أبو بكر الصديق
نسبه:
هو عبدالله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب ابن لؤي القرشي التيمي أبو بكر الصديق بن أبي قحافة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه: أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر ابنة عم أبيه.
حياته:
ولد الصديق بعد الفيل بسنتين وستة أشهر، وصحب النبي قبل البعثة، وسبق إلى الإيمان به، واستمر معه طيلة حياته بمكة، ورافقه في الهجرة، وفي الغار، وفي المشاهد كلها، وكانت الراية معه يوم تبوك، وحج بالناس إماماً مكانه عندما اشتد وجع النبي في مرض موته، وأجمع المسلمون على خلافته وسموه خليفة رسول الله، واستمرت خلافته بعد الرسول صلى الله عليه وسلم سنتين وثلاثة أشهر تقريباً، ومات لثلاث وستين سنة رضي الله عنه وأرضاه.
بعض مآثره:
كان رضي الله عنه أعلم قريش بالأنساب، وكان رجلاً سهلاً محبوباً مؤلفاً لقومه، تاجراً ذا خلق ومعروف، وأخلص في صحبته للرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، وأسلم بمجرد أن عرض الرسول الإسلام عليه، فكان أول رجل يدخل الإسلام، وأسلم بدعوته رجال كثيرون منهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف.
وأسلم الصديق وهو من أغنى قريش، ومات ولم يترك ديناراً ولا درهماً، وإنما أنفق ماله كله في سبيل الله، اعتق سبعة أعبد كلهم يعذب في الله منهم بلال، وعامر بن فهيرة، ونذيرة، والنهدية، وجارية عمر بن المؤمل.
وكانت خلافته من أعظم بركات الله على الأمة، فقد اجتمعت الأمة عليه، وقضى على فتنة الردة، وادعاء النبوة، ووجه قوى المسلمين جميعاً نحو فارس والروم، فكان الفتح والنصر المبين، فرضي الله عنه ولعن شانئيه ومبغضيه.
فضائل الصديق أبي بكر رضي الله عنه تعالى
أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلاهم منزلة، وأكبرهم كرامة، وأعظمهم منة على المسلمين هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ونبدأ بشهادة الله سبحانه وتعالى له، ثم بشهادة النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، ثم بشهادة الأمة المعصومة التي لا تجتمع على ضلالة.
أ- شهادة الله لأبي بكر الصديق:
شهد الله سبحانه وتعالى للصديق أنه كان الصاحب الوحيد والناصر الوحيد لرسول الله بعد الله سبحانه وتعالى، فقد مدح الله نفسه في القرآن أنه نصر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأخرجه من بين ظهراني الكفار عندما أرادوا قتله، أو حبسه، أو طرده ونفيه واختاروا قتله أخيراً فأنجاه الله وأخرجه من بين ظهورهم آمناً معافى. قال تعالى: {وإذ يمكر الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} فكان من مكره سبحانه وتعالى بالكفار أن أخرج النبي محمداً مهاجراً من مكة إلى المدينة والكفار يحيطون به من كل جانب ولا ناصر له من الأصحاب والمسلمين إلا رجل واحد فقط، لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العصيب قال تعالى حاضاً المؤمنين على نصر رسوله: {الا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}. فأثبت الله هنا كرامة الصديق وأنه كان الناصر الوحيد لرسوله يوم عز الناصر، وقل النصير، وأنه أعني الصديق، كان حزيناً أن يبصر الكفار موقع الرسول صلى الله عليه ولسم فيضيع الدين فيبشره النبي بأن الله معهما يرعاهما ويكلأهما. ومعية الله هنا ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم، والصديق {لا تحزن إن الله معنا} وهذه شهادة من الرسول صلى الله عليه وسلم للصديق أقرها الله وأثبتها في كتابه الكريم، ناهيك أن أسرة الصديق كلها كانت في هذا اليوم العصيب في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم فأسماء بنت أبي بكر هي التي توصل الطعام لهما في الغار، وعبدالرحمن ابن الصديق هو الذي يغدو بسرحه عليهما ويتسمع لهما الأخبار ومال الصديق ورحائله هي التي حملت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والصديق هو المؤنس الوحيد بعد الله سبحانه وتعالى، وهذه منقبة ليست بعدها منقبة وكرامة كل كرامة هي دونها ولا شك، ويكفي هذه الكرامة أن الله أثبتها في كفاية وجعلها قرآناً يتلى إلى آخر الدنيا.
وأما شهادة الله الثابتة للصديق فهو قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى}.
قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "وقوله تعالى {وسيجنبها الأتقى} أي سيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى ثم فسره بقوله {الذي يؤتي ماله يتزكى} أي يصرف ماله في طاعة ربه ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} أي ليس بذله ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفاً فهو يعطي في مقابلة ذلك وإنما دفعه ذلك {ابتغاء وجه ربه الأعلى} أي طمعاً في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنات قال الله تعالى {ولسوف يرضى} أي ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات، وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها فإن لفظها لفظ العموم، وهو قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى} ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة فإنه كان صديقاً تقياً كريماً جواداً بذالاً لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل ولهذا قال له عروة بن مسعود وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وكان الصديق قد اغلظ له في المقال فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن عداهم؟
ولهذا قال تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى. ولسوف يرضى}. وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة يا عبدالله هذا خير]، فقال أبو بكر: يا رسول الله ما على من يدعي منها ضرورة فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: [نعم وأرجو أن تكون منهم ]" (ابن كثير ج4 ص521).
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في هذه الآيات: "وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله. بلال وعامر بن فهيرة، والنهدية وابنتها، وزنيرة، وأم عيسى، وأمة بني المؤمل، وفيه نزلت {وسيجنبها الأتقى} إلى آخر السورة، وأخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبدالله بن الزبير ما قدمناه عنه، وزاد فيه، فنزلت فيه هذه الآية: {فأما من أعطى واتقى} إلا قوله: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى} وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عنه نحو هذا من وجه آخر، وأخرج ابن مردويه ابن عباس في قوله: {وسيجنبها الأتقى} قال: هو أبو بكر الصديق" أ.هـ (تفسير فتح القدير ج5 ص455).
وحسبك بهذه شهادة من العلي الأعلى سبحانه وتعالى لهذا العبد الكريم الذي بذل ماله في سبيل الله لا يبتغي بذلك إلا وجه الله سبحانه وتعالى.
ومعنى (من ضرورة) التي جاءت في الحديث: أي لا ضرر على من دخل الجنة وإن لم يدع إلا من باب واحد ما دام قد دخلها، ولكن هل لأحد من كرامة عند الله حتى يدعى من جميع الأبواب ثم يدخل من أي باب يشاء فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن نعم يا أبا بكر وأرجو أن تكون منهم، ورجاء النبي حق حتم لا شك فيه.
أبو بكر أسبق الصحابة إسلاماً:
قال البخاري: حدثنا أحمد بن أبي الطيب حدثنا إسماعيل بن مخالد، حدثنا بيان ابن بشر عن وبرة بن عبدالرحمن بن همام، قال سمعت عماراً يقول، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر.
هذه شهادة من عمار بن ياسر رضي الله عنه – أن الصديق كان الرجل الحر الوحيد مع الرسول صلى الله عليه وسلم. وأسلم في أول الإسلام. ولا شك أن علي بن أبي طالب كان مؤمناً وقتئذ ولكنه كان غلاماً صغيراً في ذلك الوقت.
أبو بكر يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
عن عروة بن الزبير قال: سألت عبدالله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: [أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم]. (رواه الإمام البخاري).
وفي هذا الحديث من الفوائد ما يلي:
1) شجاعة الصديق وإنه كان يتصدى لمجرمي قريش وعتاتها ممن يؤذون رسول وهذا أحدهم عقبة بن أبي معيط الذي خنق الرسول صلى الله عليه وسلم بردائه، فما رده إلا الصديق رضي الله عنه.
2) تمثل الصديق بالقرآن في دفاعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم: [أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله] والمعنى يا أيها المشركون هل تقتلون الرسول الذي ليس له ذنب معكم إلا أن يعلن أن الله ربه سبحانه وتعالى. وقد جاءكم بالبيان على ذلك من ربكم الذي خلقكم.
أبو بكر يعتني بالنبي صلى الله عليه وسلم في الغار وفي طريق الهجرة:
قال الإمام البخاري: حدثنا عبدالله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلاً بثلاثة عشر درهماً، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمل إليّ رحلي، فقال عازب: لا حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم؟ قال ارتحلنا من مكة، فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوى إليه فإذا صخرة أتيتها، فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قلت له اضجع يا نبي الله، فاضجع النبي صلى الله عليه وسلم ثم انطلقت انظر ما حولي هل أرى من الطلب أحداً؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فسألته فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من قريش سماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت فهل أنت حالب لبناً؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى فحلب لي كثبة من لبن وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ، فقلت اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت ثم قلت قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال [بلى]، فارتحلنا والقوم يطلبونا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: [لا تحزن إن الله معنا]. (رواه البخاري).
وفي هذا الحديث فوائد عظيمة منها:
1) اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وحده دون سائر الصحابة ليصحبه في رحلة الهجرة وهي أخطر رحلة، وأعظم بلاء يتعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد عزمت قريش على قتله، بعد مشورة وتآمر طويل وشرعت فعلاً في التنفيذ وكانت الهجرة ليلة التنفيذ لمؤامرتها المجرمة. واختيار الرسول لأبي بكر في هذا الموقف واعتماده بعد الله عليه دلالة عظيمة على أنه كان أعظم الصحابة إيماناً ورجولة وقدراً وتحملاً للمصاعب ووقوفاً في وجه الشدائد، وكتماناً لسر الرسول ومحافظة على النبي.
2) ظهر من الحديث إشفاق أبي بكر على الرسول وحدبه عليه وسعيه من أجل الحفاظ عليه بكل سبيل بل سعيه وحده من أجل راحته.
3) هلاك من هلك في الصديق من الرافضة المجوسية الذين زعموا أن أبا بكر لم يصحب الرسول إلا ليطلع على عوراته، ويفشي أسراره للكفار!! وهذا يدل على كفرهم ومروقهم من الدين، وطعنهم في سيد المرسلين الذي اتهموه أنه لم يكن يعلم حقيقة أخلص أصحابه وأصدقائه. وأنهم كانوا يضمرون له الشر والرسول لا يدري، فلعنة الله عليهم لكفرهم بالله ورسالته، وطعنهم في أشرف خلقه وعباده، وأخلص أصحاب الرسول وأعظمهم منزلة.