بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم،
أما بعد:
هناك نصوص يتشبث بها القائلون بعدم وقوع الشرك في هذه الأمة، ومن أشهر هذه النصوص التي يستدلون بها ما يلي:
1- قوله : « والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها ... »( ) .
وجه الاستدلال : أن الرسول ما خاف علينا الشرك فكيف يقع الشرك في هذه الأمة؟( )
ويجاب عن هذه الشبهة بما أجاب به الحافظ ابن حجر في «الفتح»، حيث قال في شرح الحديث:
أ - (أي على مجموعكم، لأن ذلك قد وقع من البعض، أعاذنا الله تعالى منها)( ).
ب - أو يقال: إنه في الصحابة خاصة، لأن الرسول قال: «عليكم».
قال الحافظ في «الفتح»: (فيه إنذار بما سيقع فوقع كما قال ...وأن
الصحابة لا يشركون بعده، فكان كذلك، ووقع ما أنذر به من التنافس
في الدنيا)( ).
جـ - أو يقال: (لعل النبي قال ذلك قبل أن يعلم ويوحى إليه بأن طوائف من الأمة سوف يضلون ويشركون)( ).
ومن هذه الشبه أيضاً:
2 - قوله : «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب»( ).
وجه الاستدلال: (إن هذه البلاد بفضل الله طاهرة من كل رجس سالمة من كل شرك بإخبار رسول الله )( ).
يجاب عن هذه الشبهة: بأن هذا الفهم الذي ذكره هذا المفتون لم يفهمه المحدّثون ولا السابقون الأولون، بل المعنى الذي فهموا منه هو النهي عن التمكين لدينين أن يجتمعا في جزيرة العرب، وليس المقصود به نفيه، ولا نفي وجوده عن النبي ؛ إذ كيف يمكن حمله على النفي وقد كان هناك أديان - لا دينان فقط - عند موت النبي وحتى في صدر الخلافة الراشدة في جزيرة العرب.
ثانياً: لو حملنا الحديث المنسوب إلى النبي بهذا اللفظ على النفي لكنّا قد كذبنا الواقع؛ فإن جزيرة العرب في تحديدهم (جنوباً وشمالاً: من عدن إلى ديار بكر، وشرقاً وغرباً: من العراق إلى مصر، فتدخل فيها اليمن، والحجاز، ونجد، والعراق، والشام، ومصر)( )، فإن قلنا بحمل الحديث على النفي فإننا قد فتحنا لغير المسلمين باباً للضحك على عقولنا في رد الأحاديث، بدلالة كذب الواقع له، فإن في هذه الديار المذكورة كم من الأديان، وكم من الكنائس أيضاً، وهي ما زالت معمورة من أول الإسلام حتى عصرنا الحاضر.
ثالثاً: أن ما ذكره هذا الضال من الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطأ( )، وما ورد أيضاً بلفظ: «لا يبقين دينان بأرض العرب»( )، وما رواه الإمام أحمد في المسند بلفظ: «لا يترك بجزيرة العرب دينان»( )، كل هذه الأحاديث إنما جاءت في سياق رواية وصية النبي وآخر عهده في حياته، وهي تدل صراحة على أن المراد بالحديث إنما هو النهي لا النفي كما فهمه هذا المفتون.
رابعاً: أن جميع من روى هذا الحديث من أصحاب الحديث كلهم ذكروه بعبارات تدل على أن المراد هو النهي، لا النفي، فمن هذه الروايات ما يلي:
1 - عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب... »( ).
2 - عن عمر قال: «لئن عشت - إن شاء الله - لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب»( ).
وهناك روايات صريحة تدل على أن هذا إنما هو أمر النبي ، منها:
عن ابن عباس: في حديث طويل قال : «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»( ).
وبعد هذه الروايات الواضحة لا يقول بحمل الحديث على النفي إلا الغبي الجاهل الذي ليس له إي مشاركة في هذا العلم الشريف. والله أعلم.
ومما اشتبه عليهم أيضاً:
3 - قوله : «إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرتكم - جزيرة العرب-» ( )هكذا ذكره بعضهم ( )، وقال آخر( ):
قوله : «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن
في التحريش بينهم»( ).
وقوله فيما رواه ابن مسعود - -: «إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأًًًًًًصنام بأرض العرب، ولكن رضي منهم بما دون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات»( ).
وجه الدلالة: (أن الرسول أخبر أن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، وفي حديث ابن مسعود: أيس الشيطان أن تعبد الأصنام بأرض العرب، وهذا بخلاف مذهبكم؛ فإن البصرة ومن حولها والعراق من دون دجلة الموضع فيه قبر علي وقبر الحسين - رضي الله عنهما - كذلك اليمن كلها والحجاز كل ذلك من أرض العرب، ومذهبكم أن هذه المواضع كلها عبد الشيطان فيها، وعبدت الأصنام، وكلهم كفار، وهذه الأحاديث ترد مذهبكم)( ).
ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
أولاً: أن الرواية الأولى لم أجدها في كتب الحديث بهذا اللفظ، وأقرب ما وجدت مما يوافق هذه الرواية ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: « أيها الناس! إن الشيطان قد أيِس أن يعبد في بلدكم هذا آخر الزمان، وقد رضي منكم بمحقرات الأعمال، فاحذروه على دينكم) الحديث( ).
والحديث ضعيف، فلا احتجاج فيه.
أما الرواية الثانية: فهي ثابتة( )، ولكن هل الأحاديث الصحيحة تتناقض مع بعضٍ؟ كلا، بل لابد أن يكون لكل واحدٍ منها محمل غير ما للآخر، فالحديث الذي نحن بصدده يخالف ظاهراً - لدى البعض - الأحاديث الثابتة الصحيحة التي فيها خوف الرسول وتحذيره من وقوع ألوان من الشرك في هذه الأمة، والعلماء قد ذكروا لهذا الحديث عدة احتمالات، ففما قالوا فيه:
1 - إن الشيطان أيس بنفسه - ولم ييأس - لما رأى عز الإسلام في حياة النبي وإقبال القبائل على الدخول في هذا الدين الذي أكرمهم الله به، فلما رأى ذلك يئس من أن يرجعوا إلى دين الشيطان، وأن يعبدوا الشيطان أي: يتخذوه مطاعاً.
وهذا كما أخبر الله عن الذين كفروا في قوله: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [المائدة: 3]، فهم يئسوا أن يراجع المسلمون مع عليه المشركون من الدين الباطل القائم على اتخاذ الأنداد مع الله، وصرف العبودية إلى أشياء مع الله أو دونه.
فكما أن المشركين لما رأوا تمسك المسلمين بدينهم يئسوا من مراجعتهم، هكذا الشيطان يئس لما رأى عز المسلمين ودخولهم في الدين في أكثر نواحي جزيرة العرب.
والشيطان - لعنه الله - لا يعلم الغيب، ولا يعلم أنه ستحين فرص يصد الناس بها عن الإسلام والتوحيد، وكانت أول أموره في صرف الناس لعبادته بعد موت النبي ، حيث أطاعه أقوام وقبائل فارتدت عن الإسلام إمّا بمنع الزكاة، أو بإتباع مدعي النبوة، فنشط وكانت له جولة وصولة، ثم كبته الله.
والمقصود: أن الشيطان ييأس إذا رأى التمسك بالتوحيد والإقرار به والتزامه، وإتباع الرسول ، وهو حريص على أن يصد الناس عن هذا، ولذا تمكن من هذا في فترات مختلفةٍ، فعبده القرامطة عبادة طاعة وهم في الجزيرة، وأفسدوا ما أفسدوا، وعبده من بعدهم مما يعرفه أولو البصيرة( )( ).
فالقول بأن الشرك منتفٍ عن هذه الأمة مخالف للواقع، كما أنه مخالف للفهم الصحيح لنصوص الشرع.
2- أو يقال: إن نبينا فصل ما بين الشرك والتوحيد وبينه أتم بيان، وترك الدين على بيضاء ليلها كنهارها، وهذه البيضاء هي مضمون لا إله إلا الله، وهي إفراد الله بالعبادة، وخلع الأنداد، والكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة من الشرك وأهله، كما فسرها أهل العلم رحمهم الله، فإذا علم هذا يقيناً فمحال أن يكون الشرك بصورته التي نهى الله عنها موجوداً في بلادٍ كثيرة، ويحكم عليها بالشرك ويوجد في الجزيرة بصورته ولا يحكم عليها بالشرك. وهذا من التلاعب والهوى الصارخ( ).
3 - وقال ابن رجب في شرح الحديث: إنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر الأكبر( ).
وأشار ابن كثير إلى هذا المعنى عند تفسيره قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [المائدة: 3] حيث قال: (قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني يئسوا أن تراجعوا دينكم)( ).
4 - ولا يبعد أن يقال: (مراد النبي بقوله: «إن الشيطان...» أن الشيطان لا يطمع أن يعبده المؤمنون في جزيرة العرب، وهم المصدقون بما جاء به الرسول من عند ربه المذعنون له، والممتثلون لأوامره، ولا شك أن من كان على هذه الصفة فهو على بصيرة ونور من ربه، فلا يطمع الشيطان أن يعبده... ووجود مثل هذا في جزيرة العرب لا ينافي الحديث الصحيح كما لا يخفى على من له قلب سليم وعقل راجح، وإطلاق لفظ
المصلين على المؤمنين كثير في كلام العارفين.
5 - ويحتمل أن يراد بالمصلين أناس معلومون بناء على أن تكون (أل) للعهد وأن يراد بهم الكاملون فيها...وهم خير القرون، يؤيد ذلك قول النبي - في آخر الحديث - «ولكن في التحريش بينهم». يقول الطيي: لعل المصطفى أخبر بما يكون بعده من التحريش الواقع بين صحبه رضوان الله عليهم أجمعين، أي أيس أن يعبد فيها، ولكن يطمع في التحريش... والدليل متى طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال)( ).
6 - أو يقال: كما أن الرسول قد أخبر بوقوع الشرك وحدوثه في هذه الأمة، ووقع، وحصل هذا الإخبار بما هو مشاهد عياناً، ولا ينكره إلا من أعمى الله بصره وطمس بصيرته. هكذا أخبر الرسول في هذا الحديث أناساً معلومين بأن الشيطان لا يسلط عليهم، وهم الذين قال عنهم الرسول عليه الصلاة والسلام: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق، منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله».
7 - أو يقال: إن الحديث يقول: إن الشيطان أيس أن يعبد. وظاهر لفظه: أنه أيس من أن يعبد هو نفسه، لا من يعبد غيره من المخلوقات كالأنبياء والملائكة والصالحين والأشجار والأحجار، والقبور. فإن الشيطان إن أطيع في عبادة بعض المخلوقات، وقد تضاف إليه هذه العبادة ولكنها إضافة غير حقيقية، والعلاقة في الإضافة كونه هو الآمر بها، وحقيقة عبادة الشيطان نفسه: أن توجه إليه العبادة كفاحاً مباشرة.
8 - أو يقال: المراد أن الشيطان قد أيس أن يعبد أو تعبد الأصنام في
بلاد العرب في كل وقت وزمان، فهذا لن يكون إن شاء الله، وقد يشهد
لهذا لفظة (أبداً)( ) المذكور في الرواية الأخرى( ).
وعلى كل حال: لا يمكن أن يدعي أنه لن يعبد غير الله في بلاد العرب في وقت من الأوقات، فإن هذا باطل كاذب بالإجماع والضرورة والنصوص المتواترة.
ومما يستدل به القبوريون في هذا الباب:
4 - قوله : «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولا يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة، أو يأتي أمر الله تعالى... »( ).
وجه الاستدلال: (أن النبي أخبر أن أمر هذه الأمة لا يزال مستقيماً إلى آخر الدهر، ومعلوم أن هذه الأمور..التي تكفرون بها، مازالت قديماً ظاهرة ملأت البلاد، فلو كانت هي الأصنام الكبرى، ومن فعل شيئاً من تلك الأفاعيل عابد الأوثان، لم يكن أمر هذه الأمة مستقيماً، بل منعكساً...)( ).
يجاب عن هذه الشبهة: بأن هذه الشبهة ناتجة عن قصور باعه في علم الحديث. فإن الأحاديث تأتي بروايات مختلفة بعضها يفسر البعض الآخر، فالذي ذكره جاء بعدة روايات، حتى إنه جاء في «صحيح البخاري» في خمسة مواضع عن معاوية .
وقد جاء في كتاب العلم بلفظ: «ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»( )، وفي كتاب الاعتصام بلفظ: «ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون»( ).
وجاء في كتاب المناقب بلفظ: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله»( ).
كما جاء في كتاب الاعتصام بلفظ: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون( ).
وفي كتاب التوحيد: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ...»( ).
والحديث جاء عند مسلم بلفظ: «لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون»( ).
والمقصود: أن الروايات المطلقة في بعض الأحاديث تحمل على الروايات المقيدة، فإن من قواعد أصول الفقه حمل المطلق على المقيد إذا اتحد المحل والحكم( )، وهنا هكذا، لهذا قال الحافظ ابن حجر عند شرح الحديث: (أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبداً)( ). ولا شك أن هؤلاء البعض هم المحدثون ومتبعو الآثار لا غيرهم من القبوريين كما نص عليه السلف.
ومما يتشبث به القبوريون في هذه الباب:
5 - عن عائشة قالت: قال النبي : «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» فقالت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] إن ذلك تام، قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم» ( ).
وقال النبي : «لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق...حتى يقاتل آخرهم المسيح»( ).
وقال النبي : «لن يبرح هذا الدين قائماً عليه عصابة المسلمين حتى تقوم الساعة»( ).
وقال رسول الله : «لا يزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك»، فقال عبد الله بن عمرو: «أجل، ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسها مس الحرير، لا تترك إنساناً في قلبه مثقال حبةٍ من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة»( ).
وجه الاستدلال: (في هذه الأحاديث الصحيحة أبين دلالة على بطلان مذهبكم؛ وهي أن جميع هذه الأحاديث مصرحة بأن الأصنام لا تعبد في هذه الأمة إلا بعد انخرام أنفس جميع المؤمنين آخر الدهر)( ).
ويجاب عن هذه الشبهة من عدة أوجهٍ:
أولاً: مراد النبي في هذا الحديث بيان وقت ظهور الشرك بصفة عامة بحيث يطغى على التوحيد ويسيطر على حاملي لواء التوحيد ويستأصلهم، فذكر: أن هذا يحدث في أواخر أيام الدنيا، قبل انعقاد القيامة الكبرى، وبعد خروج الريح القابضة لأنفس جميع المؤمنين حتى لا تبقى هذه الطائفة المنصورة والناجية على ظهر الأرض( ). والذي يدل عليه فهم الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو حيث إنه عقب على قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تزال عصابة... الحديث» بقوله: (أجل، ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك...) إلخ.
فهذا الحديث إنما يبين التحديد الزمني لفشو الشرك في هذه الأمة حتى لا يبقى في ظهر الأرض إلا مشرك، وليس المراد منه عدم وقوع الشرك في هذه الأمة كما ظنه بعض مدعي العلم والمعرفة، وإلا يكون هذا الفهم مخالفاً للأحاديث الصحيحة الأخرى ومخالفاً للواقع.
وأما استدلاله بهذا الحديث على عدم وقوع الشرك في هذه الأمة، فليس فيه ما يدل عليه، وقد بينا المراد من الحديث، ثم إن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين كما هو معلوم لدى كل واحد من أهل العلم.
ومما يتشبث به القبوريون أيضاً في إثبات شبهتهم:
6 - قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110].
وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143].
وجه الاستدلال: (أن الأمة ليس فيها من يعمل الكفر، وأنها أمة صالحة كلها - من أولها إلى آخرها - ليس فيها شرك).
ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
أولاً: أنهم تركوا من الآيتين ما هو دليل عليهم، وذلك: (أن الله وصف خير أمة أخرجت للناس بثلاث صفاتٍ وهي لأهل الإيمان خاصة، وليس لأهل الكفر والشرك، والنفاق والبدع والفسوق فيها نصب، فقال:
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، فليس المشركون والمنافقون من خير أمةٍ...بل هم شرار الأمة...)( ).
ثانياً: (كل أهل الملل من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة من أمته أرسل إليهم وكلهم من أمة محمد، وهم أمة الدعوة... ومن لم يؤمن بالنبي ولم يتبعه من هذه الملل الخمس فهو في النار، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة: 6]. فأخبر تعالى أنهم في النار مع كونهم من هذه الأمة.
وأما استدلاله بقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، فالخطاب للنبي وأصحابه، وهم المعنيون بهذه الأمة، ومن كان مثلهم من أهل الإيمان لحق بهم، وأما الكفار والمشركون والمنافقون فهم أعداء الأمة الوسط في كل زمان ومكان، ولا يمكن أحد أن يزعم أنهم من الأمة الـوسط إلا مثل هذا الجاهـل الـذي يقول: ليس في الأمة كافر ولا
مشرك)( ).
ويبين الشيخ عبد الرحمن بن حسن جانباً من البدع والشرك والضلال الذي وقع في هذه الأمة،...(مثل المرتدين في عهد الصديق، والخوارج زمن علي بن أبي طالب، والقدرية، والجهمية الجبرية، ودولة القرامطة، الذي وصفهم شيخ الإسلام بأنهم أشد الناس كفراً، والبوبهيين، والعبيديين
وغيرهم)( ).
وبالجملة: (هذا المعترض مموه بلفظ الأمة ملبس، قال تعالى في ذم هذا الصنف من الناس وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 42].
وهذا من أعظم اللبس والخلط والتمويه، والأمة تطلق ويراد بها عموم أهل الدعوة، ويدخل فيها من لم يستجب لله ورسوله، وتطلق أيضاً ويُراد بها: أهل الاستجابة المنقادين لما جاءت به الرسل، ومن لم يفصل ويضع النصوص [ في غير ] مواضعها فهو من الجاهلين الملبسين)( ).
ويكشف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن( ) عن أصل
هذه الشبهة وسبب حدوثها، فقال: (اعلم أن هذا المعترض لم يتصور حقيقة الإسلام والتوحيد، بل ظن أنه مجرد قول بلا معرفة ولا اعتقاد، وإلا فالتصريح بالشهادتين في هذه الأزمان والإتيان بهما ظاهراً هو نفس التصريح بالعداوة، ولأجل عدم تصوره أنكره هذا، ورد إلحاق المشركين في هذه الأزمان بالمشركين الأولين، ومنع إعطاء النظير حكم نظيره، وإجراء الحكم مع علته، واعتقد أن من عبد الصالحين، ودعاهم وتوكل عليهم، وقرب لهم القرابين مسلم من هذه الأمة، لأنه يشهد أن لا إله إلا الله)( ).
ويظهر جهل القائل بهذا القول حين لم يفرق بين أمة الإجابة، وأمة الدعوة، وقد رد الشيخ عبد اللطيف ذلك الاشتباه، فقال: (ليس كل من وصف بأنه من الأمة يكون من أهل الإجابة والقبلة، وفي الحديث: « ما من أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار »( )... وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:41 - 42]، فدلت هذه الآية على أن هؤلاء الكافرين من الأمة التي يشهد عليهم ... والأمة في مقام المدح والوعد يراد بها أهل القبلة وأهل الإجابة،
وتطلق في مقام التفرق والذم ويُراد بها غيرهم، فلكل مقام مقال)( ).
ومما يتشبث به القبوريون أيضاً في هذا الباب:
7 - قوله : «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد».
وجه الاستدلال: (دعاؤه مستجاب)( )، يعني فلا يمكن أن يكون هناك شرك بقبر الرسول.
ويجاب عن هذه الشبهة: بأن دعاء الرسول مستجاب لا شك فيه، ولهذا قد أحاطه الله بأسوار وجدران( )، فلا أحد يستطيع أن يسجد لقبره مباشرة كائناً من كان، وليس فيه أي دليل على أن أحداً لا يشرك بالله جل وعلا بعبادة النبي مثلاً أو بإثبات خصائص الربوبية في الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن هذا واقع، والواقع خير دليل في هذا المجال، فكم من الغالين في الرسول مثلاً يدعي فيه خصائص الربوبية.
وأيضاً مما يتشبث به القبوريون في هذا الباب:
8 - بما روي عن النبي أنه قال: « إن أخوف ما أتخوف على أمتي،
الإشراك بالله، أما إني لست أقول: يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً، ولكن
أعمالاً لغير الله وشهوة خفية»( ).
وجه الاستدلال: أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما خاف علينا الشرك الأكبر، وإنما خاف علينا الشرك الأصغر( ).
ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
1 - إن الحديث ضعيف( )، والحديث الضعيف لا احتجاج به عند من يعتد به من أهل العلم.
2 - ولو فرضنا صحته: يكون مراد النبي من الحديث بيان خفاء هذا الشرك في أمته حتى يقع فيه بعض من يدعي العلم والتحقيق أيضاً، فمثلاً: عبادة الشمس والقمر والوثن من الظواهر التي لا يخفى ضلال مرتكبه، ولكن الشرك بأعمال القلوب؛ مثلاً المحبة لغير الله، والذل والخضوع لغير الله، واعتقاد أشياء مخصوصة لله جل شأنه لغير الله تعالى، هذه كلها من ضمن الأعمال لغير الله وما تبقى خفياً، وهذا ظاهر، والحمد لله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.