ما أحوجَنا إلى استرجاعِ سِيرة نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - في زمَنٍ تناسَى الناسُ فضلَ الصحابة - رضي الله عنهم - بل كثُر الهجوم والطعْن على سادتنا الصحابة مِن لَدُن مَنْ لا دِينَ لهم ولا خَلاقَ، قال الإمام الطحاويُّ - رحمه الله - في "العقيدة الطحاوية": "حبُّهم دِينٌ وإيمان، وبُغضُهم كفرٌ وفسوق وطُغيان".
فما أحوجَنا ونحن نستقبل عامًا هجريًّا جديدًا أن نستحضرَ نماذجَ التضحية من سادتنا الصحابة الذين كانوا سندًا وعونًا لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الهِجرة النبويَّة الميمونة.
وأوَّل نموذج يلوح لنا هو نموذجُ الصِّدِّيق أبي بكر - رضي الله عنه - فعَنِ ابنِ عُمَر - رضي الله عنهما - قالَ: "كُنَّا نُخَيِّرُ بيْن النَّاسِ في زَمَنِ النَّبِيِّ (زمانِ رَسولِ الله) - صلَّى الله عليه وسلَّم - فنُخَيِّرُ أبا بكر، ثُمَّ عُمرَ بنَ الخطَّاب، ثُمَّ عُثْمانَ بنَ عَفَّانَ - رضي الله عنهم"؛ صحيح البخاري [الطبعة الهندية] - (1/1771).
الصِّدِّيق مُعتِق للعبيد:
ويَكفي أبا بكر - رضي الله عنه - شَرَفًا ما قدَّمه نُصرةً لدِين الله - عزَّ وجلَّ - من مال وعطاء وخِدْمة، فعندما كان أُميَّة بن خلَف - أحدُ صناديد الكفر - يُعذِّب بلالاً - رضي الله عنه - ويضَع الأحجار على بطنه؛ كي يكفرَ بالله، فكان بلالٌ يقول: أَحَدٌ أَحَد، فمرَّ به أبو بكر - رضي الله عنه - وبلال يُعذَّب، فاشتراه من أُمية الكافِر، وقال لبلال: أنتَ حُرٌّ لوجه الله، ففي الحديثِ عن يحيى بن سعيد قال: "ذَكَر عمرُ بن الخطاب فضلَ أبي بكر الصِّدِّيق، فجعَل يصف مناقبَه، ثم قال: وهذا سيِّدُنا بلال حَسَنةٌ من حسناتِ أبي بكر"؛ "كنز العمال" (35624)، "جامع الأحاديث" (27/239).
مكانة الصِّدِّيق عندَ النبي الكريم:
كانتْ لأبي بكر مكانةٌ عالية عندَ سيِّدنا رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث أثْنَى عليه كثيرًا؛ فعَن أبي الأحوص، عن عبدالله، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((ألاَ إني أبرأُ إلى كلِّ خليل مِن خُلَّته، ولو كنتُ مُتَّخِذًا خليلاً، لاتخذتُ أبا بكر خليلاً، إنَّ صاحبَكم خليلُ الله))، قال وكيع: يعني نفسه"؛ "سنن ابن ماجه" (1/70).
وأيضًا قدْ أثْنى النبيُّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - على جهادِ أبي بكر بالمالِ في سبيلِ الله؛ فعن أبي هُريرةَ، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((ما نَفَعني مالٌ قطُّ، ما نفَعَني مالُ أبي بكر))، قال: فبَكَى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي، إلا لكَ يا رسولَ الله؟! "سنن ابن ماجه" (1/70).
أبو بكر مِن أهل الدَّرَجات العالية في الجنة:
لقدْ بشَّر النبيُّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - بمكانةِ أبي بكر في الجَنَّة؛ فعنِ الحارث، عن عليٍّ، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((أبو بكر وعُمرُ سيِّدَا كهولِ أهل الجَنَّة، مِن الأوَّلين والآخِرين، إلا النبيِّين والمرسَلين، لا تُخبرهما يا عليُّ ما دامَا حيَّيْن))؛ "سنن ابن ماجه" (1/71).
وعن أبي سعيدٍ الخُدري، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ أهلَ الدرجات العُلَى يراهم مَن أسفل منهم، كما يُرَى الكوكبُ الطالع في الأُفق مِن آفاق السماء، وإنَّ أبا بكر وعُمرَ منهم وأنْعَمَا))؛ "سنن ابن ماجه" (1/72).
عن حُذَيفةَ بنِ اليمان، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((إنِّي لا أَدْري ما قَدْرُ بقائي فيكم، فاقْتدُوا باللَّذَيْن مِن بعدي، وأشار إلى أبي بكْرٍ وعُمر))؛ "سنن ابن ماجه" (1/ 73).
أبو بكر صاحب النبي في الهجرة:
أقام رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بمكَّةَ بعدَ أصحابه مِن المهاجرين ينتظر أن يُؤذَن له في الهِجرة ولم يتخلَّفْ معه بمكَّةَ أحدٌ مِن المهاجرين إلا مَن حُبِس أو فُتِن، إلا عليَّ بن أبي طالب، وأبا بكر بن أبي قُحافة الصِّدِّيق - رضي الله عنهما - "وكان أبو بكر كثيرًا ما يستأذن رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الهِجرةِ فيقول له رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: لا تَعجلْ لعلَّ الله يجعلُ لك صاحبًا"، فيَطمع أبو بكر أن يكونَ رسولُ الله صاحبَه في الهِجرة؛ ابن إسحاق بتصرُّف.
وكان أبو بكر - رضي الله عنه - رجلاً ذا مالٍ، فكان حين استأذن رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الهِجْرة قال له رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تعجلْ لعلَّ الله يجِد لك صاحبًا))، فطَمِع أبو بكر أن يكونَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنما يعني نفسَه حين قال له ذلك، فابْتاع راحلتَيْن فاحتبسهما في دارِه يَعْلِفهما؛ إعدادًا لذلك.
فعن عُروةَ بن الزُّبَير، عن عائشةَ أمِّ المؤمنين - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان لا يُخطئ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يأتي بيتَ أبي بكر أحَدَ طَرَفي النهار: إما بُكْرةً وإمَّا عَشِيَّة، حتى إذا كان اليومُ الذي أُذِن فيه لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الهجرة، والخروج من مَكَّة من بيْن ظهري قومِه، أتانا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالهاجرةِ في ساعةٍ كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه الساعةَ إلا لأمرٍ حدَث.
قالت: فلمَّا دخَل تأخَّر له أبو بكر عن سَريرِه، فجَلَس رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وليس عندَ أبي بكر إلا أنا وأُخْتي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أخْرِجْ عنِّي مَن عندَك))، فقال: يا رسولَ الله، إنَّما هما ابنتاي، وما ذاك - فِداك أبي وأمي؟ فقال: ((إنّ الله قدْ أذِن لي في الخروج والهِجرة))، قالت: فقال أبو بكر: الصُّحبةَ يا رسولَ الله، قال: ((الصحبةَ)).
قالت: فواللهِ ما شَعُرتُ قطُّ قبل ذلك اليوم أنَّ أحدًا يَبكي مِن الفرَح حتى رأيتُ أبا بكر يَبكي يومئذٍ، ثم قال: يا نبيَّ الله، إنَّ هاتين راحلتان، قد كنتُ أعددتهما لهذا، فاستأجَرَا عبدَالله بنَ أريقط - رجلاً مِن بني الدئل بن بكر، وكانتْ أمُّه امرأة مِن بني سهم بن عمرو، وكان مشرِكًا - يدلُّهما على الطريق، فدفعَا إليه راحلتيهما، فكانتَا عندَه يرعاهما لميعادِهما؛ "سيرة ابن إسحاق".
سِر الهجرة مع أبي بكر:
لقدْ كان أبو بكرٍ هو مَن يعلم سِرَّ الهجرة، وهو مَن قام بحماية الأمَّة الإسلامية ممثَّلة في شخصِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يعلمْ بخروجِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحد، حين خرَج إلا عليُّ بن أبي طالب، وأبو بكر الصِّدِّيق، وآل أبي بكر.
أمَّا عليٌّ فإنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخبَرَه بخُروجه، وأمرَه أن يتخلَّفَ بعدَه بمكَّةَ حتى يؤدِّي عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الودائعَ التي كانتْ عندَه للناس، وكان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليس بمكَّةَ أحدٌ عنده شيء يخشَى عليه إلا وضعَه عنده لما يَعْلمُ مِن صِدْقه وأمانته - صلَّى الله عليه وسلَّم؛ "ابن إسحاق" بتصرُّف.
ثاني اثنين إذ هما في الغار:
وعندَما أجْمع رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الخروج أتَى أبا بكر بنَ أبي قحافة، فخرجَا مِن خوخة لأبي بكر في ظهْر بيته، ثم عمدا إلى غار ثور - جبل بأسفل مكة - فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنَه عبدَالله بن أبي بكر أن يتسمَّعَ لهما ما يقول الناسُ فيهما نهارَه، ثم يأتيهما إذا أمْسَى بما يكون في ذلك اليومِ مِن الخبَر، وأمَر عامرَ بن فُهَيرة مولاه أن يَرْعَى غنمه نهارَه، ثم يريحها عليهما، يأتيهما إذا أمْسَى في الغار، وكانتْ أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام إذا أمسَتْ بما يُصلحُهما.
أبو بكر يغامر بنفسه ويطهر الغار:
فعنِ الحسنِ البصري قال: انتهى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر إلى الغار ليلاً، فدخَل أبو بكر - رضي الله عنه - قبلَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلَمَس الغار لينظرَ: أفيه سَبُعٌ أو حيَّة، يقي رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بنفسِه؛ "سيرة ابن هشام".
ها هو أبو بكرٍ - رضي الله عنه - دخَل الغار ولُدِغ وهو يُطهِّر الغارَ، ولما آلَمَه اللدغُ بكَى ونزَل دمعه على وجهِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو نائمٌ في حجرِه، فدَعا له النبيُّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبصَق في مكان اللدْغِ، فبَرَأ بإذن الله تعالى.
أوْرَد الفاكهيُّ ما نصُّه: "لَمْ يَدْخُلِ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الغارَ حتى دخلَه أبو بكر - رضي الله عنه - قبْلَه، فلمَسَه بيده، فقال: إنْ كانت فيه دابَّة تلدغني أحبُّ إليَّ مِن أن تَلْدغَ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يجد شيئًا، فدخَل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فدعَا شجرةً يقال لها: راة، فأقبلَتْ حتى قامَتْ على بابِ الغار، وأقبل رجلٌ منهم رافعًا ثوبه، فقال أبو بَكْرٍ - رضي الله عنه - لِلنَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ما تَراه يَرانا، فقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((لَوْ رَآنا ما اسْتَقْبَلَنا بفَرْجِه)) قال الرَّجُلُ: لَيْسَ ها هُنَا، فأنْزَلَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - ? إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ? [التوبة: 40] الآية، قالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - في الغارِ وظُلمتِه، وما لقِي سُراقة، إذ عرَض لهما في الطريق، إذ ساختْ به فرسُه في الأرض: