حب التملك
بقـلم داليـا رشـوان
www.alameron.comالمقصود بالتملك أن يكون خاص بك خصوصية كاملة تفعل فيه ما تشاء وتسيطر عليه تماما ولا ينازعك فيه أحد مثل تملكك لشقة أو لمال تفعل فيه ما تشاء ولا يسألك أحد ماذا فعلت.
ولكن هل حقا هناك في الحياة تمليك أم إيجار أم أقل من ذلك؟
أحب أن أبدأ ببعض الأسئلة ..
ماذا تمتلك؟
هل تملك السيطرة على ما تمتلكه؟
إلى متى سيتظل ملكا لك؟
هل تضمن أن لا يُنتزع منك؟
إجابتك المنطقية هي:
السؤال الأول - أملك مال وذهب وشقة وسيارة وشركة وزوجة وأبناء وشهادة وعلم .. أملك شكلا جميلا أو صوتا جميلا أو جسدا جميلا .. أملك قدرات خاصة في كذا وكذا ...
السؤال الثاني – نعم أملك السيطرة كما هو موضح بأعلى: "أن يكون خاص بك خصوصية كاملة تفعل فيه ما تشاء وتسيطر عليه تماما ولا ينازعك فيه أحد"
السؤال الثالث – أملكه إلى الأبد، أي حتى الممات
السؤال الرابع – نعم لا يستطيع أحد أن يأخذ مني شيئا إلا بإرادتي
ولكن لنعد مرة أخرى إلى الأسئلة لأذكرك ببعض ما غاب عنك أثناء الإجابة
هل تستطيع أن تجزم أنك لن تصاب بمرض تصرف فيه مالك وتضيع فيه صحتك، أو تحدث لسيارتك حادثة تخفيها من على وجه الأرض، أو تحدث كارثة طبيعية تطيح بمنزلك أو عائلتك أو صحتك أو أي شئ تملكه، هل تضمن عدم حدوث زلزال أو عاصفة أو سيول أو حرائق في لحظة، هل تضمن أن لا يسرقك أحد؛ يسرق بيتك أو سيارتك أو يقتل أحد أفراد أسرتك. جميع هذه الإحتمالات لا أسردها لك لمضايقتك أو إخافتك عفانا الله وإياكم منها جميعا ولكن لأثبت لك أن حدود سيطرتك مفقودة تماما وأنك بالفعل تخرج من بيتك وأنت لا تعرف ماذا ينتظرك وما هي الأخبار التي ستسمعها في هذا اليوم وقد تفقد كل شئ في لحظة. أما النقطة الأخرى وهي أنك تمتلك حتى الممات فقط ولكنك لا تعرف متى ستموت، أي أنك قد تفقد جميع ما تظن أنك تملكه بعد ساعة لو كان إنتهاء أجلك في هذا الوقت ثم ينتقل إلى آخرين (الورثة) ثم يموتون وينتقل لغيرهم.
بعد هذه الملاحظات راجع قواعد التمليك وستجد أنك أقل من المؤجر لأن المؤجر متفق في العقد على مدة محددة ليس من الممكن أخذ الشقة المؤجرة منه قبلها أما ما استأجرته في الدنيا فأنت لا تستطيع أن تعرف متى سيؤخذ منك، وإن لم يؤخذ منك بأحد الكوارث بأعلى وأكثر فإن المدة حتما محددة بيوم مماتك الذي لا خلاف عليه ولو عشت ألف سنة.
في هذه السطور أثْبَتُّ لك أنك لا تملِك
ولكن لايزال حب التَمَلك يمْلِك بعض القلوب بغير منطق
حب التملك يجعلك لا تستطيع أن تُخرِج من مالك لتنفق منه على زوجتك وأبنائك وتبر به والديك وتساعد به أقاربك وأصدقائك، تجعلك لا تستطيع أن تخرج الزكاة أو الصدقات للفقراء من حولك، وذلك لأنك بمنطقك ترى أنه مالَك الذي اكتسبته من جهدك ولا تريد أن تعطيه لغيرك لأنه ليس من حقه وترى أنه لو أراد الفقير مالا فعليه أن يجتهد مثلك ليحصل عليه.
ولكن .. هو ليس بمالك لأن الله هو الذي رزقك به وكان من الممكن أن تجتهد ولا تحصل على شئ كما يحدث مع كثير ممن حولك أو يحدث لك شيئا يدمر ما اكتسبته كالمرض أو أي مصيبة مما سبق وذكرتها، وكنت ستصبح مثل الفقير الذي بخلت عليه بمالك. ولو أنني معك أن الفقير عليه أن يجتهد ولكن فقره ليس بيده لأن هذه هي أقدار الله فلم يكن بيدك أن تولد فقيرا أو غنيا أو ميسور الحال، والدنيا تدور بنا ولا نعلم من سيكون غدا فقيرا ومن سيصبح غنيا. وعلى ذلك فإن حق الفقير على الغني هو حق لك وعليك؛ هو حق يضمن لك لو أصبحت مثل هذا الفقير (أو أحد آبائك أو أبنائك) ستجد أيادي المساعدة حتى تقف على قدميك مرة أخرى؛ هو تكافل وتكامل بين عناصر المجتمع وبعضه، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، انظر إلى مال الزكاة الذي هو من أركان الإسلام الخمسة من زاوية أخرى حقيقية جدا كالآتي، يعلم الله الفقراء من حولك لذا هو يعطيك رزقك ورزقهم في سلة واحدة كأمانة ليبتليك وليرى ما أنت فاعل بها، وهل ستأخذ القيمة كلها لنفسك أم ستُرجع الأمانة إلى من إئتمنك عليها مهما كبرت قيمتها.
حب التملك ليس للمال فقط ولكنه متوغل في جميع نواحي الحياة، فتجد من يبخل بالمعلومة ليفيد بها غيره لأنه يشعر أن هذه المعلومة ملكه وقد تعب للحصول عليها ولا يريد إعطائها لغيره بسهولة ولكن يريد أن يظل طوال عمره يحظى بشرف إقتنائها والتفاخر على الناس بها، وذلك من أصغر معلومة إلى مهنة التدريس مرورا بأساتذة الجامعات المختلفة وبخل إيصال المعلومة الكاملة حتى لا تقل أهمية هذه المعلومة حين تصبح معلومة عامة. والقرآن أوضح لنا هذه الصفة في بني إسرائيل
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) – البقرة
وتوعد الله هؤلاء البخلاء في سورة النساء
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) - النساء
نموذج آخر لحب التملك وهو حب تملك البشر من أزواج أو أبناء أو موظفين. هذا الحب يجعل الزوج يفعل في زوجته ما يشاء من إهانة وسُخرة لشعوره أن هذا حقه بما أنها ملكا له. حب التملك يجعل زوجة تنكل بزوجها ويجعل أخرى ترفض تماما فكرة زوجة ثانية لشعورها أن زوجها ملكها لا يأخذه منها أحد إلا إلى القبر، حتى لو كانت تكره هذا الزوج ولا تحبه ولكنها تعامله كأحد مقتنياتها. حب التملك يجعل مدير يعذب موظفيه لأنه يعتقد أن كفاءته سيتم تقييمها على هذا الأساس، فكلما إشتكى الموظفين كلما بدا المدير صارم وحازم وبالتالي كفء، وكأن الموظف الذي يحظى بالراحة والإحترام في عمله ويأخذ حقوقه هو موظف مستهتر. ولكن بما أن المديرين ليسوا مؤهلين لتحسين ظروف العمل وإغراق الموظفين فيه، وبما أن الموظف يجب أن يتعب من أجل الحصول على مرتبه، فبالتالي يتم فرض المعاناة بشكل آخر ليس له علاقة بالعمل، والنتيجة موظف يتحمل اضطهاد وظروف غير آدمية في محل عمله بدون عمل والنتيجة طاقة وموارد مهدرة.
حب التملك حب غريب، ليس معتمدا على الحب العاطفي للشئ أو الشخص ولكنه حب إمتلاكه ولو كنت تكرهه، لكنك لا تقبل أن تعطيه لغيرك لأنك تملكه وتستمع بهذا الإمتلاك. حب التملك يُفقد الإنسان شعوره بأي واجب تجاه الآخرين وطالما ملك فلا ينازعه أحد في ملكه وعلى المملوك أن يستجيب كالعبد وإلا حطمه وأتى بغيره.
وكثير من الناس يغذي هذا الحب داخل الآخرين ليجعل منهم طغاة وذلك تحت بند تجنب عبء المواجهة. وكما قلت في موضوع سابق، الناس هم الذين يصنعون الطغاة حين يخرج أحدهم بقرارات ليست لها معنى فيتجاهل الجميع هذه الظاهرة استنادا على بعض المبادئ الرئيسية التي نتعامل بها في حياتنا اليومية مثل: "وأنا مالي"، "يا عم سيبه يعمل اللي هو عايزه، اشتري دماغك"، "ده غلبان"، "ده مريض"، "ده عنده مشاكل ويِصْعَب عليك خليه يشوف له يومين" "بلاش نعمل مشاكل"، ولكن إذا وقف الجميع أمام أي ظاهرة غريبة لن يستطيع الظالم أن يجد منفذا يخرج منه إلى الدنيا.
قواعد التملك
وقد أثبتْ من قبل أنه ليس هناك تملك بالمعنى الحقيقي ولكن إذا فرضنا أن وجود الشئ تحت يدك أو إمرتك لفترة من الزمن، سواء طالت أو قصرت، هو معنى التملك الجديد فهذا ما سنبني عليه القواعد.
العلاقة بين الطرفين المالك والمملوك تُحَدَّد بنظام الحقوق والواجبات في حال كان المملوك إنسان. والتقصير من طرف يعطي حقوقا دفاعية إضافية للطرف الآخر. ولا يستطيع طرف طلب حقوقه إلا إذا إستكمل واجباته. والمالك ليس الأكثر رفاهية بل الأكثر مسئولية. قال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" لذا سيُسأل المالك عن هذه المسئولية ليس فقط في الآخرة (فالبعض يشعر أن وقت الحساب لايزال بعيدا) ولكن الحقيقة هي أن كل لحظة يعيشها في الدنيا هي تعبير صريح ونتيجة لحظية ومباشرة لكيفية تعامله مع مسئولياته بقواعد الله لوجهه سبحانه. فلو أراد الإنسان أن يستمتع بأكلة يأكلها عليه أن يعطي الحقوق لأصحابها فيبارك الله له في مطعمه، وبتقوى الله قد يرى زوجته على هيئة أجمل بل قد يقذف الله المودة والرحمة في قلبيهما فيعيشا حياة لم يروها من قبل بعد سنوات من الزواج. كل متعة وجمال وتيسير في الدنيا يتأتى بالتقوى لا محالة، قال تعالى في سورة الطلاق:
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَٰلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) - الطلاق
هذه الآيات جمعت لمن يتق الله تغييرا في كل ما يمكن أن يواجهه من صعوبات في الدنيا .. فالمشاكل سيجعل له منها مخرج وسيوسع له في رزقه ويجعل أموره ميسرة ويكفر عنه السيئات ويعظم أجر الحسنات.
في الحالة الثانية إذا كان المملوك كل ما هو غير إنسان فإن العلاقة تصبح من طرف واحد فقط ولم تعد في ميزان الحقوق والواجبات ولكن الواجبات فقط، أي المسئولية فقط. بمعنى أن إقتنائك لأي شئ يعني مسئولية عليك تجاه وليست رفاهية؛ تحمل المسئولية أولا ثم تأتي الرفاهية بعد التقوى. مسئوليتك تجاه هذا الشئ أن تعلم أنه ليس ملكك ولكن ملكا لله، وأن لا تستعمله إلا فيما يرضي الله وأن تُخرج منه صدقة خالصة لله. هذا الشئ الذي تملكه قد يكون علم أو صحة أو عمل أو تجارة وما إلى ذلك.
كيف تختبر حب الإمتلاك داخلك
عليك أن تسأل نفسك بعض الأسئلة وستعرف بعدها إلى أي مدى تميل إلى حب الإمتلاك:
حين تتقي الله وتخرج الحقوق الواجبة لأهلك ومن حولك ولمن لهم حقوق في ذمتك (ليس المقصود فقط حقوق المال ولكن جميع أنواع الحقوق للآخرين) هل تكون عملية ثقيلة؟ هل تتردد؟ هل تعطي بالقليل أم تعطي بالزيادة تعظيما لشعائر الله؟ هل تكون سعيدا وفرحا أم حزينا أم مضطرا أم متماسكا تحاول أن لا تفكر كثيرا كي لا تتضايق؟ هل تجبر نفسك على العطاء أم أنك تنتظر وقت العطاء بفارغ الصبر؟
كيف تتغلب على حب الإمتلاك
مجرد بحثك عن حب الإمتلاك داخلك هو أول الطريق للتغيير، فإن وجدته فكل ما عليك عمله هو أن تُعلِّم نفسك أن تحيا بقناعة تامة أن الرزق الذي يأتيك هو من عند الله مهما كانت الأسباب من حولك. وأن زيادة رزقك تتأتى برضى من يرزقك. وهو سبحانه أمرك بالعطاء لعباده، فإن قصرت في العطاء قل رزقك ولو زاد مالك، فالرزق ليس مال ولكن المال شئ من ضمن أشياء أخرى كثيرة من الرزق قد لا تُشترى بالمال. وقد وعد الله المتصدقين أن أموالهم لن تنقص وستعود لهم أضعافا وإن وعد الله حقا، قال تعالى:
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) - التغابن
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) - البقرة
إخراج الحقوق من مالك سيعود عليك بأضعاف سواء من المال أو من رزق طيب آخر الله أعلم به وتشعر به في جميع جوانب حياتك. وكأنك تستثمر أموالك، ولكنها الطريقة الوحيدة التي يمكن بها أن تستثمر أموالك دون أن تخشى ضياعها. ومهما كبرت قيمة الحقوق التي في ذمتك فلا تبخل بها لأن بخلك ليس على الذين أودعهم الله أمانة في عنقك ولكن هذا البخل تبخل به على نفسك لأن عائد العطاء أضعاف مهما كبرت قيمته.
بعد ذلك عليك إكراه نفسك على العطاء والصبر على ذلك قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) – آل عمران
ولكن طول مدة الصبر ستحتاج لبعض المساعدة من صحبة صالحة تعين على البر والتقوى، قال تعالى:
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) - العصر