لقد دلَّت الروايات الكثيرة على أن وقوع التحريف في أحكام الدين قد وقع من بعض صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته.
منها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، والترمذي في سننه وصحَّحه ، والنسائي في سننه ، و أحمد في المسند عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث ـ قال : ألا وإنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح : ( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ) (3).
ومنها : ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة أنه كان يحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يرِد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي ،
(1) راجع اُسد الغابة 1|296 ، تهذيب الكمال 3|376 ـ 377 ، النجوم الزاهرة 1|224 ، تهذيب التهذيب 1|330 وغيرها.
(2) قال ابن عبد البر في الاستيعاب 1|111 : يقال إنه آخر من مات بالبصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أعلم أحداً مات بعده ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا الطفيل عامر بن واثلة.
(3) صحيح البخاري 6|69 كتاب التفسير ، باب سورة المائدة ، 6|122 سورة الانبياء ، 8|136 كتاب الرقاق ، باب 45. صحيح مسلم 4|2195 كتاب الجنة ... باب 14 ، سنن الترمذي 5|321 ـ 322 قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. سنن النسائي 4|117 وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 2|449. مسند أحمد 1|235 ، 253.
فيُحَلَّون (1) عن الحوض ، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (2).
وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال : يرِد عليَّ الحوض رجال من أصحابي ، فيحلّؤون عنه ، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (3).
ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه ، وأحمد بن حنبل في المسند وغيرهما عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا فرَطكم (4) على الحوض ، ولأُنازَعَنَّ أقواماً ثم لأُغلَبَنَّ عليهم (5) ، فأقول : يا رب ، أصحابي أصحابي. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (6).
ومنها : ما أخرجه البخاري ـ واللفظ له ـ ومسلم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله : إني فرَطكم على الحوض ، من مرَّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، لَيَرِدن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم.
قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت : نعم. فقال : أَشهدُ على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : فأقول : إنهم مني. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سُحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي (7).
(1) أي يطردون ويبعدون.
(2) صحيح البخاري 8|150 كتاب الرقاق ، باب في الحوض.
(3) المصدر السابق 8|150.
(4) أي سابقكم ومتقدمكم.
(5) أي سأجادل عن أقوام رغبة في خلاصهم فلا ينفعهم ذلك.
(6) صحيح مسلم 4|1796 كتاب الفضائل ، باب رقم 9. مسند أحمد بن حنبل 1|384 ، 406 ، 407 ، 425 ، 453.
(7) صحيح البخاري 8|150. صحيح مسلم 4|1793.
ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وأحمد في المسند وغيرهم ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لَيَرِدَنَّ عليَّ ناس من أصحابي الحوض ، حتى إذا عرفتهم اختُلِجوا دوني ، فأقول : أصحابي. فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك (1).
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي رواها حفَّاظ الحديث من أهل السنة بطرق كثيرة جداً وبألفاظ متقاربة ، وفيما ذكرناه كفاية (2).
تأملات في هذه الأحاديث :
قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أقوام » يدل على كثرة من بدَّل وأحدث بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنه يستفاد كثرة ما حُرِّف في الدين وبُدِّل ، لأنه إذا كان الذين بدّلوا أقواماٌ فلا ريب في أن الذي بُدّل يكون كثيراً ، لأن ما بدَّله بعضهم لا يصح نسبته إلى غيره.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « من أصحابي » ظاهر في أن أولئك المبدِّلين في الدين والمحدِثين فيه هم ممن صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخالطه.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ارتدوا على أدبارهم القهقرى :
الارتداد : هو الرجوع ، أعم من أن يكون من الدين أو من غيره ، و إن غلب إطلاقه على الرجوع عن الدين ، وهو محتمل في هذه الأحاديث ، إلا أن قوله : « أحدثوا » ظاهر في أنهم كانوا باقين على الإسلام ، لأن المرتد عن
(1) صحيح البخاري 8|149. صحيح مسلم 4|1800. مسند أحمد بن حنبل 3|281 ، 5|48 ، 50.
(2) راجع إن شئت صحيح البخاري 8|148 ـ 150 ، وصحيح مسلم 1|217 ، 4|1794 ـ 1796 ، سنن الترمذي 4|615 ـ 616. سنن ابن ماجة 2|1016. مسند أحمد 1|254 ، 402 ، 439 ، 455 ، 3|28 ، 102 ، 5|388 ، 393 ، 400 ، 412. صحيح ابن خزيمة 1|7. مجمع الزوائد 10|364 ـ 365. صحيح سنن ابن ماجة 2|182. الموطأ ، ص23. مختصر إتحاف السادة المهرة 10|594. مسند ابن أبي شيبة 1|86 ، 94.
الدين بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكنه أن يُحدِث في الإسلام شيئاً ، اللهم إلا إذا كان يبطن خلاف ما يُظهِر ، ولعل المراد بالارتداد هو الرجوع عن بعض الواجبات الدينية المهمة ، والتنصّل منها بعد توكيدها ، كبيعة أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة كما سيتّضح في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.
وعلى هذا يكون المراد في هذه الأحاديث : أنهم أحدثوا في الدين ما أحدثوا ، وبدَّلوا في أحكام الله ما بدَّلوا.
وبما أن هذا المعنى يثير سؤالاً ، وهو : أنهم إذا كانوا قد اتّبعوا الخليفة الحق المنصوص عليه من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف تأتّى لهم أن يُحدِثوا في الدين ما شاءوا ؟ أجاب بقوله : « إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى » أي رجعوا عن ما وقع منهم أو أُمِروا به من البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام.
أحكام محرَّفة وبِدَع مستحدثة :
لقد روى القوم أحاديث كثيرة تدل على أن كثيراً من أحكام الدين قد غُيِّرت وبُدّلت ، وكثيراً من البِدع قد استُحدِثت ، وهذه الأحكام والبِدَع قد بقيت إلى يومنا هذا ، يعمل الناس بها ، ويتعبدون على طبقها.
وبما أن تلكم الأحاديث كثيرة جداً ، وسردها كلّها يستلزم الإطالة ، وضياع المهم الذي نريد بيانه ، فإنا سنذكر بعض الموارد التي وقع فيها ذلك ، وسنذكر من الأحاديث ما يكون صحيحاً عندهم ، وهذه الروايات نقسمها إلى طوائف :
الطائفة الأولى : دلَّت على حلية نكاح المتعة , وأن تحريمها وقع بعد زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
منها : ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عطاء قال : قدم جابر بن عبد الله معتمراً ، فجئناه في منزله ، فسأله القوم عن أشياء ، ثم ذكروا المتعة ، فقال : نعم استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.
ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث (1).
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة في هذه المسألة (2).
وقد ذكر تحريم عمر للمتعة السيوطي في تاريخ الخلفاء (3) ، وأبو هلال العسكري في كتاب الاوائل (4) وغيرهما.
الطائفة الثانية : دلَّت على أن بعضهم حرَّم متعة الحج مع أنها كانت ثابتة في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
منها : ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين قال : أُنزلت أية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن يحرِّمه ولم ينهَ عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء (5).
ومنها : ما أخرجه البخاري في صحيحه والنسائي في سننه عن مروان بن الحكم قال : شهدت عثمان وعليّاً رضي الله عنهما ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يُجمع بينهما ، فلما رأى عليٌّ أهلَّ بهما لبّيك بعمرة وحجّة ، قال : ما كنت لأدع سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد (6).
وفي رواية أخرى : فقال عليٌّ : ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله النبي
(1) صحيح مسلم 2|1023 كتاب النكاح ، باب 13.
(2) راجع مسند أحمد 3|380 ، 4|429 ، 438 ، 439.
(3) تاريخ الخلفاء ، ص108.
(4) الأوائل 1|240 ، ص112 ط الباز.
(5) صحيح البخاري 6|33 التفسير ، سورة البقرة.
(6) صحيح البخاري 2|175 الحج ، باب التمتع والإقران ... سنن النسائي بشرح السيوطي 5|148.
صلى الله عليه وسلم ؟! (1).
ومنها : ما أخرجه النسائي في سننه عن ابن عباس قال : سمعت عمر يقول : والله إني لأنهاكم عن المتعة ، وإنها لفي كتاب الله ، ولقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني العمرة في الحج (2).
ومنها : ما أخرجه النسائي في سننه عن طاووس أنه قال في حديث : يقول ابن عباس : هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة وقد تمتَّع النبي صلى الله عليه وسلم (3).
ومنها : ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال : تمتّع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان ، وأول من نهى عنها معاوية
(4).
والأحاديث في هذه المسألة كثيرة لا تحصى.
الطائفة الثالثة : دلَّت على أن التطليقات الثلاث بصيغة واحدة كانت تُعَدّ واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فجُعلت ثلاثاُ :
منها : ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس ، قال : كان الطلاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم (5).
ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه ، والنسائي وأبو داود في
(1) المصدر السابق 2|176.
(2) سنن النسائي بشرح السيوطي 5|153 ، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 2|578.
(3) سنن النسائي بشرح السيوطي 5|154 ، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 2|578.
(4) سنن الترمذي 3|185 قال الترمذي : حديث ابن عباس حديث حسن. وفيه ما دل على أن عمر كان ينهى عن متعة الحج.
(5) صحيح مسلم 2|1099 الطلاق ، باب طلاق الثلاث.
سُننهما أن أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم أنما كانت الثلاث تُجعل واحدةعلىعهدالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثاً من أمارة عمر ؟ فقال ابن عباس : نعم (1).
وفي رواية أخرى عند مسلم قال ابن عباس : قد كان ذلك ، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق ، فأجازه عليهم.
الطائفة الرابعة : دلَّت على أن قيام الليل في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤدَّى فرادى ، فصار جماعة ، وهو ما يسُمّى بصلاة التراويح (2).
منها : ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه.
قال ابن شهاب : فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك ، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما.
ومنها : ما أخرجه البخاري في صحيحه ، ومالك في الموطأ ، وغيرهما عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب ، ثم خرجتُ معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نِعْمَ البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ، يريد آخر الليل ، وكان
(1) صحيح مسلم 2|1099 الطلاق ، باب طلاق الثلاث. سنن أبي داود 2|261. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2|415. سنن النسائي بشرح السيوطي 6|145 ، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 2|718 ، وإرواء الغليل 7|122.
(2) صلاة التراويح : هي صلاة النافلة جماعة في ليالي شهر رمضان ، وسميت بالتراويح لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين. ولم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصلى جماعة ، وأول من جمع الناس فيها على إمام هو عمر بن الخطاب.
الناس يقومون أوّله (1).
هذا وقد اعترف جمع من العلماء بأن عمر بن الخطاب هو أول من سنَّ صلاة التراويح جماعة.
قال ابن سعد في الطبقات : وهو ـ يعني عمر ـ أول من سنَّ قيام شهر رمضان ، وجمع الناس على ذلك ، وكتب به إلى البلدان ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة ، وجعل للناس قارئين : قارئاً يصلّي بالرجال ، وقارئاً يصلي بالنساء (2).
وذكر ذلك في أوليات عمر : أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل (3) ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء (4) ، وكتاب الوسائل (5).
والغريب في هذه المسألة أن أهل السنة يلتزمون بصلاة التراويح في شهر رمضان في المساجد ، ويحرصون عليها ، مع أن أحاديثهم نطقت بأن صلاة النافلة في البيت أفضل.
ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما والترمذي وأبو داود والنسائي والدارمي في سُننهم ، ومالك في الموطأ ، وأحمد في المسند وغيرهم ، عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتَّخذ حجرة ـ قال : حسِبْتُ أنه قال : من حصير ـ في رمضان ، فصلّى فيها ليالي ، فصلى بصلاته ناس من أصحابه ، فلما علم بهم جعل يقعد ، فخرج إليهم فقال : قد عرفتُ الذي رأيتُ من صنيعكم ، فصَلّوا أيها الناس في بيوتكم ، فإن أفضل الصلاة صلاةُ
(1) صحيح البخاري 2|595 صلاة التراويح ، ب1 ( ط مرقمة ). الموطأ ، ص59 ح247. الجمع بين الصحيحين 1|131.
(2) الطبقات الكبرى 3|281.
(3) الأوائل 1|229.
(4) تاريخ الخلفاء ، ص108.
(5) الوسائل في مسامرة الأوائل ، ص33.
المرء في بيته إلا المكتوبة (1).
وقوله : ( يُصلّون بصلاته ) لا يدل على أنهم كانوا يصلون معه جماعة ، بل كانوا يصلّون مع صلاته ، فهم يصلّون فرادى ، فالباء في ( بصلاته ) بمعنى مع ، مثل قولهم : بعتك الدار بأثاثها. أي مع أثاثها. لأن صلاة الجماعة لا تتم والإمام داخل الحجرة ، والمأمومون خارجها.
قال ابن حجر : مقتضاه أنهم كانوا يصلّون بصلاته وهو داخل الحجرة ، وهم خارجها (2).
الطائفة الخامسة : دلَّت على أن جلد شارب الخمر ثمانين جلدة استُحدث بعد زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
منها : ما أخرجه البخاري في صحيحه عن السائب بن يزيد قال : كنا نُؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر ، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا ، حتى كان آخر إمرة عمر ، فجَلد أربعين ، حتى عَتَوا وفسَقوا جَلد ثمانين (3).
وأخرج مسلم في الصحيح ، وأبو داود في سُننه عن أنس بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل قد شرب الخمر ، فجلده بجريدتين نحو أربعين.
قال : وفعله أبو بكر ، فلما كان عمر استشار الناس ، فقال عبد
1) صحيح البخاري 1|228 الأذان ، ب81 ح731. صحيح مسلم 1|539 صلاة المسافرين ، ب29 ح781. سنن الترمذي 2|312 ح450. سنن ابي داود 1|274 ح1044 ، 2|69 ح1447. الموطأ ، ص66 ح288. سنن الدارمي 1|317. مسند أحمد بن حنبل 31|262 ، 274 ، 282 ح 21665 ، 21686 ، 21709 ( تتمة ط شاكر ).
(2) فتح الباري 2|170.
(3) صحيح البخاري 4|2116 الحدود ، ب4 ( ط مرقمة ).
الرحمن : أخف الحدود ثمانين. فأمر به عمر (1).
وأخرج أبو داود والترمذي والدارمي في سُننهم عن أنس بن مالك : أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال ، وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين ، فلما ولي عمر دعا الناس فقال لهم : إن الناس قد دنوا من الريف ، فما ترون في حد الخمر ؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف : نرى أن تجعله كأخف الحدود. فجلد فيه ثمانين (2).
وقد اعترف بأن عمر هو أول من ضرب في الخمر ثمانين ابن سعد في الطبقات (3) ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء (4) ، وكتاب الوسائل (5) ، وأبو هلال العسكري في كتاب الأوائل (6) وغيرهم.
الطائفة السادسة : دلَّت على أن صلاة ركعتين بعد العصر كانت جائزة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، فنُهي عنها بعد ذلك.
ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه عن مختار بن فلفل قال : سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر ، فقال : كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر... (7)
(1) صحيح مسلم 3|1330 ، الحدود ، ب8. سنن أبي داود 4|163.
(2) سنن أبي داود 4|163 ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3|847. سنن الترمذي 4|48 قال الترمذي : حديث أنس حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وغيرهم أن حد السكران ثمانون. سنن الدارمي 2|175.
(3) الطبقات الكبرى 3|281 ـ 282.
(4) تاريخ الخلفاء ، ص108.
(5) الوسائل في مسامرة الاوائل ، ص55.
(6) الاوائل 1|238.
(7) صحيح مسلم 1|573 صلاة المسافرين ، ب55.
ومنها : ما أخرجه أحمد في المسند والطبراني في المعجم الكبير عن زيدبن خالد الجهني أنه رآه عمر بن الخطاب وهو خليفة ركع بعد العصر ركعتين ، فمشى إليه فضربه بالدرة وهو يصلي كما هو ، فلما انصرف قال زيد : يا أمير المؤمنين فوالله لا أدَعها أبداً بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما. قال : فجلس إليه عمر وقال : يا زيد بن خالد لولا أني أخشى أن يتّخذها الناس سلماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب عليها (1).
ومنها : ما أخرجه الهيثمي عن عروة بن الزبير قال : خرج عمر على الناس فضربهم على السجدتين بعد العصر ، حتى مرَّ بتميم الداري فقال : لا أدَعهما ، صلّيتهما مع من هو خير منك : رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر : إن الناس لو كانوا كهيئتك لم أُبالِ (2).
والأحاديث التي دلَّت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّيهما ، بل كان مداوماً عليهما كثيرة :
منها : ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة قالت : ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَعُهما سرّاً ولا علانية : ركعتان قبل صلاة الصبح ، وركعتان بعد العصر (3).
ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ـ واللفظ لمسلم ـ والنسائي وأبو داود والدارمي في سننهم وغيرهم عن عائشة قالت : ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قط.
(1) مسند أحمد بن حنبل 4|115 ، المعجم الكبير 5|228 ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2|223 : رواه أحمد والطبراني في الكبير ، وإسناده حسن.
(2) مجمع الزوائد 2|222 ، قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح في الكبير والأوسط...
(3) صحيح البخاري 1|193 مواقيت الصلاة ، ب33 ( ط مرقمة ). صحيح مسلم 1|572 صلاة المسافرين ، ب54. سنن النسائي 1|304 ـ 305 ( ط محققة ).
وقالت : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيني في يوم بعد العصر ، إلا صلّى ركعتين (1).
الطائفة السابعة : دلَّت على أن بعضهم أعال الفرائض ، ولم يكن هذا العول ثابتاً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك وصحَّحه ، والبيهقي في السنن وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أول من أعال الفرائض عمر رضي الله عنه ، وأيم الله لو قُدَّم من قدَّم الله ، وأُخَّر من أخّر الله ما عالت فريضة (2).
وقد نص غير واحد من علماء أهل السنّة على أن أول من قال بالعول هو عمر :
قال السيوطي : أول من قال بالعول في الفرائض عمر بن الخطاب (3).
وقال أبو هلال العسكري : أول من أعال الفرائض عمر رضي الله عنه (4).
والعول في الفرائض : هو زيادة فروض الورثة بحيث لا يتّسع لها المال. مثل : امرأة ماتت ولها زوج وأختان لأبوين : فالزوج له النصف ، والأختان لهما الثلثان ، ولو جعلنا التركة ستة أسهم ، فالزوج له ثلاثة ، والأختان لهما أربعة ، وهي تساوي سبعة ، فتكون قد عالت على أصل المال.
(1) صحيح البخاري 1|193 مواقيت الصلاة ، ب33 ( ط مرقمة ). صحيح مسلم 1|572 صلاة المسافرين ، ب54. سنن النسائي 1|304 ـ 305 ( ط محققة ). وعند أبي داود 2|25 : ما من يوم يأتي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا صلى بعد العصر ركعتين. ( صححه الألباني في صحيح سنن ابي داود 1|238 ). سنن الدارمي 1|334.
(2) السمتدرك 4|340 قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. السنن الكبرى 6|253. أحكام القران 2|90. المغني 7|27. المحلى 8|279.
(3) الوسائل في مسامرة الأوائل ، ص48. وذكر ذلك في اوليات عمر في تاريخ الخلفاء ، ص108.
(4) الأوائل 1|256.
وذهب الجمهور تبعاً لعمر بن الخطاب إلى أن النقص يرد على الجميع ، فتُجعل التركة سبعة أسهم ، ويكون للزوج ثلاثة من سبعة ( ثلاثة أسباع ) التركة ، وللأختين أربعة من سبعة ( أربعة أسباع ).
وذهب الشيعة الإمامية تبعاً لأئمة أهل البيت عليهم السلام إلى تقديم أصحاب السهام المؤكَّدة الذين لا ينتقلون من فرض إلى فرض ، كالزوجين والأبوين على البنات والأخوات ، فيُجعل الباقي لهن. ففي فرض المسألة يأخذ الزوج ثلاثة من ستة ، والباقي للأختين.
وهذا هو رأي ابن عباس رضي الله عنه ، وقد أوضحه في الحديث المذكور آنفاً.
قال الزهري : وأيم الله ، لولا أنه تَقَدَّمَ ابنَ عباس إمامُ عدل ، فأمضى أمراً فمضى ، وكان أمراً ورعاً ، ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم (1).
الطائفة الثامنة : دلَّت على أن التثويب بدعة.
منها : ما أخرجه الترمذي عن مجاهد قال : دخلت مع عبد الله بن عمر مسجداً ، وقد أَذَّن فيه ، ونحن نريد أن نصلي فيه ، فَثَوَّبَ المؤذّن ، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد ، وقال : اخرُجْ بنا من عند هذا المبتدع. ولم يصَلِّ (2).
ومنها : ما أخرجه أبو داود في سننه عن مجاهد ، قال : كنت مع ابن عمر ، فثوَّب رجل في الظهر أو العصر ، قال : اخرج بنا ، فإن هذه بدعة (3).
والتثويب : هو قول : ( الصلاة خير من النوم ) أو غيره في أذان صلاة الفجر أو غيرها.
(1) أحكام القرآن 2|90. السنن الكبرى 6|253. المحلى 8|281.
(2) سنن الترمذي 1|381.
(3) سنن ابي داود 1|148 ح538. أورده الألباني في صحيح سنن ابي داود 1|108 ح504 وقال : حسن. وكذلك في إرواء الغليل 1|254. السنن الكبرى 1|424.
وقسَّم بعضهم التثويب إلى قسمين : تثويبٌ سُنة ، وتثويبٌ بدعة ، واختلفوا في البدعة من التثويب ، فقال أحمد بن حنبل وابن المبارك : هو قول ( الصلاة خير من النوم ) في أذان الفجر.
وقال إسحاق بن راهويه : هو أن المؤذن إذا استبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح. قال : وهو التثويب الذي كرهه أهل العلم ، والذي أحدثوه بعد النبي صلى الله عليه وسلم (1).
قال الترمذي : والذي فسَّر ابنُ المبارك وأحمد : أن التثويب أن يقول المؤذن في أذان الفجر : ( الصلاة خير من النوم ) ، وهو قول صحيح... وهو الذي اختاره أهل العلم ورأوه.
وقال الصنعاني في سبل السلام : شرعية التثويب إنما هي في الأذان الأول للفجر ، لأنه لإيقاظ النائم ، وأما الأذان الثاني فإنه إعلام بدخول الوقت ودعاء إلى الصلاة (2).
وقال الزيلعي في نصب الراية : أحاديث التثويب : وهو مخصوص عندنا بالفجر... وفيه حديثان ضعيفان : أحدهما للترمذي وابن ماجة... عن بلال قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أثوِّب في شيء من الصلاة إلا في صلاة الفجر.. والحديث الثاني أخرجه البيهقي... ولكن اختلفوا في التثويب ، فقال أصحابنا ـ يعني الحنفية ـ هو أن يقول بين الأذان والإقامة : « حي على الصلاة ، حي على الفلاح » مرتين. وقال الباقون : هو قوله في الأذان : الصلاة خير من النوم (3).
وحاصل كلامهم أن التثويب البدعة هو زيادة قول : ( الصلاة خير من النوم ) في أذان الفجر وفي غيرها من الصلوات ، أو زيادة غيرها بين الأذان
(1) نقلنا كلا القولين عن سنن الترمذي 1|380.
(2) سبل السلام 1|250.
(3) نصب الراية 1|279.
والإقامة في عامة الصلوات ، وأما زيادة ( الصلاة خير من النوم ) في الأذان الأول في الفجر فهو سنة عندهم.
ومنه يتضح أن ما يفعله أهل السنة في هذه الأعصار من قول ( الصلاة خير من النوم ) في أذان الفجر فهو بدعة.
هذا إذا صحّت الروايات الدالة على أن ( الصلاة خير من النوم ) جزء من الأذان الأول لصلاة الصبح ، والذي يظهر من بعض الروايات أن عمر بن الخطاب هو أول من وضعها في أذان صلاة الفجر ، فقد أخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر يُؤْذِنه لصلاة الصبح ، فوجده نائماً ، فقال : الصلاة خير من النوم. فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح (1).
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف بلفظ متقارب (2).
وأخرج الدارقطني في سُننه عن ابن عمر ، عن عمر أنه قال لمؤذِّنه : إذا بلغت ( حي على الفلاح ) في الفجر ، فقل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم (3).
وقال الشوكاني في نيل الأوطار : قال في البحر : أحدثه عمر فقال ابنه : هذه بدعة. وعن علي عليه السلام حين سمعه : لا تزيدوا في الأذان ما ليس منه (4).
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : ما ابتدعوا بدعة أحب إلي من التثويب في الصلاة. يعني العشاء والفجر (5).
_(1) الموطأ ، ص42 ، ح151.
(2) المصنف 1|189 ح2159.
(3) سنن الدارقطني 1|243.
(4) نيل الأوطار 2|38.
(5) المصنف 1|190 ح2170. وهو حديث صحيح عندهم ، رواه ابن أبي شيبة عن وكيع ، عن سفيان ، عن ابن الاصبهاني ، وهو عبد الرحمن بن عبدالله ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وكلهم ثقات عندهم.
فعلى ذلك تكون هذه الجملة بدعة في أي أذان قيلت.
ولا يُعتد بكلام السرخسي في المبسوط : أما المتأخرون فاستحسنوا التثويب في جميع الصلوات ، لأن الناس قد ازداد بهم الغفلة ، وقلّما يقومون عند سماع الأذان ، فيستحسن التثويب للمبالغة في الإعلام (1).
وذلك لأنه إذا كان بدعة كما نص عليه أعلام أهل السنة فلا يختلف الحال فيها في جميع الأزمان والأحوال ، فلا يصح أن يُزاد في الأذان أو في غيره من العبادات أية زيادة بأي اعتبار من الاعتبارات.
هذا قليل من كثير ، وأمثاله لا يكاد يحصى ، وهو مبثوث في كتبهم ، ولوأردنا أن نستقصي أشباه هذه الطوائف لطال بنا المقام ، وفيما ذكرناه كفاية.