الحمد لله وبعد :
** بحث للاستاذ احمد الكاتب وهى شيعى معتدل وله آراء عديدة في نقد التعصب الشيعي والعقائد غير العقلانية كالعصمة والمهدي وغيرها ...
يتناول فيه اسطورة قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لفاطمة رضي الله عنها والتي فندها من خلال المصادر الشيعية ذاتها ورد على من يتطاول على الشيخين ابوبكر وعمر
توجد بعض الملاحظات على البحث ولكنه يتميز بالمنطقية وتحري الحقيقة وهو مفيد لمن يريد ان يرد على الشبهات والافتراءات التي تثار على سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
هل قُتلت فاطمة الزهراء؟
ومتى قال الشيعة بذلك؟ ولماذا؟ وعلى أي أساس؟
تلعب أسطورة "قتل عمر لفاطمة الزهراء بعد اقتحام بيتها وإحراق باب دارها بالنار وعصرها وراء الباب واسقاط جنينها " التي تنتشر في الأوساط الشعبية الشيعية منذ قرون ، دورا سلبيا في إثارة الفتنة بين المسلمين الذين يصدق بعضهم الأسطورة فيتخذ موقفا سلبيا من الخليفة الأول أبي بكر والخليفة الثاني عمر بن الخطاب "انتصارا" للسيدة فاطمة الزهراء، بينما يعتبر معظم المسلمين الرجلين وخصوصا عمر بن الخطاب نموذج الإمام العادل، وهكذا ينشأ الصدام بين المسلمين وتتعمق العداوة والبغضاء فيما بينهم، ولذلك يجدر بنا إلقاء الضوء على هذه الأسطورة لنرى كيف نشأت وكيف انتشرت؟ ومتى ؟ ومن كان وراءها؟ وماذا كان موقف أئمة أهل البيت والشيعة في القرون الأولى من عمر بن الخطاب وأبي بكر (رضي الله عنهما)؟
الموقف الإيجابي الأول، قبل نشوء الأسطورة
كان موقف الشيعة الأول من الشيخين الجليلين الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) موقفا إيجابيا وعاديا كموقف بقية المسلمين، وكانوا يكنون لهما كل المحبة والتقدير، بل وعمل بعض قادة الحزب الشيعي ولاة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، مثل سلمان الفارسي الذي أصبح والي المدائن، وعمار بن ياسر والبراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وسهل بن حنيف، وعثمان بن حنيف، وحجر بن عدي، وهاشم المرقال، ومالك الأشتر. وعندما استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه علياً عليه السلام في الشخوص لقتال الفرس بنفسه، قال له الإمام :"إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله من الله، والله منجز وعده وناصر جنده، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام، وعزيزون بالاجتماع.
فكن قطباً واستدر الرُّحى بالعرب، وأصلهم دونك نار العرب، فإنك إن شخصت – أي خرجت – من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمَّ إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك". نهج البلاغة
وهناك رواية يذكرها ابن قتيبة الدينوري ومصادر شيعية أخرى، تؤكد هذا المعنى، وتقول:
- إن حجر بن عدي وعمرو بن الحمق ، وعبد الله بن وهب الراسبي، دخلوا على علي ، فسألوه عن أبي بكر وعمر: ما تقول فيهما؟ وقالوا: بين لنا قولك فيهما وفي عثمان. فقال علي: وقد تفرغتم لهذا؟ وهذه مصر قد افتتحت وشيعتي فيها قد قتلت؟ إني مخرج اليكم كتابا أنبئكم فيه ما سألتموني عنه فاقرءوه على شيعتي، فأخرج اليهم كتابا فيه:
"... فلما مضى (رسول الله) تنازع المسلمون الأمر بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر على بالي أن العرب تعدل هذا الأمر عني، فما راعني الا إقبال الناس على أبي بكر، وإجفالهم عليه، فأمسكت يدي،
ورأيت أني أحق بمقام محمد في الناس ممن تولى الأمور علي، فلبثت بذلك ما شاء الله، حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الاسلام يدعون الى محو دين محمد وملة ابراهيم عليهما السلام، فخشيت إن أنا لم انصر الاسلام واهله أن أرى في الاسلام ثلما وهدما ، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولاية أمركم التي إنما هي متاع أيام قلائل ثم يزول منها ما كان كما يزول السراب، فمشيت عند ذلك الى أبي بكر فبايعته، ونهضت معه في تلك الاحداث حتى زهق الباطل، وكانت كلمة الله هي العليا، وأن يرغم الكافرون.
فتولى أبو بكر رضي الله عنه تلك الأمور فيسّر وسدّد وقارب واقتصد، فصحبته مناصحا وأطعته فيما اطاع الله فيه جاهدا، فلما احتضر بعث الى عمر فولاه فسمعنا وأطعنا، وبايعنا وناصحنا، فتولى تلك الأمور فكان مرضي السيرة ميمون النقيبة أيام حياته ، فلما أحتضر قلت في نفسي: ليس يصرف هذا الامر عني، فجعلها شورى وجعلني سادس ستة... ثم قالوا لي: هلم فبايع عثمان،
والا جاهدناك، فبايعت مستكرها وصبرت محتسبا، وقال قائلهم: انك يا ابن ابي طالب على الأمر لحريص، فقلت لهم: أنتم أحرص... حتى اذا نقمتم على عثمان فقتلتموه، ثم جئتموني تبايعونني، فأبيت عليكم وأبيتم علي، فنازعتموني ودافعتموني ، ولم أمدَّ يدي ، تمنعا عنكم، ثم ازدحمتم علي، حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعض، وأنكم قاتلي، وقلتم: لا نجد غيرك، ولا نرضى الا بك، فبايعنا لا نفترق عنك ولا نختلف، فبايعتكم ودعوتم الناس الى بيعتي فمن بايع طائعا قبلت منه، ومن أبى تركته، فأول من بايعني طلحة والزبير، ولو أبيا ما أكرهتهما، كما لم أكره غيرهما، فما لبثا الا يسيرا حتى قيل لي : قد خرجا الى البصرة في جيش ما منهم رجل الا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة...".[1]
وعندما جدد الشيعة بيعتهم للامام علي بعد خروج الخوارج إلى حروراء والنهروان قالوا له: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم الامام أن يوالوا من والى على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعادوا من عادى على سنته، فجاء ربيعة بن أبي شداد الخثعمي - وكان صاحب راية خثعم في جيش الإمام أيام الجمل وصفين- فقال له الإمام: بايِع على كتاب الله وسنة رسوله. فقال ربيعة: وعلى سنة أبي بكر وعمر. فقال الإمام: لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله لم يكونا على شيء من الحق.
وقال الامام أمير المؤمنين عليه السلام في رسالته التي بعث بها إلى أهالي مصر مع قيس بن سعد بن عبادة واليه على مصر:".. فلما قضى (رسول الله) من ذلك ما عليه قبضه الله عز و جل صلى الله عليه ورحمته و بركاته، ثم إن المسلمين استخلفوا به أميرين صالحين عملا بالكتاب والسنة و أحسنا السيرة ولم يعدُوَا لِسُنـَّتِهِ ثم توفّاهما الله عز و جل رضي الله عنهما".[2]
وقال عليه السلام عن أخيه عمر بن الخطاب بالخصوص:"..لقد قوَّم الأود و داوى العمد و أقام السنة و خلَّف الفتنة، ذهب نقيَّ الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها و سبق شرَّها، أدَّى إلى الله طاعته واتَّقاه بحقِّه".[3]
وتجلى هذا الموقف الإيجابي من الشيخين أيضا في ثقافة أهل البيت عليهم السلام، وخصوصا في دعاء الامام السجاد علي بن الحسين، الذي يقول فيه:"... اللهمّ وأصحاب محمد صلى الله عليه وآله خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث اسمعهم حُجّة رسالاته،
وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به، وما كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، فلا تنس لهم اللهمّ تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك".[4]
وقد روى الكليني في (الروضة من الكافي) عن أبي بصير قال:"كنت جالساً عند أبي عبد الله عليه السلام، إذ دخلت علينا أم خالد تستأذن عليه، فقال أبو عبد الله: أيسرك أن تسمع كلامها؟ قال: فقلت: نعم، قال: فأذن لها، قال: وأجلسني معه على الطنفسة، قال: ثم دخلت فتكلمت، فإذا امرأة بليغة، فسألته عنهما – أي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما – فقال لها: توليهما، قالت: فأقول لربي إذا لقيته: إنك أمرتني بولايتهما، قال: نعم".
وينقل كثير من المصادر السنية: أن الامام علي كان يقول: "لا أُوتَى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حدَّ المفتري".[5] حتى ان القاضي المعتزلي عبد الجبار الهمداني نقل في كتاب (تثبيت النبوة) أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في (كتاب النقض على ابن الراوندي): أن سائلا سأل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟
فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟
فقال له: نعم، من لم يقل هذا فليس شيعياً. والله لقد رقي هذه الأعواد علي فقال:"ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر".
وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح، وذلك لأن الشيعة عموما كانوا يُعرفون تاريخياً بتفضيلهم الامام علي، فان من الثابت أن الشيعة في القرن الأول كانوا يحترمون الشيخين ويوقرونهما أشد توقير، ولم تكن لهم مؤاخذات الا على بعض الصحابة الذين حاربوا الامام علي أو اختلفوا معه. وهذا ما يؤكده إمام أهل السنة في القرن الخامس الهجري اللالكائي حيث يروي عن ... حريث بن ابي مطر سمعت سلمة يقول: جالست المسيب بن نخبة (نجية) الفزاري في هذا المسجد عشرين سنة وناسا من الشيعة كثيرا فما سمعت أحدا منهم تكلم في أحد من اصحاب رسول الله الا بخير، وما كان الكلام الا في علي وعثمان.[6]
وهو ما يؤكده أيضا محب الدين الخطيب بقوله:"من الظواهر التي تسترعي الأنظار في تاريخ هذه الفترة أن الغلاة من الفريقين -فريق الشيعة وفريق الخوارج- كانوا سواء في الحرمة للشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، تبعاً لما كان عليه أمير المؤمين علي نفسه، وما كان يعلنه على منبر الكوفة من الثناء عليهما والتنويه بفضلهما".[7]
أجل.. ان التاريخ يسجل: أن الأجيال الأولى من الشيعة، وخاصة في القرن الأول الهجري قالت: "إن عليا كان أولى الناس بعد رسول الله لفضله وسابقته وعلمه ، وهو افضل الناس كلهم بعده ، و أشجعهم وأورعهم وأزهدهم" .
وأجازوا مع ذلك إمامة أبى بكر وعمر وعدوهما أهلا لذلك المكان والمقام ، وذكروا: "إن عليا سلم لهما الأمر ورضي بذلك وبايعهما طائعا غير مكره وترك حقه لهما ، فنحن راضون كما رضي المسلمون له ، ولمن بايع ، لا يحل لنا غير ذلك، ولا يسع منا أحدا إلا ذلك، وان ولاية أبى بكر صارت رشدا وهدى لتسليم علي ورضاه ".[8]
بينما قالت فرقة أخرى من الشيعة :" إن عليا افضل الناس لقرابته من رسول الله ولسابقته وعلمه ولكن كان جائزا للناس أن يولوا عليهم غيره إذا كان الوالي الذي يولونه مجزئا ، أحبّ ذلك أو كرهه، فولاية الوالي الذي ولوا على أنفسهم برضى منهم رشد وهدى وطاعة لله عز وجل ، وطاعته واجبة من الله عز وجل".[9]
وقال قسم آخر منهم :" إن إمامة علي بن أبى طالب ثابتة في الوقت الذي دعا الناس واظهر أمره".[10]
ولكن ما أن انتهى القرن الهجري الأول، وتعرض الشيعة الى ضغوط سياسية شديدة ومجازر وملاحقات وتعذيب على أيدي الأمويين، حتى نشأ لدى فريق صغير منهم نوع من التطرف والغلو، كما يحصل في أي تيار يتوسع شعبيا ويتعرض لضغوط مماثلة، فنشأت نظرية الإمامة الالهية، التي تحصر الحق في الحكم والخلافة في أهل البيت، ولا تكتفي بالقول أنهم أولى وأحق من غيرهم،
وعادت الى الوراء لتقول بأن النبي الأكرم (ص) قد عين الامام عليا خليفة من بعده ونص عليه، وان الإمامة تنحصر في ذريته الى يوم القيامة.
وقد انعكست هذه النظرية سلبا على مبدأ الشورى والخلفاء الراشدين الذين اعتبرتهم النظرية "غاصبين" للخلافة من الامام علي.
وقد ظهرت هذه النظرية أول ما ظهرت في الكوفة، أثناء ثورة الامام زيد بن علي على هشام بن الحكم سنة 122، وأدت الى انشقاق "الرافضة" عن الحركة الشيعية العامة.
ولنستمع الى الطبري وهو يحدثنا عن هذه القصة من البداية، حيث يقول:
- اجتمعت إليه (الى زيد) جماعة من رءوسهم ، فقالوا : رحمك الله ! ما قولك في أبي بكر و عمر؟
قال زيد : رحمهما الله و غفر لهما ، ما سمعت أحداً من أهل بيتي يتبرأ منهما و لا يقول فيهما إلا خيراً ،
قالوا : فلم تطلب إذاً بدم أهل هذا البيت، إلا أن وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم ! فقال لهم زيد : إن أشد فيما ذكرتم أنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى الله عليه و سلم من الناس أجمعين ، و إن القوم استأثروا علينا ، و دفعونا عنه ، و لم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً ، قد ولوا فعدلوا في الناس ، و عملوا بالكتاب و السنة . قالوا : فلم يظلمك هؤلاء (الأمويون) !
و إن كان أولئك لم يظلموك ، فلم تدعوا إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين !
فقال : و إن هؤلاء ليسوا كأولئك ، إن هؤلاء ظالمون لي و لكم و لأنفسهم ، و إنما ندعوكم إلى كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم ، و إلى السنن أن تحيا ، و إلى البدع أن تطفأ ، فإن أنتم أجبتمونا سعدتم ، و إن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل .
ففارقوه و نكثوا بيعته ،
و قالوا : سبق الإمام ـ و كانوا يزعمون أن أبا جعفر محمد بن علي أخا زيد بن علي هو الإمام ، و كان قد هلك يومئذ ـ و كان ابنه جعفر بن محمد حياً ،
فقالوا : جعفر إمامنا اليوم بعد أبيه ، و هو أحق بالأمر بعد أبيه ، و لا نتبع زيد بن علي فليس بإمام . فسماهم زيد "الرافضة". وكانت منهم طائفة قبل خروج زيد مروا إلى جعفر بن محمد بن علي ، فقالوا له : إن زيد بن علي فينا يبايع ، أفترى لنا نبايعه؟ فقال لهم : نعم بايعوه ، فهو والله أفضلنا و سيدنا و خيرنا فجاءوا ، فكتموا ما أمرهم به .[11]
وقد واجهت هذه النظرية رد فعل رافض من قبل أهل البيت عليهم السلام، والشيعة الأوائل قبل غيرهم. فقد قال الامام محمد الباقر (ع) لجابر الجعفي: يا جابر بلغني أن قوما بالعراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
ويزعمون أني أمرتهم بذلك. فابلغهم أني الى الله منهم بريء.
والذي نفس محمد بيده لو وليت لتقربت الى الله بدمائهم. لا نالتني شفاعة محمد أبدا إن لم اكن استغفر لهما وأترحم عليهما. وقال لتلميذه سالم: يا سالم تولهما، وابرأ من عدوهما، فانهما كانا إمامي هدى رضي الله عنهما.
وقال لمن سأله عن حلية السيف: لا بأس به فقد حلى ابو بكر الصديق رضي الله عنه سيفه. وعندما تعجب السائل وقال: وتقول الصديق؟ وثب الامام الباقر وثبة واستقبل القبلة ثم قال: نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق فلا صدق الله له قولا في الدنيا والآخرة.[12]
وكانت حركة الغلو في أئمة أهل البيت قد نشأت في بعض أوساط الشيعة، بقيادة بيان بن سمعان التميمي والمغيرة بن سعيد وبشار الشعيري وأبي الخطاب، الذين كانوا يدعون الألوهية لأئمة أهل البيت، أو النبوة لهم، أو لأنفسهم، ويكفرون أبا بكر وعمر ومن لم يوال عليا، ولكن أئمة أهل البيت كانوا يردون على هؤلاء الغلاة بشدة وغضب ويطردونهم من صفوف الشيعة ويلعنونهم ويتبرأون منهم. وقد خاطبهم الامام الصادق قائلا: "تقربوا الى الله، فانكم فساق كفار مشركون" وقال لأحد أصحابه: اذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري وقل له:" يا كافر يا فاسق أنا بريء منك". وعندما دخل عليه بشار يوما صاح به:" اخرج عني لعنك الله. والله لا يظلني وإياك سقف أبدا".
فلما خرج قال:"ويحه.. ما صغَّر الله أحد تصغير هذا الفاجر. والله اني لعبد الله وابن أمته".
وقال الإمام الصادق عن المغيرة بن سعيد:" لعن الله المغيرة بن سعيد، ولعن الله يهودية كان يختلف اليها يتعلم منها السحر والشعبذة والمخاريق، فوالله ما نحن الا عبيد، خلقنا الله واصطفانا، ما نقدر على ضرر ولا نفع الا بقدرته، ولعن الله من قال فينا ما لا نقول في انفسنا". وأعلن الامام :" من قال إننا أنبياء فعليه لعنة الله ، ومن شك في ذلك فعليه لعنة الله".[13]
ولم يكن من الصعب على الحركة الشيعية أن تتخلص من أولئك الغلاة "الكفار" الذين خرجوا بأقوالهم ليس عن التشيع فقط وانما عن الدين الاسلامي بادعاء الألوهية أو النبوة لأئمة أهل البيت، ولكن المشكلة كانت أصعب مع بعض الغلاة السياسيين الذين اعتقدوا بنظرية "النص" وتعيين النبي للامام علي وأهل البيت خلفاء من بعده، والتي انعكست سلباً على الخلفاء الراشدين الذين جاءوا عبر الانتخاب والشورى، قبل الامام علي، حيث كان هؤلاء الغلاة أو "الرافضة" يعتقدون باغتصاب أبي بكر وعمر للخلافة من علي، ولذلك كانوا يتبرءون منهما. وكان بعض المتطرفين منهم يذهبون الى القول بردة معظم الصحابة الذين يزعمون: "أنهم عرفوا النص ثم خالفوه"، أو القول بنفاقهم.
وكان هذا بالطبع قولا فضيعا ومتطرفا جدا، ولكنه لم يكن ليشمل عامة الشيعة، ولا عامة الامامية الذين قال كثير منهم بوجود النص الخفي وليس الصريح على الامام علي، وقالوا نتيجة لذلك بأن الصحابة "أخطأوا" عندما لم ينتخبوا الامام علي يوم السقيفة. ولم يقولوا بردتهم ولا نفاقهم ولا كفرهم، والعباذ بالله. ولكنهم على أي حال لم يقولوا ما قالوه كيداً للاسلام أو بغضا للصحابة الذين نصروا الاسلام، وانما بناء على شبهة قائمة على تأويلات وأحاديث ضعيفة أو مختلقة صدقوها، تماما كما اشتبه الأمر على الخوارج الذين كفروا الامام علي.
وفي الحقيقة ان نشوء نظرية الإمامة الإلهية لأهل البيت، وتحوّلها الى عقيدة دينية، أو أصل من أصول الدين، لدى الشيعة الامامية، أوقعهم في أزمة تاريخية وعداء نظري مع الشيخين، وانفصال واقعي عن ثقافة أهل البيت وتاريخ الشيعة الأوائل الذين كانوا يكنون حبا واحتراما كبيرين لهما.
وهذا ما كان يؤدي بهم الى الاصطدام مع ثقافة أهل البيت المعلنة والإيجابية تجاه الصحابة والشيخين، حيث كانوا يضطرون لتمرير أقوالهم تحت ستار "التقية". ولكن أهل البيت عليهم السلام كانوا يتصدون لتلك الدعاوى المتطرفة بشدة. وقد قال الامام الصادق لرجل جاءه وقال له: إن لي جارا يزعم انك تبرأ من ابي بكر وعمر، فغضب منه الامام وقال:" بريء الله من جارك. وإني لأرجو ان ينفعني الله بقرابتي من ابي بكر".
وعندما سأله سالم بن ابي حفصة عن الشيخين، أجابه:" يا سالم تولهما وابرأ من عدوهما. فانهما كانا أمامي هدى رضي الله عنهما..أيسب الرجل جده؟ أبو بكر جدي. لا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة ان لم اكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما".[14]
وروى الامام الصادق حديث جده الامام أمير المؤمنين عن إخوانه الطيبين صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله، فما أرى أحداً يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، وإذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبُلَّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب".[15]
محاولة إعادة كتابة التاريخ
وعلى أي حال وبناء على تلك الشبهة، جاء فيما بعد من نسج على منوالها، وبدأ يختلق الروايات على لسان أهل البيت، ويتلاعب بالتاريخ، ويدس ما يريد في صفوف الشيعة باسم التقية، ثم جاء من جمع تلك الروايات فنسبها الى الشيعة وهم منها براء.
وأعاد أولئك الغلاة قراءة التاريخ الاسلامي وكتابته من جديد، فأضافوا اليه من عند أنفسهم ما لم يحدث أبدا، واختلقوا أساطير تاريخية زرعت الحقد والعداوة والبغضاء على الصحابة الطاهرين، وتركت أثرا سلبيا على وحدة المسلمين النفسية على مدى التاريخ. وكان من الأمور التي ضخموها موضوع (فدك) التي أفاء ها الله على رسوله يوم خيبر بلا قتال، فأعطاها لابنته السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وعندما تولى أبو بكر الخلافة استرجعها منها باعتبارها من الأموال العامة، ولكن الزهراء قالت ان النبي أعطاها لها منحة، فطالبها بالشهود، فجاءت بزوجها الامام علي وأم أيمن فشهدا لها، ولكن أبا بكر رفض الحكم لها برجل وامرأة وطالبها بمزيد من الشهود، فانصرفت فاطمة غاضبة.[16]
والى هنا فالقصة مما يجمع عليه المؤرخون، وهي، كما هو واضح، قصة خلاف قضائي شخصي لا يحمل معنى عدائيا ضد الزهراء، وقد راجع الامام علي (عليه السلام) في أيام حكمه القاضي شريح في دعوى بسرقة درع له ضد ذمي، ولم يكن معه شهود، فحكم القاضي للذمي، ولم يغضب الامام علي من ذلك. ولكن الغلاة أضافوا على تلك القصة خطبا مزعومة وموهومة قالوا ان السيدة فاطمة ألقتها في المسجد ضد أبي بكر والمهاجرين والأنصار، وذمتهم فيها كثيرا. ويوجد نسخ عديدة لهذه الخطب المتناقضة، وكلها منقولة عن كتب مجهولة من القرن الثالث والرابع والسادس، بلا أسناد متصلة، أو رواية موثوقة.[17]
قصة إحراق بيت فاطمة
وربما كانت قصة "كبس بيت الامام علي من قبل عمر من أجل إجباره على بيعة أبي بكر، وما رافق ذلك من تهديد بحرق بيت فاطمة على من فيه، أو قيامه بحرق باب البيت وضرب الزهراء وعصرها وراء الباب، وإسقاط جنينها (محسن) والتسبب في وفاتها" من أهم القصص الأسطورية الخطيرة التي لعبت عبر التاريخ وتلعب اليوم دورا كبيرا في تأجيج الخلافات بين الشيعة والسنة، بعد زوال معظم أسباب الخلافات التاريخية. ولذلك فان من الضروري التوقف عند هذه القصة – الأسطورة، والبحث في ظروف نشأتها وعرضها على التحليل المخبري والجنائي للتأكد فيما اذا كانت تتمتع بأية مصداقية أو حقيقة تاريخية.
وقبل أن نقوم باستعراض "الأدلة" التي يقدمها المدعون ضد الشيخين، والتي يصنفونها عادة الى أدلة "سنية" و"شيعية". لا بد أن نشير الى عدة نقاط:
وكذلك المؤرخ الطبري، الذي صُنِّف مؤخرا على أنه شيعي، بينما كان المتطرفون من أهل السنة، أي الحنابلة، يتهمونه بالتشيع والرفض. وفيما اعتبر الإمامية أئمة أهل البيت، أئمة خاصين بهم، كان عامة "أهل السنة" يعتبرونهم أئمة لهم ويوالونهم ويحبونهم.
وقلبوا من خلالها الأبيض الى أسود، والأسود الى أبيض، وذلك باسم "التقية" التي كانوا يستخدمونها كغطاء لتمرير أقوالهم ونظرياتهم المغالية المضادة لفكر وأقوال أهل البيت، حتى وصل بهم الأمر الى أن ينكروا وفيات عدد من الأئمة ، أو ينسبوا اليهم أولادا لم يولدوا ولم يعرفوا أثرا لهم.
وتنقل بصور غامضة ومتناقضة وبلا أسناد، أو عبر رجال كذابين أو غير ثقاة أو كتب غير معروفة ولا معتبرة، وهذه الظاهرة معروفة في التاريخ كما في العقيدة والفقه والسياسة والقضايا القانونية الشخصية. والموقف منها هو الشك والرفض والتمسك بالأمور اليقينية الثابتة بالتواتر والإجماع حسب القاعدة الأصولية المعروفة:"لا تنقض اليقين بالشك".
1- أما النقطة الثالثة، فهي ضرورة قراءة التاريخ قراءة ظاهرية طبيعية، وتجنب التفسيرات التعسفية والقراءات الباطنية المقلوبة، التي قام بها الغلاة، للتاريخ ولأقوال أئمة أهل البيت،
2- وهناك نقطة رابعة، هي ضرورة تجنب الاعتماد على تشكيل الصورة التاريخية بالافتراض والتخمين، إذ يلاحظ أن بعض من يكتب في التاريخ، يقوم بافتراض كثير من الأمور التي لم تقع ولم يسجلها التاريخ، ولا يوجد لديه أي دليل عليها، اعتمادا تصورات معينة، أو ادعاء حذفها من التاريخ ومنعها من التدوين، وهو ما يعني محاولة كتابة التاريخ على مجرد الافتراض والخيال، دون العلم واليقين.
2- ولا بد أن نشير الى نقطة أخرى مهمة، وهي أن التاريخ يحتوي على روايات متواترة حول أمور معينة، يحصل لمن يقرأها مجتمعة القطع واليقين على أمر معين، في حين يحتوي أيضا على إشاعات وأساطير ، وروايات تسمى بروايات الآحاد، وهي روايات أقرب الى الإشاعات،
1- أن المسلمين في القرون الثلاثة الأولى لم يكونوا يعرفون الانقسام الطائفي الحاد، حيث لم يكن اسم "أهل السنة" يطلق الا على مجموعة صغيرة من "أهل الحديث" ولم يكن اسما عاما على طائفة مقابل "الطائفة الشيعية". حيث كان يوجد تداخل كبير بين تيارات الشيعة المختلفة من محبي أهل البيت من الزيدية والإمامية والمعتزلة وأهل الحديث،
من العلويين والعباسيين وغيرهم، بصورة يصعب فيها إطلاق وصف شيعي أو سني على أي شخص، فضلا عن إطلاقه على عامة الناس. ولعل أبرز مثل على ذلك هو الامام الشافعي الذي اعتبر بعد وفاته أنه إمام من أئمة أهل السنة، بينما كان يتهم في حياته بأنه شيعي أو رافضي.