بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلى على محمد وال محمد
تحيات محب وخادم محمد واله الطبين الطاهرين
اللهم صلى ملى محمد وال محمد
هذا المقال احد فصول كتاب من وحي الثورة الحسينية للعلامة الفقيد السيد هاشم معروف الحسني .
السؤال الذي يراود الأذهان في المقام و يفرض نفسه هو ان الحسين ( عليه السَّلام ) لقد عاصر معاوية مع أبيه و أخيه و عاصره بعد أخيه كما ذكرنا نحواً من عشر سنوات و كان وحده مهوى الافئدة و محط آمال المعذبين و المشردين و المضطهدين و لم يترك معاوية خلال تلك المدة من حكمه باباً من أبواب الظلم الا و انطلق منه و لا منفذا للتسلط على الناس إلا و أطل منه فقتل آلاف الصلحاء و عذب و شرد و اضطهد مئات الالوف بلا جرم ارتكبوه و لا بيعة نقضوها ، و كان ذنبهم الأول و الأخير هو ولائهم لعلي و آل علي و كان القدوة لجميع من جاء بعده من الأمويين في جورهم و استهتارهم بالقيم و المقدسات و تحوير الإسلام إلى الشكل الذي يحقق أحلام أبي جهل و أبي سفيان و غيرهما من طواغيت القرشيين و الأمويين ، و لم يكن ولده إبن ميسون إلا صنيعة من صنائعه و سيئة من سيآته ، فلماذا و الحالة هذه قعد عن الثورة المسلحة في عهد معاوية مع وجود جميع مبرراتها و اكتفى بالثورة الإعلامية في حين ان المبررات التي دفعته على الثورة على يزيد كانت امتدادا لتلك التي كان يمارسها معاوية من قبله .
هذا التساؤل يبدو و لأول نظرة سليما و مقبولاً و لكنه بعد التدقيق و متابعة الأحداث التي كان المسلمون يعانون منها و واقع معاوية بن هند و الوسائل التي كان يستعملها لتغطية جرائمه لم يعد لهذا التساؤل ما يبرره ذلك لأن الواقع المرير الذي فرض على الإمام أبي محمد الحسن بن علي ( عليه السَّلام ) ان يصالح معاوية و يتنازل له عن السلطة الزمنية فرض على الحسين ان لا يتحرك عسكريا في عهد معاوية و أن يفرض على شيعته و أصحابه الخلود إلى السكينة و انتظار الوقت المناسب ، لأن الحسن لو حارب معاوية في تلك الظروف المشحونة بالفتن و المتناقضات مع تخاذل جيشه و تشتيت أهوائهم و آرائهم ، و مع شراء معاوية لأكثر قادتهم و رؤسائهم بالأموال و الوعود المغرية بالإضافة إلى ما كان يملكه من وسائل التضليل و الإعلام التي كان يستخدمها لتضليل الرأي العام ، لو حارب الحسن في تلك الظروف فكل الدلائل تشير إلى أن الحرب ستكلفه نفسه و نفس أخيه الحسين و إستئصال المخلصين من أتباعه و شيعته و لا ينتج منها سوى قائمة جديدة من الشهداء تضاف إلى القوائم التي دفنت في مرج عذراء و دمشق و الكوفة و غيرها من مقابر الشهداء الأبرار .
و بلا شك فان الإمام أبا محمد الحسن لم يكن يتهيب الشهادة لو كانت تخدم المصلحة العامة و تعدُّ المجتمع الإسلامي إعداداً سليما للثورة و التضحية بكل شيء في سبيل المبدأ و العقيدة كما فعلت ثورة الحسين في حينها التي قدمت للإنسان المسلم نمطاً جديداً من الثوار لا يستسلم للضغوط مهما بلغ حجمها و لا يسام على انسانيته و دينه و مبدأه مهماً كانت التضحيات ، و لم يكن الحسين أقل إدراكاً لواقع المجتمع العراقي من أخيه الحسن ، فقد رأى من خيانته و تخاذله و استسلامه للضغوط مثل ما رأى اخوه و أبوه من قبله لذلك كله فقد آثر التريث لبينما تتوفر لشهادته ان تعطي النتائج التي تخدم الإسلام و تبعث اليقظة و الروح النضالية في نفوس المسلمين و راح يعمل على تهيئة المجتمع الإسلامي للثورة و تعبئته لها بدل ان يحمل على القيام بثورة ستكون فاشلة في عهد معاوية و تكون نتائجها لغير صالحه .
لقد مضى على ذلك في حياة أخيه و بعد وفاته ففي حياته حينما جاءته وفود الكوفة تطلب منه ان يثور على معاوية بعد أن يئسوا من استجابة أخيه ، قال لهم : لقد صدق أخي أبو محمد فليكن كل رجل منكم حلسا من احلاس بيته ما دام معاوية حيا كما جاء في الأخبار الطوال للديمري ، و بعد أخيه كتبوا إليه و وفدوا عليه يسألونه القدوم عليهم و مناهضة معاوية فأصر على موقفه الأول و قال لهم : أما أخي فأرجو أن يكون قد وفقه الله و سدده فيما فعل و أمام انا فليس من رأيي أن تتحركوا في عهد معاوية فالصقوا بالأرض و أكمنوا في البيوت و احترسوا من الظنة و التهمة ما دام معاوية حياً ، إلى كثير من مواقفه التي تؤكد بأنه كان يرى أن الثورة على معاوية لا تخدم مصلحة الإسلام و المسلمين و أن الخلود إلى السكينة و الإبتعاد عن كل ما يثير الشبهات و ضغائن الأمويين عليه و على شيعته و أنصاره في حياة معاوية أجدى و أنفع لهم و للمصلحة العامة و في الوقت ذاته كان كما ذكرنا يعمل لإعداد المجتمع و تعبئته بانتظار اليوم الذي يطمئن فيه بأن شهادته ستعطي النتائج المرجوة .
و بالفعل لقد اتسعت المعارضة في عهده و ظهرت عليها بوادر التغير و الميل إلى العنف و الشدة و بخاصة بعد أن جعل ولاية عهده لولده الخليع المستهتر ، فكان لكل حدث من أحداث معاوية صدى مدويا في أوساط المدينة و خارجها حيث الإمام الحسين الرجل الذي اتجهت إليه الأنظار من كل حدب و صوب و هو ما حدا بالأمويين إلى التحسس بهذا الواقع و التخوف من نتائجه . فكتب مروان بن الحكم إلى معاوية يحذره من التغاضي عن الحسين و أنصاره و جاء في كتابه إليه : ان رجالا من أهل العراق و وجوه الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي و أني لا آمن و ثوبه بين لحظة و أخرى ، و قد بلغني استعداده لذلك فاكتب الي برأيك في أمره ، و لم يكن معاوية في غفلة عن ذلك و كان قد أعد لكل أمر عدته بوسائله التي كان يهيمن بها على الجماهير المسلمة ، و الحسين يعرف ذلك و يعرف بأن ثورته لو كانت في ذلك الظرف ستنجلي عن استشهاده ، و ال إستشهاد بنظره لا وزن له و لا قيمة إذا لم يترك على دروب الناس و في قلوبهم وهجا ساطعا تسير الأجيال على ضوئه في ثورتها على الظلم و الطغيان في كل أرض و زمان .
و كان معاوية يدرك و يعي بما للحسين من منزلة في القلوب و بأن ثورته عليه ستزجه في أجواء تعكر عليه بهاء انتصاراته التي احرزها في معركة صفين و في صلحه مع الإمام الحسن بن علي ( عليه السَّلام ) ، و لو قدر لها ان تحدث بوم ذاك فسوف يعمل بكل ما لديه من الوسائل ليتخلص منه قبل استفحالها و قبل ان يكون لها ذلك الصدى المفزع في الأوساط الإسلامية و لو بواسطة جنود العسل التي كان يتباهى بها و يستعملها للفتك بأخصامه السياسيين حينما كان يحس بخطرهم على دولته و أمويته و لو تعذر عليه ذلك فسوف يمارس جميع أشكال الإحتيال و التضليل و المراوغة حتى لا يكون لشهادة الحسين ذلك الوهج الساطع الذي ينفذ إلى الأعماق و يحرك الضمائر و القلوب للثورة على دولته و أعوانها ، و لكي يبقى أثرها محدوداً لا يتجاوز قلوب أهله و محبيه و شيعته إلى حين ثم يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع الذكريات و الأحداث .
و لعل ذلك هو الذي اضطر الحسين إلى التريث و عدم مواجهة معاوية بالحرب و دعوة أصحابه و شيعته الذين كانوا يراسلونه و يتوافدون عليه بين الحين و الآخر إلى أن يلتصقوا بالأرض و يكمنوا في بيوتهم و يحترسوا من كل ما يشير حولهم الظنون و الشبهات ما دام معاوية حياً .
و كما كان يعرف معاوية و أساليبه كان يعرف أن خليفته الجديد محدود في تفكيره ينساق مع عواطفه و شهواته و تلبية رغباته إلى أبعد الحدود بارتكاب المحارم و الآثام و التحلل من التقاليد الإسلامية و يندفع مع نزقه فيما يعترضه من الصعاب من غير تقدير لما وراءها من المخاطر ، و من أجل ذلك وقف من بيعته ذلك الموقف و اعتبرها من أخطر الأحداث على مصير الأمة و مقدراتها ، و لم يجد بدا من مقاومتها و هو يعلم بأن وراء مقاومته الشهادة و أن شهادته ستؤدي دورها الكامل و تصنع الإنتفاضة تلو الأخرى ، حتى النصر ، و لم يكن باستطاعة يزيد مواجهتها بالأساليب التي اعتاد ابوه تغطية جرائمه بها ، لأنه كما وصفه البلاذري في أنساب الأشراف من أبعد الناس عن الحذر و الحيطة و التروي صغير العقل متهوراً سطحي التفكير لا يهم بشيء إلا ركبه ، و من كان بهذه الصفات لا بد و أن يواجه الأحداث بالأسلوب الذي يتفق مع شخصيته ، و هو ما حدث في النهاية بالنسبة إليها وإلى غيرها من المشاكل التي واجهته خلال السنين الخمس التي حكم فيها بعد أبيه [1] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] من وحي الثورة الحسينية : 18 .