إن الأسباب الداعية إلى ضياع الأحكام وتحريفها كثيرة ، وحيث أن المقام لا يستدعي بسط الكلام في هذه المسألة ، فإننا سنذكر أمرين مهمّين كان لهما بالغ الأثر في حصول ذلك :
الأمر الأول : عدم اتِّباع أهل البيت عليهم السلام والتمسّك بهم.
وقد تقدّم مفصَّلا بيان أن التمسك بأهل البيت عليهم السلام سبب للنجاة من الضلال والأمن من الوقوع في الهلكات في الفصل الثالث. وبما أن أهل السنة أعرضوا عنهم عليهم السلام واتّبعوا غيرهم ، فإن النتيجة التي لا مفرّ منها هي الوقوع في الضلال ، الذي يتمثّل في ضياع الأحكام وتحريف الشريعة المقدسة.
الأمر الثاني : اتّباع كل مَن هبَّ ودَرَجَ من الصحابة.
فإن أهل السنّة لما قالوا بعدالة كل الصحابة وقداستهم ، ورأوا أن كل مَن رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو ثقة عدْل ، تؤخذ منه أحكام الدين وشرائع الإسلام ، وإن كان من المنافقين والطلقاء والأعراب والأجلاف وأعداء أمير المؤمنين عليه السلام ، فحينئذ من الطبيعي أن تُختلق الأحاديث وتتبدّل الأحكام ، سواء كان ذلك بعمد وقصد ، أم كان بغفلة وجهل.
هذا وقد سُئل أمير المؤمنين عليهم السلام عما في أيدي الناس من الأحاديث فقال عليهم السلام :
إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً ، وناسخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وحفظاً ووهماً. وقد كُذِب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده حتى قام خطيباً ، فقال : « مَن كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقامه من النار » ، وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ، ليس لهم خامس :
رجل منافق مُظهِر للإيمان ، متصنِّع بالإسلام ، لا يتأثَّم ولا يتحرَّج ، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمّداً ، فلو علِم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ، ولم يصدِّقوا قوله ، ولكنهم قالوا : صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، رآه وسمع منه ، ولَقِف عنه ، فيأخذون بقوله ، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ، ووصَفهم بما وصفهم به لك ، ثم بقوا بعده ، فتقرَّبوا إلى أئمة الضلال والدعاة إلى النار بالزور والبهتان ، فولَّوهم الأعمال ، وجعلوهم حُكَّاماً على رقاب الناس ، فأكلوا بهم الدنيا ، وإنما الناس مع الملوك والدنيا ، إلا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحفظه على وجهه ، فوَهِمَ فيه ، ولم يتعمَّد كذباً ، فهو في يديه ، ويرويه ويعمل به ، ويقول : أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلو علم المسلمون أنه وَهِمَ فيه لم يقبلوه منه ، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر به ، ثم إنه نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شيء ، ثم أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنه منسوخ لَرَفَضَه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله ، مبغض للكذب خوفاً من الله ، وتعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لم يَهِم ، بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به على ما سمعه ، لم يزد فيه ولم ينقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنَّب عنه ، وعرف الخاص والعام والمحكم والمتشابه ، فوضع كل شيء موضعه ، وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام له وجهان ، فكلام خاص وكلام عام ، فيسمعه مَن لا يعرف ما عنى الله سبحانه به ، ولا ما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيحمله السامع ويوجِّهه على غير معرفة بمعناه وما قُصِد به ، وما خرج من أجله ، وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَن كان يسأله ويستفهمه ، حتى إن كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا ، وكان لا يمرّ بي من ذلك شيء إلا سألته عنه وحفظته. فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعِلَلِهم في رواياتهم (1).
أقـول : بهذا كله يُعلَّل اختلاف الحديث عند أهل السنة ، وما تبع ذلك من اختلاف فتاواهم في أكثر الفروع الفقهية ، حتى صار كل مذهب يحتج على ما ذهب إليه بأحاديث يرويها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى المسائل التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكرِّرها كل يوم أمام الناس مرات ومرات كالوضوء والصلاة وغيرهما ولم تسلم أيضاً من الخلاف والاختلاف.
خلاصة البحث :
لقد اتضح من كل ما تقدَّم أن أهل السنة لم يبق عندهم شيء من أحكام الدين مما كان على زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا حُرِّف وبُدِّل ، حتى الصلاة لم تسلم من التغيير والتحريف كما نصَّت عليه الأحاديث الصحيحة عندهم ، وكما شهد به مَن أدرك الحوادث من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلينظر أهل السنة ـ هداهم الله ـ بعد هذا بمَ يأخذون ، وأي مسلك يسلكون ، وأي نهج ينهجون ، فإن السُّبُل واضحة ، والأمور منكشفة ، وسُفُن النجاة معلومة ، فلا يغرَّنهم الشيطان ، ولا يأخذنَّهم التعصب ، ويستحوذ عليهم العناد ، فإنهم يوم القيامة مسؤولون ، وعلى أعمالهم محاسَبون ، فليبادروا إلى التمسّك بأهل البيت عليهم السلام الذين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأتباعهم ، قبل فوات الفوت وحلول الموت. ( وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا أوَلَوا كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ).