تأملوا كيف حال الشيعة الصفويون والأئمة الزيديون
دون تنفيذ خطة العثمانيين لاستعادة الأندلس؟!
في أعقاب الفتح العثماني لشمال أفريقيا، وبعد أن أصبحت الجزائر ولاية تابعة لدولة الخلافة العثمانية، عادت إلى الذاكرة خطة خير الدين بربروس، القائد البحري المسلم الشهير، الذي توفي في (5 من جمادى الأولى 953 هـ = 4 من يوليو 1546م)، والذي اعتبر أن السيطرة على تونس، شرط لا بد منه، لأي حرب مظفرة في الغرب، والعمل على إعادة فتح الأندلس من جديد، وإعادتها إلى الحظيرة الإسلامية، وكانت تونس ذات أهمية كبيرة لموقعها المتوسط في السيطرة على الملاحة في حوض البحر المتوسط، وكانت حينذاك تحت سيطرة الإمبراطورية الأسبانية.وكانت هذه هي خطة السلطان سليمان القانوني، لا ستعادة الأندلس.
وفي (13 من صفر 974 هـ/ 7 من سبتمبر 1566م)، وبينما كانت خطة استعادة الأندلس مطروحة على طاولة البحث، توفي هذا السلطان عن عمر تجاوز الـ71 عاما بعد فترة من الحكم دامت أكثر من 46 عاما، حافلة بالانجازات والفتوحات في الشرق والغرب. وخلفه في الحكم ابنه "سليم الثاني" والذي لم يكن على مستوى أبيه من القوة والحزم والهيبة، والتفكير الاستراتيجي.
وعندما تولى هذا السلطان الجديد، كان هناك خطران ماثلان أمام دولة الخلافة العثمانية:
الخطر الصليبي ممثلا في الأسبان والبرتغاليين والبابوية، والذين كانت أساطيلهم تقوم بحملات ضارية على سواحل شمال أفريقية، بهدف السيطرة عليها واحتلالها بعد طرد المسلمين من الأندلس عام 1492م.
والخطر الصفوي الشيعي : الذي كانت تمثله الدولة الصفوية في إيران. وذلك أنه رغم هزيمتهم الصاعقة في جالديران على يد السلطان سليم الأول، ورغم الحملات العسكرية الأربع التي شنها السلطان سليمان القانوني على الدولة الصفوية، إلا أن تلك الحملات لم تفلح في القضاء على هذا الخطر، وإنما أفلحت فقط في تحجيمه. وهكذا كل مرض عضال يصعب استئصاله بعد أن يستفحل.
وإزاء ذلك انقسم السياسيون والقادة العسكريون في بلاط السلطان العثماني ( سليم الثاني )، إلى فريقين: الفريق الأول: وهو الذي كان يمثله الصقور بزعامة الوزير الأكبر محمد سوقولّو ، وهؤلاء كانوا يرون إمكانية تأجيل الحرب مع الدولة الصفوية في الشرق، ويصرون على تركيز الجهود في الغرب والشروع في القتال بأسرع ما يمكن، ضد الطغاة الأسبان، وإعادة الأندلس من جديد لحظيرة الإسلام، والتحالف مع جميع الحركات المناهضة للكاثوليكية في أوروبا، واحترام البلدان التي تنتهج سياسة حذرة، لاسيما البندقية.
أما خصومه – وهم الفريق الثاني - فاعتبروا أن الإمبراطورية الاسبانية بزعامة فيليب الثاني، هي عدو قوي جدا، وقادرة على تعريض الدولة العثمانية لخطر حرب كبيرة في الغرب، قد تستنزف إمكانياتها، وبصورة قد تعرضها لتهديد كبير في المركز ، على يد الدولة الصفوية، حليفة الأسبان والغرب الصليبي. ولذلك رأى هذا الفريق، والذي تزعمه السلطان العثماني سليم الثاني نفسه، ضرورة التخلص أولا من الخطر الصفوي الشيعي القريب، لا سيما مع تمدده ووصوله إلى اليمن، حيث برز الأئمة الزيديون في معاقلهم الجبلية، كعدو لدود شرس، لدولة الخلافة العثمانية، وصار خطرهم يتزايد يوما بعد يوم، ليس على الوجود العثماني في شمال اليمن فحسب، وإنما أيضا على ميناء عدن، القاعدة العثمانية الإستراتيجية لمواجهة المد الأوروبي الصليبي في البحر العربي والمحيط الهندي وشرق أفريقيا، ولحماية الحرمين الشريفين، هذان الأخيران اللذان كان يتطلع الأئمة الزيديون للزحف عليهما برا .
وينظر بعض المؤرخين لهؤلاء على أنهم كانوا يعملون في إطار تحالف ضمني غير مكتوب مع الدولة الصفوية الشيعية، وفي إطار تفاهم صامت مع البرتغاليين، لأن البرتغاليين توقفوا عن اعتبار الأئمة الزيديين وأتباعهم أعداء، كبقية المسلمين.
ولذلك رأى هؤلاء أنه من غير الممكن تركيز الجهود لإعادة فتح أسبانيا، طالما، وهذا الداء العضال موجود في خاصرة الدولة العثمانية. وطالما هناك خطر قائم على الحرمين الشريفين. وقد كان طبيعيا أن ينتصر الفريق الذي تزعمه السلطان، وهو الفريق الثاني.
ولكن برغم تركيز العثمانيين جهودهم، للتخلص من الخطر الشيعي، فلم يتخلوا عن حلفائهم الغربيين، وظلوا يقدمون المساعدات السرية للحركات البروتستانتية المناوئة للكاثوليكية في غرب أوروبا، ويزودون بالأسلحة " جيش الانتفاضة " الذي كان يجري الإعداد له في غرناطة. وكان سليم الثاني في " فرماناته العلية" (نامة هامايون) إلى أعيان الشعب الأندلسي وإلى " بكوات فلاندرة وغيرها من الولايات الأسبانية " يدعوهم بإلحاح لتدعيم " التحالف الإسلامي اللوثري" وتنسيق خططهم والتعاون في تنظيم هجوم عام على " البابوية".
وفي مارس عام 1568 قام الوزير الأكبر محمد سوقولو، بتعيين علج علي، بكلر بك طرابلس السابق (1565-1568 )، والعدو الأول للبابوية ولطبقة النبلاء الكاثوليك، بكلر بك على الجزائر، وأمره بالاستعداد للهجوم على شبه الجزيرة الأيبيرية ( الأندلس)، فبدأ علج علي بتكديس احتياطي المواد الغذائية، والأسلحة والذخائر الحربية في منطقة مستغانم – وهران، ودوت صيحة الجهاد في أرجاء الجزائر كلها، وتدفق المتطوعون للقتال من أجل استعادة الأندلس، من كل حدب وصوب. وفي غضون مدة يسيرة، تم حشد قرابة 14 ألفا من الرماة الفرسان، و 60 ألفا من المجاهدين المحليين، وعددا كبيرا من المدفعية، وكميات ضخمة من البارود.
في غضون ذلك كان الأعداد للثورة الشاملة في أوساط الموريسكيين ( المسلمين )، في الأندلس وخاصة في غرناطة وجبال البشرات جاريا على قدم وساق بعد أن كانت مأساتهم قد وصلت إلى ذروتها تحت نير محاكم التفتيش الكنسية، سيئة الصيت والحكم الأسباني الكاثوليكي. وكان الوالي العثماني في الجزائر، القائد البحري الشهير علج علي، وبقية المجاهدين المتطوعين المتأهبين يترقبون الشرارة الأولى لتلك الثورة، لكي يعبروا إلى الأندلس، لدعمها، والقتال إلى جانب إخوانهم هناك، بعد تأمين أماكن لإنزالهم على سواحل الأندلس.
وفي ليلة عيد الميلاد، ديسمبر1568، نشبت الثورة الموريسكية في غرناطة، واضطرمت في أنحاء منطقة البشرّات، ووثبت الجموع المسلحة من الموريسكيين الثوار على الحاميات الأسبانية وعلى النصارى القاطنين بين أظهرهم ففتكوا بهم ومزقوهم شر ممزق، وصبوا جام غضبهم بصفة خاصة على القسس ورجال الكنيسة، لكونهم سبب بلائهم ومصائبهم.
وما لبث أن عم لهيب الثورة معظم أنحاء الأندلس، ودوت بصيحة الحرب القديمة، وأعلن الموريسكيون استقلالهم، بزعامة الأمير محمد بن أمية، واستعدوا لخوض معركة الحياة والموت، مع الإمبراطورية الاسبانية، أقوى إمبراطورية في العالم في ذلك الوقت. وما أن اندلعت الثورة حتى سارع علج علي بكلر بك ( والي ) الجزائر لتأييدها، وأرسل إلى مرفأ ألمرية في الأندلس، أربعين مركبا محملا بالسلاح والمتطوعين. لكنها للأسف الشديد، لم تتمكن من الوصول إلى الشاطئ بسبب العواصف الشتوية. وفي يناير 1569، كرر المحاولة، ففشلت للمرة الثانية. وأدت العاصفة إلى فقدان 32 مركبا، ولم تتمكن إلا ستة من مراكب علج علي من الاقتراب وتفريغ ما على ظهرها إلى الشاطئ من مدفعية، وبارود مع مجموعات صغيرة من المقاتلين. وبلغ مجموع من استطاع إرسالهم إلى أسبانيا إبّان تلك الثورة، قرابة أربعة آلاف مقاتل بمن فيهم بضع مئات من العثمانيين من إنكشاريته القدامى الذين عملوا عند الموريسكيين بصفتهم مدربيين عسكريين أو " قباطنة"، وبقي هذا الوالي العثماني المتحمس لاستعادة الأندلس، يترقب وصول الأسطول العثماني، والمدد من اسطنبول لكي يباشر بنفسه قيادة الحرب في الأندلس.
أما في مدريد عاصمة الإمبراطورية الإسبانية، فقد سادت أجواء الذعر الشديد من إمكانية وصول القوات النظامية لجيش العثمانيين وأسطولهم.
ففي أكتوبر 1569، وأثناء حوار مع الرسول البابوي، أعلن المسئولون الأسبان أنه إذا حصل تدخل من جانب العثمانيين، فإن إسبانيا قد تسقط في أيدي المسلمين. لذلك فقد سارعت السلطات الإسبانية بإرسال أفضل وحدات الجيش الإسباني المدجج بأقوى ترسانة أسلحة في العالم في ذلك الوقت، بقيادة دون خوان النمساوي، ( 1547-1578 )، لقمع الانتفاضة. كان القائد أخيرا أسبانيا شابا وقائدا عسكريا اتسم بالشجاعة والذكاء، وكان أيضا من أبناء عم الملك. وطُلب إليه أن يخمد الانتفاضة بأسرع ما يمكن. قبل أن يتمكن السلطان سليم الثاني العثماني من تجميع قواته التي كانت منتشرة آنذاك في البلقان وشرق أوروبا وآسيا الوسطى ..وقام هذا القائد بأعظم حرب إبادة في التاريخ ضد الموريسكيين المدنيين العزل، ودك مدنهم وسفك دماء عشرات الألوف من الأطفال والنساء، والشيوخ، لكي يجبر المجاهدين على الاستسلام .. قُبيل شهر مايو 1570، تمكن دون خوان النمساوي من القضاء على قوات المجاهدين الرئيسية. وفي 20 مايو استسلم " الرئيس الأعلى " للمسلمين الأسبان، وقبل 15 يونيو كان ثلاثون ألفا منهم قد القوا سلاحهم، بعد المجازر الرهيبة التي لحقت بأهلهم وسمح للعثمانيين و " المغاربة " القادمين من أفريقيا بالعودة للجزائر. وأما النجدة العثمانية المرتقب، وصولها إلى الأندلس فلم تصل أبدا . صحيح أن السلطان العثماني سحب جيشين من جيوشه الكبيرة من منطقة البلقان . ولكنه لم يوجه أي منهما للأندلس . وإنما وجده أحدهما سنة 1569 للتصدي للثورة الزيدية التي نشبت ضد العثمانيين ( السنة ) في جبال اليمن .. ووجه الجيش الآخر للاستيلاء على استراخان وقازان. وهكذا تورط العثمانيون في حرب الشرق إبان أدق ظروف الانتفاضة المعادية للأسبان في الغرب، وركزوا جهودهم للتصدي للخطر الشيعي سواء في إيران أو اليمن ..وترك الموريسيكون لوحدهم يقارعون إمبراطورية الأسبان التي لم تكن تغيب عنها الشمس يومئذ..
وفي عام 1570 اندلعت الحرب بين العثمانيين وجمهورية البندقية بسبب قيرص. لذلك أصيب محمد سوقولو وقيادة الغزاة العليا في شمال أفريقيا بخيبة أمل كبيرة، فقد كانوا ضد الحرب مع البندقية.. وأصر الأندلسيون والجزائريون وغيرهم من الشخصيات المحيطة بعلج علي عن بدء العمليات العسكرية بأسرع ما يمكن ضد أسبانيا. غير أن حريق البندقية وانتصار دون خوان النمساوي، دفعا البكلر بك إلى تغيير خططه. وفي شهر أكتوبر 1569 شرع البكلر بك علج علي على مسئوليته بالهجوم على تونس. وكان هدفه إرضاء المشاعر المعادية للإسبان، في الجزائر، والرغبة بإثارة صدام بين السلطان سليم الثاني وفيليب الثاني الأسباني. وقد انتهت هذه الحملة المظفرة بتحرير تونس وطرد الأسبان منها وضمها لدولة الخلافة العثمانية..