السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قد خلق الله سبحانه العالم التكويني على أساس الأسباب والمسبّبات ، فلكل ظاهرة في الكون سبب عادي يؤثّر فيها بإذنه سبحانه، فالماء مثلا يؤثّر على الزرع بصريح هذه الاية: (( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم )) (البقرة:22)، والباء في الآية بمعنى السببية والضمير يرجع الى الماء ، وهذا ليس بمعنى تفويض النظام لهذه الظواهر المادية ، والقول بتأصّلها في التأثير واستقلالها في العمل ، بل الكل متدلّ بوجوده سبحانه، قائم به ، تابع لمشيئته وإرادته وأمره .
هذا هو الذي نفهمه من الكون ويفهمه كل من أمعن النظر فيه ، فكما أنّ الحياة الجسمانية قائمة على أساس الاسباب والوسائل ، فهكذا نزول فيضه المعنوي سبحانه الى العباد تابع لنظام خاص كشف عنه الوحي ، فهدايته سبحانه تصل الى الانسان عن طريق ملائكته وأنبيائه ورسله وكتبه ، فالله سبحانه هو الهادي (( والله يريد الحق وهو يهدي السبيل )) (الاحزاب:4) ، والقران أيضا هو الهادي (( إنّ هذا القران يهدي للتي هي أقوم )) (الاسراء : 9) ، والنبي الاكرم (ص) أيضـاً هو الهـادي ولكن في ظل إرادة الله سبحـانه (( وإنّك لتهدي الى صراط مستقيم )) (الشورى:52).
فهداية الله تعالى تصل الى الانسان عن طريق الأسباب والوسائل التي جعلها الله سبحانه طريقا لها ، وإلى هذا الأصل القويم يشير الامام الصادق (عليه السلام) في كلامه ويقول : ( أبى الله أن تجري الاشياء إلاّ بأسباب فجعل لكل شيء سبباً ، وجعل لكل سبب شرحاً ) (الكافي : 1/183) .
فعلى ضوء هذا الاساس فالعالم المعنوي يكون على غرار العالم المادي، فللأسباب سيادة وتأثير بإذنه سبحانه، وقد شاء الله أن يكون لها دور في كلتا النشأتين ، فلا غرور لمن يطلب رضا الله أن يتمسك بالوسيلة ، قال الله سبحانه : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلّكم تفلحون )) (المائدة:35).
فالله سبحانه حثّنا للتقرب إليه على التمسك بالوسائل وابتغائها ، والآية دعوة عامة لا تختص بسبب دون سبب ، بل تأمر بالتمسك بكل وسيلة توجب التقرب إليه سبحانه، وعندئذ يجب علينا التتبّع في الكتاب والسنّة ، حتى نقف على الوسائل المقرّبة إليه سبحانه، وهذا ممّا لا يعلم إلاّ من جانب الوحي ، والتنصيص عليه في الشريعة ، ولولا ورود النص لكان تسمية شيء بأنّه سبب للتقرّب بدعة في الدين ، لأنّه من قبيل إدخال ما ليس من الدين في الدين .
ونحن إذا رجعنا إلى الشريعة نقف على نوعين من الأسباب المقرّبة إلى الله سبحانه:
النوع الأوّل : الفرائض والنوافل التي ندب إليها الكتاب والسنّة ، ومنها التقوى ، والجهاد الواردين في الآية ، وإليه يشير عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ويقول : (إنّ أفضل ما توسل به المتوسّلون إلى الله سبحانه وتعالى ، الإيمان به ، وبرسوله ، والجهاد في سبيله فإنّه ذروة الإسلام ، وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة ، وإقام الصلاة فإنّها الملّة ، وإيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة ، وصوم شهر رمضان فإنّه جفنّة من العقاب ، وحجّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ، ويرحضان الذنب ، وصلة الرحم فإنّها مثراة في المال ، ومنسأة في الأجل ، وصدقة السرّ فإنّها تكفّر الخطيئة، وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السوء وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان)(نهج البلاغة، الخطبة: 110).
غير أنّ مصاديق هذا النمط من الوسيلة لا تنحصر في ما جاء في الآية أو في تلك الخطبة بل هي من أبرزها .
النوع الثاني : وسائل ورد ذكرها في الكتاب والسنّة الكريمة ، وحثّ عليها الرسول(ص) وتوسّل بها الصحابة والتابعون وكلّها توجب التقرّب إلى الله سبحانه .
ومن تلك الوسائل المقرّبة هم أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
فقد ورد في بعض الروايات ان المراد من الوسيلة في قوله تعالى (( وابتغوا اليه الوسيلة )) (المائدة:35) هم أهل البيت (عليهم السلام) منها :
1- قال رسول الله (ص) : (الائمة من ولد الحسين (عليهم السلام) ، من أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن عصاهم فقد عصى الله ، هم العروة الوثقى وهم الوسيلة الى الله تعالى) .
2- قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: (( وابتغوا اليه الوسيلة )): (أنا وسيلته) .
3- ورد في زيارة الجامعة الكبيرة المنسوبة الى الامام الهادي (عليه السلام): (... مستشفع الى الله عز وجل بكم ومتقرّب بكم اليه ومقدّمكم أمام طلبتي وحوائجي وإرادتي في كلّ احوالي واموري ...) .
4- ورد في دعاء التوسل عن الائمة (عليهم السلام) : (يا سادتي وموالي اني توجهت بكم أئمتي وعدّتي ليوم فقري وحاجتي الى الله وتوسلت بكم الى الله واستشفعت بكم الى الله ...).
5- ورد في دعاء الندبة : (وجعلتهم الذريعة اليك والوسيلة الى رضوانك).
هذا وكانت سيرة أصحاب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يتوسلون بدعائهم ، لان التوسل بدعاء الامام لأجل أنّه دعاء روح طاهرة ، ونفس كريمة ، وشخصية مثالية. ففي الحقيقة ليس الدعاء بما هو دعاء وسيلة ، وإنّما الوسيلة هي الدعاء النابع عن تلك الشخصية الإلهية التي كرّمها الله وعظّمها ورفع مقامها وذكرها وقال : (( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا )) (الاحزاب:33).
فهذا هو علي بن محمد الحجال كتب الى أبي الحسن الامام الهادي (عليه السلام) وجاء في كتابه : (( أصابتني علّة في رجلي ولا أقدر على النهوض والقيام بما يجب فإن رأيت أن تدعو الله أن يكشف علّتي ويعينني على القيام بما يجب عليّ وأداء الأمانة في ذلك ...)) (كشف الغمة : 3 / 251) .
وذكر ابن حجر المكي في كتابه (الصواعق المحرقة : 180 ، ط مكتبة القاهرة) توسل الامام الشافعي بآل البيت (عليهم السلام) : آل النبـي ذريعتـي وهم إليـه وسيلتـي
أرجو بهم اعطى غداً بيدي اليمين صحيفي
وقال الشاعر صاحب بن عبّاد في ذلك :
واذا الرجـال توسّلوا بوسيلة فوسيلـتي حبّـي لآل محمـّد
الله طهّرهـم بفضل نبيّهـم وأبان شيعتهم بطيـب المولـد
فهم امان الله كالنجوم وأنّهم سفن النجاة من الحديث المسند
ثم من المتفق عليه جواز التوسل بدعاء الرجل الصالح وبحقّه وحرمته ومنزلته فكيف بمن هم سادة الصلحاء وقدوة الصلحاء الا وهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؟!!
ودمتم في رعاية الله