القيامة حيث يتم الحساب.
الخلق- الموت- البرزخ- البعث:
إن الله تعالى خلق كل الأنفس البشرية فى وقت واحد، يقول تعالى: ﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء 1). ومن النفس الأولى انبثقت الأنفس الأخرى. وكل نفس تحمل فى داخلها مستقراً للسابقين والمستودع للاحقين ﴿وَهُوَ الّذِيَ أَنشَأَكُم مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ (الأنعام 98).
وكل نفس تكون ميتة فى عالم البرزخ إلى أن يأتى الوقت الذى ترتدى فيه الجسد البشرى، وحينئذ ينتفض الجنين فى بطن أمه، وتدخل فيه تلك القوة المجهولة التى نسميها النفس، ذلك الكائن العاقل المسئول الذى يعطى للجسد ماهيته وكينونته، وتظل النفس حية بذلك الجسد طيلة العمرالمقدر لها أن تعيشه فى ذلك الكوكب الأرضى المادى، إلى أن ينتهى الأجل ويحل موعد الوفاة أو الموت، وحينئذ تفارق النفس الجسد وتغوص فى البرزخ الذى أتت منه وتعود إلى نفس الموات الذى كانت فيه فى البرزخ..
وهكذا.. فكل الأنفس البشرية مخلوقة معاً، ولكن تدخل كل نفس جسدها وترتديه فى الوقت المحدد لها حين ينتفض الجنين، ثم بعد أن تقضى عمرها فى الحياة الدنيا تعود إلى العدم أو البرزخ.. وبعد أن تدخل كل نفس تجربتها أو حياتها الدنيا تموت، تكون القيامة.. ويكون البعث، بعث الموتى جميعاً من البرزخ.. وتكون الحياة الأبدية فى الآخرة فى الجنة أو فى النار..
ومعنى ذلك أننا كنا موتى أولاً فى البرزخ ، ثم ندخل الحياة الدنيا الأولى، ثم سنموت راجعين الى البرزخ فى أوقات مختلفة عندما يفارق الواحد منا هذه الحياة ، ثم البعث للجميع حيث سنحيا فى الآخرة الحياة الأبدية.. يقول تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ﴾ (البقرة 28).. ويوم القيامة يدرك أصحاب النار هذه الحقيقة فيقولون ﴿قَالُواْ رَبّنَآ أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىَ خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ﴾ (غافر 11). إذن هو موت فى البداية، ثم الحياة الدنيا التى نحياها الآن، ثم الموت ، ثم الحياة فى الآخرة.. موتتان وحياتان..
والموت بالنسبة للنفس أن تكون بلا جسد.. وأنا قبل ميلادى كانت نفسى ميتة فى البرزخ.. وعندما ينتهى أجلى وأموت ستفارق نفسى جسدى وتغوص فى البرزخ الذى أتت منه.. وبالنسبة لى فى البرزخ توجد أنفس أجدادى الذين عاشوا قبلى هذه الحياة الدنيا، كما توجد فى البرزخ أنفس أحفادى الذين لم يأت بعد وقت دخولهم فى الحياة الدنيا.. ففى البرزخ أنفس السابقين والذين لم يأتوا للدنيا بعد..
ومن المستحيل أن يتعرف أبى الميت فى البرزخ على حفيدى الذى لم يأت الحياة بعد، لأن البرزخ موات لا إحساس فيه ولا حياة للجميع من الموتى.. والله تعالى يقول عن انعدام الحياة والإحساس فى الموتى ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مّن فِي الْقُبُورِ﴾ (فاطر 22). ويقول عن عبادة الأولياء الموتى فى الأضرحة قال تعالى: ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ﴾... ﴿أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ﴾ (النحل 21).
إذن فالموتى من الأولياء والآخرين مجرد تراب لا إحساس فيه.. ولو كان هناك إحساس لالتقى الأجداد بالأحفاد كما نتخيل فى أضغاث الأحلام.
الموت والنوم والبرزخ:
إن النفس البشرية وهى فى الحياة الدنيا لا تتحمل البقاء فى السجن المادى المسمى بالجسد، لذلك تعود فى الليل إلى البرزخ الذى أتت منه، ولكن تظل مرتبطة بذلك الجسد بحبل أثيرى وتعود إليه بعد النوم.. فالنوم موت مؤقت، يقول تعالى: ﴿اللّهُ يَتَوَفّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا وَالّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ الّتِي قَضَىَ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُخْرَىَ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى﴾ (الزمر 42). ومعنى يمسك الله النفس التى قضى عليها الموت أنه لم يعد لها شأن بالقبر أو بأسطورة عذاب القبر. فالميت المدفون فى القبر ليس مدفونا منه الا جسده الفانى فقط، أما ذاته الحقيقية ـ كينونته ـ اى نفسه فقد أمسكها الله تعالى عنده،أى أنها أصبحت حبيسة البرزخ، وهو مستوى فى الوجود بين الدنيا والآخرة تغوص فيه الأنفس عند الوفاة.
فالوفاة هنا نوعان، موت ونوم، والنوم موت مؤقت، يتميز عن الموت المعروف بأنه عارض وقتى ومتكرر، وبأن النفس لا تقطع صلتها فيه مطلقاً بالجسد بسبب ذلك الحبل السرى بينهما، والذى يعطى نوعاً ما من الإحساس تخلله الأحلام.. ويجمع بين الموت والنوم أن النفس تغوص فيهما فى البرزخ الذى يعنى الموت أو انعدام الإحساس بالزمن، ولأن الزمن هو الضلع الرابع للمادة فإن النفس عندما تتحرر من الجسد المادى تتحرر أيضاً من الزمن وعندما تعود النفس إلى الجسد يتهيأ للإنسان أنه نام أو مات منذ يوم أو بعض يوم فقط.. لأن فترة البرزخ سواء كانت نوماً أو موتاً لا إحساس فيها بالزمن.. وأعرف صديقاً دخل فى عملية جراحية عصر يوم الجمعة قبيل مبارة الأهلى والزمالك وكان مشغولاً بها، وأفاق يوم الثلاثاء، فسأل عن نتيجة المباراة وهو يظن أنه يوم الجمعة.. أى أنه لم يحس فى نومه أو إغمائه بمرور الأيام.
والقرآن يعطينا الأمثلة على انعدام الإحساس بالزمن أوانعدام الشعور بالحياة فى البرزخ فى الموت أو النوم.. كالرجل الذى مر على قرية خربة وتعجب كيف ستعود لها الحياة يقول تعالى: ﴿أَوْ كَالّذِي مَرّ عَلَىَ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا قَالَ أَنّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ﴾ (البقرة 259). فالرجل نام مائة عام وعندما استيقظ ظن أنه نام يوماً أو بعض يوم، والقرآن يجعل النوم موتاً، لأن النوم موت مؤقت وأهل الكهف حين استيقظوا بعد (309) سنة قالوا: ﴿لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ (الكهف 19). وتذكروا مطاردة قومهم لهم على أنها حدثت بالأمس القريب ﴿إِنّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلّتِهِمْ﴾ (الكهف 20). ولم يعرفوا أن قومهم قد انقرضوا منذ ثلاثة قرون...!! ونفس الحال فى البعث حين يستيقظ البشر جميعاً يظن المجرمون أنهم ماتوا بالأمس القريب ﴿كَأَنّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوَاْ إِلاّ عَشِيّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ (النازعات 46). أى يظنون أنهم لم يلبثوا فى البرزخ إلا يوماً أو بعض يوم.. ويحكى القرآن تساؤلهم عن الحشر ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ عَشْراً. نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً﴾ (طه 103، 104).
ولو كان هناك عذاب فى القبر لأحسوا به، خصوصاً وهم عصاة مجرمون، ولكنهم ماتوا وفقدوا الإحساس وحين استيقظوا ظنوا أنهم ماتوا بالأمس القريب، بل إنهم يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم ما لبثوا فى البرزخ إلا ساعة، والساعة هنا تعنى يوماً أو بعض يوم، وليس (60) دقيقة، يقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ. وَقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَىَ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَـَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـَكِنّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (الروم 55، 56).
هم المجرمون الذين يدعى أصحاب الخرافة القائلة بعذاب القبر أنهم يعذبون فى القبر- هؤلاء المجرمون يحكى القرآن أنهم يقسمون عند قيام الساعة إنهم ما لبثوا غير ساعة.. ومن الطبيعى أنهم لو كانوا يعذبون فى القبر وكانوا يحسون بذلك العذاب لأحسوا بمرور الوقت ألاف من السنين يزيدها العذاب بطئاً وقسوة.. ولكن لأنه لا وجود لعذاب القبر ولأنه مجرد موت فى البرزخ بلا إحساس فإن المجرمين أنفسهم يقسمون أنهم ما لبثوا غير ساعة.. ويقول لهم المؤمنون العلماء إنهم لبثوا فى البرزخ إلى يوم البعث ولكنهم لم يعلموا لأنهم كانوا نياماً ففقدوا الإحساس بالزمن.
بين البرزخ ولحظة الاحتضار:
ولأن البرزخ منطقة انعدام للزمن والإحساس والشعور والحياة فإن القرآن يتخطاه أحياناً ويربط بين آخر شعور للإنسان عند الاحتضار والموت وأول شعور له وإحساس له عند البعث والقيامة. يقول تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ﴾ (ق 19، 20). فآخر إحساس هو سكرة الموت ثم ينعدم الإحساس فى البرزخ ويبدأ الإحساس بنفخ الصورعند البعث.
وعند سكرة الموت يرى الميت ملائكة الموت، فإن كان خاسراً يصرخ طالباً فرصة ثانية ﴿حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ. لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون 99،100) فالخاسر عند الموت يطلب فرصة أخرى ليعمل صالحاً!!.
وقد يكون الميت خاسراً جداً حتى إن ملائكة الموت تضربه ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ (محمد 27). ﴿وَلَوْ تَرَىَ إِذْ يَتَوَفّى الّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (الأنفال 50).
إن ملائكة الموت تنذر العصاة بالعذاب الذى ينتظرهم، كما تبشر المتقين عند الموت وبعدها يدخل الميت البرزخ أو الموت ويستيقظ فى البعث وكأنه نام أو مات منذ يوم أو بعض يوم..
إن لحظات الاحتضار تشهد حواراً بين ملائكة الموت والميت، تبشره إن كان تقياً وتؤنبه وتؤذنه بالنار إن كان خاسراً، ومن أكثر الخاسرين أولئك الذين يكذبون على الله ورسوله، ولأنهم أعظم الظالمين يفترون على الله أكاذيب ما أنزل بها من سلطان كالشفاعات وغيرها فإنه يقال لهم نفس التأنيب عند الموت وعند البعث، ويقول تعالى يصف لحظاتهم الأخيرة فى الدنيا ولحظاتهم الأولى فى الآخرة ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوَاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوَاْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَتَرَكْتُمْ مّا خَوّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىَ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تّقَطّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلّ عَنكُم مّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ (الأنعام 93،94).
عند الموت تقول لهم الملائكة: ﴿أَخْرِجُوَاْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾.
وعند لقاء الله يوم القيامة يقال لهم ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَتَرَكْتُمْ مّا خَوّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىَ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تّقَطّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلّ عَنكُم مّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾.
وما بين الموت ولقاء الله تعالى برزخ لا إحساس فيه ولا حياة ﴿لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون 100). وحين البعث يقسمون أنهم ما لبثوا غير ساعة ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ (الروم 55).
ولأن البرزخ منطقة انعدام للإحساس فالقرآن تجاوزه أحياناً مكتفياً بالتأكيد على أفظع إحساس للإنسان (عند الموت) فى آخر حياته، وعند البعث.. وما بينهما يمر كأنه يوم أو بعض يوم..وذلك فى حد ذاته أكبر دليل على أنه لا وجود لما يعرف بعذاب القبر أو نعيمه أو حسابه.. أو الثعبان الأقرع.
وهذه هى القاعدة..
ولكن لها استثناءات محددة.. ذكرها القرآن، وهى القتلى فى سبيل الله وآل فرعون وقوم نوح..
القتلى فى سبيل الله:
الشهداء فى الآخرة- حسب مفهوم القرآن- هم الذين يشهدون على أقوامهم بتبليغ الحق ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىَ رَبّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَـَؤُلآءِ الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىَ رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ﴾ (هود 18). ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىَ هَـَؤُلاَءِ وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ﴾ (النحل 89). ويقول تعالى عن أولئك الشهداء يوم القيامة ﴿وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِـيءَ بِالنّبِيّيْنَ وَالشّهَدَآءِ﴾ (الزمر 69). أولئك هم الشهداء الذين يشهدون على قومهم..
أما الذين يموتون قتلاً فى سبيل الله فقد يكون منهم دعاة يشهدون على قومهم يوم القيامة وقد لا يكون. ولكن يذكر القرآن أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، ولأنهم استثناء فى موضوع البرزخ فالله تعالى ينهانا أن نقول عنهم أنهم موتى ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاّ تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة 154). هم أحياء لأنهم وهبوا حياتهم الدنيا لله تعالى فمنحهم الله تعالى حياة خالدة بعد الحياة الدنيا التى فقدوها ابتغاء مرضاة الله، ولأنه حياة فى مستوى آخر من الوجود لا نعرفه فالله تعالى يقول ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاّ تَشْعُرُونَ﴾ وإن كنا لا نشعر بهم فى حياتنا المادية البشرية فهم يشعرون بنا، ونعلم ذلك من قوله تعالى- وهو عالم الغيب والشهادة ﴿وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران 169،170).
فالله تعالى يؤكد على النهى بألا نحسبنهم أمواتاً بل أحياء عنده تعالى وهم يتمنون نفس النعيم لرفاقهم فى الحياة الدنيا، أى يشعرون بهم، ونظير ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن الرجل المؤمن فى قصة القرية المذكورة فى سورة (يس): ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنّةَ قَالَ يَلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ (يس 26،27).
وربما تكون تلك الجنة هى الجنة التى كان فيها آدم وزوجه.. وربما تكون جنة المأوى المذكورة سورة النجم.. الله تعالى أعلم.
ولكن المهم أنه لا صلة بين ذلك وموضوع القبر من النعيم والعذاب.. فأولئك (أحياء) وليسوا موتى، وهم (عند ربهم) وليسوا من سكان القبور، ولا يصح لعاقل أن يستشهد بذلك الاستثناء على إثبات خرافة ما أنزل الله بها من سلطان.
آل فرعون وقوم نوح:
الذى يفقد حياته قتلاً مضحياً بها فى سبيل الله تعالى يهبه الله حياة أبدية وقت البرزخ وفى الآخرة يعيش فى نعيم دائم.. وفى المقابل فهناك من عاش حياته الدنيا بأكملها يحارب الله تعالى ويضطهد النبى المرسل إليه حتى يفقد حياته فى سبيل الشيطان وذلك ما ينطبق على آل فرعون وقوم نوح فقط، ونقول فقط مع كثرة المكذبين الذين حاربوا الله ورسله لأن القرآن ذكرهم فى هذا الخصوص بالتحديد وذكر أيضاً أن المجرمين حين تقوم الساعة يقسمون ما لبثوا غير ساعة، إذن القاعدة العامة أن المجرمين يستيقظون عند البعث وقد مرت عليهم فترة البرزخ بدون إحساس أو شعور أو عذاب.. والاستثناء هو حالة آل فرعون وقوم نوح..
يقول تعالى عن قوم نوح ﴿مّمّا خَطِيَئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ أَنصَاراً﴾ (نوح 25). أى بسبب خطاياهم أغرقهم الله فأدخلهم النار مباشرة بعد الغرق. أى فى البرزخ..
وقد استمرت خطاياهم عصياناً مدته ألف سنة إلا خمسين عاماً رفضوا فيها دعوة نوح حتى قال نوح فى النهاية يائساً من هدايتهم ﴿وَقَالَ نُوحٌ رّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيّاراً. إِنّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوَاْ إِلاّ فَاجِراً كَفّاراً﴾ (نوح 26، 27).وأوحى الله تعالى الى نوح بمصير قومه المشركين ومجىء الطوفان الذى لن يبقى منهم أحدا. وأخذ نوح فى صنع السفينة وكبار المشركين يمرون به يسخرون منه ويرد عليهم نوح بما يدل على أن الله تعالى أوحى اليه بمصيرهم فى الموت بالطوفان والعذاب بعده فى البرزخ. يقول تعالى: وأوحى الى نوح أنه لن يؤمن من قومك الا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون.واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا انهم مغرقون. ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، قال ان تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم."هود36-39." أى ان نوح سيرد على سخرية المشركين به حين يأتيهم عذاب الخزى فى البرزخ وبعده العذاب المقيم المستمر فى يوم القيامة. نوعان من العذاب قال نوح لقومه انهم سيعلمون بأمرهما، اول نوع من العذاب هو فى البرزخ بعد الموت غرقا بالطوفان، وعنده سيرد نوح على سخريتهم بسخرية مماثلة تشعرهم بالخجل من أنفسهم. أما العذاب الاخر فهو مؤجل ليوم القيامة.
وأصبح كفار قوم نوح أئمة للكفار فى كل الأمم اللاحقة، ويأتى كل نبى يخوف قومه بمصيرهم.. وقصة الطوفان تحتل مكانتها فى كل تراث قديم للشعوب المنقرضة..
وكما كان قوم نوح أول الأمم التى أهلكها الله بالطوفان كان آل فرعون هم آخر من أهلكه الله بطوفان البحر الأحمر.. وقد سار فرعون وآله على نفس الطريق الذى سار عليه قوم نوح. رفضوا بإصرار كل الآيات التى جاء بها موسى وأخوه هارون، ووصل فساد فرعون إلى ادعاء الألوهية العظمى والربوبية العظمى ولم يسمح لموسى أن يهرب بقومه من استبداده، وقضى فرعون آخر أيامه فى مطاردة الفارين من ظلمه واستبداده، ووهب حياته حتى آخر لحظة للشيطان..
لذلك جعله الله وآله أئمة للكافرين الآتين بعده ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ﴾ (القصص 41). تماماً مثلما كان قوم نوح.. وقال تعالى أن المشركين اللاحقين ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ (آل عمران 11)، ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلّ كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ (الأنفال 54). أى يشبه بفرعون كل مشرك أتى بعده.
واختص الله فرعون وآله بعذاب فى البرزخ يكون مقدمة العذاب الأسوأ فى الآخرة ﴿فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ. النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ﴾ (غافر 45،46). اذن هنا أيضا نوعان من العذاب.الأول هناوصفه الله تعالى بأنه"سوء العذاب" والآخر هناك موصوف بأنه "أشد العذاب" .
فالقرآن فى قوله تعالى" فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب" يتحدث عن كيف أنجى الله تعالى مؤمن آل فرعون من مكر فرعون وآله، وتم ذلك باغراقهم فى البحر ودخولهم سوء العذاب فى البرزخ وليس عن القبر , والآية القرآنية تشير إلى عذاب فرعون في البرزخ إلى قيام الساعة حيث سيدخل بعدها الى نوع آخر من العذاب هو " أشد العذاب ", ولنا أن نتخيله فى البرزخ وهو يعانى فيه العذاب بينما يرى ما انعم الله تعالى به على المستضعفين من بنى إسرائيل ، وهكذا معنى قوله تعالى في قصة موسى وفرعون " إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم .. " إلى أن يقول الله تعالى عن بنى إسرائيل " ونمكن لهم في الأرض ، ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " القصص 4 : 6 .
فقد كان فرعون في طغيانه يضطهد بنى إسرائيل خشية منهم ، وحدث ما كان يحذر منه وتم تمكين الله تعالى لبنى إسرائيل بعد غرق فرعون مصداقاً لقوله تعالى " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم " إلى أن يقول تعالى عن بنى إسرائيل " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى إسرائيل بما صبروا ، ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون " الأعراف 136 : 137 إذن فالتدمير لما كان يصنع فرعون والتمكين لبنى إسرائيل حدث بعد غرق فرعون .. إذن فكيف يرى فرعون ذلك بعد غرقه ..؟ لأن فرعون وآله كانوا ولا يزالون في البرزخ يعيشون في عذاب إلى أن تقوم الساعة . ثم سيأتي أشد العذاب يوم القيامة بعد سوء العذاب فى البرزخ ، مصداقاً لقوله تعالى عنهم " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " غافر 46
ان عذاب فرعون ليس فى القبر ولكنه عذاب فى البرزخ لأن الخصوصية التالية لفرعون أن الله أنجى جسده وقال له عند الموت ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ (يونس 92). ولو كان هناك عذاب قبر كما يقول أشياع الثعبان لظل جسد فرعون فى القبر ينهشه الثعبان.. ولكن أمر الله بأن يظل جسد فرعون سليماً ليكون عبرة لمن بعده... والخصوصية الأخيرة لفرعون أنه يأتى إماماً لقومه يدخل النار بهم ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ. وَأُتْبِعُواْ فِي هَـَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾ (هود 98،99).
لقد كان فرعون وقومه أئمة الضلال.. لذلك كانت له خصوصيات فى العذاب ومنها عذاب البرزخ، يظل يعيش فيه معذباً إلى يوم القيامة، يمثل ما كانت خصوصيات قوم نوح تمنحهم دخول النار.. وفى المقابل فإن الذى يهب حياته الدنيا لرب العزة يهبه الله تعالى نعيماً أبدياً فى البرزخ والآخرة..
وفى النهاية هى استثناء للنعيم والعذاب فى البرزخ حيث لا نشعر وحي