بلديتا نفرين وفركان بولاية تبسّة
إرث حضاري في سلة المهملات
وأنت في طريقك إلى بلدية نفرين جنوبي ولاية تبسّة، أكثـر ما يلفت انتباهك هو ذلك الكم الهائل من القمامات، التي ''تزين'' حواف الطريق الوطني رقم .16
يحدث هذا في الوقت الذي يتواجد فيه مركز لمعالجة النفايات الحضرية، لازال ينتظر التشغيل منذ أربع سنوات.
قبل الدخول إلى بلدية الماء الأبيض، تقابلك منطقة صناعية كبيرة، من بعيد تشاهد مداخن مصنع الإسمنت المعروف في الشرق الجزائري، وبالقرب منه يقف معمل ثان تظنه ملحقا لمصنع الإسمنت، ولكن مرافقنا كشف لنا عن حقيقة هذا المجمع الصناعي الضخم؛ حيث أنجزت الدولة مصنعا للزجاج، وصرفت فيه مبالغ مالية ضخمة. ليترك مهملا منذ سنوات. والسبب في هذا الإهمال يبقى غير معروف لدى سكان البلدية والولاية الذين كانوا في انتظار فتح باب التشغيل.
الطريق التي تستعملها وأنت في متجه إلى بلدية نفرين، كافية لوحدها لكتابة مجلدات، حيث تعرج على مجمع سكني متكوّن من أربع أو خمس عائلات ريفية، منحت لهم صفة بلدية بوموسى الواقعة على بعد 12 كلم من مقر بلدية نفرين الجنوبية، هؤلاء السكان يقول مرشدنا أنهم تابعون إقليميا لبلدية تفصل بينهما مسافة تفوق 100 كلم، ولكن السكان يعتبرون أنفسهم تابعين إلى بلدية نفرين، بعامل قرب المسافة بينهما، حيث يتمدرس أطفالهم في بلدية نفرين، وحتى الانتخابات يتم فيها نقل سكان بوموسى إلى نفرين، إلى هنا الأمور عادية، ولكن الغريب في الأمر هو أن سكان بوموسى اكتشفوا وضعيتهم الكارثية عندما قرروا تسوية وضعية بعض الأراضي الفلاحية؛ حيث أكد لهم المسؤولون في بلدية نفرين أنهم تابعون إقليميا إلى بلدية ثانية، وحتي من أجل استخراج وثائقهم الإدارية ووثائق الحالة المدنية يضطرون اليوم إلى قطع مسافة أكثر من 100 كلم، بدل 12 كلم التي تبعدهم إلى نفرين.
قصص وحكايات قاسمها المشترك الشقاء والبؤس لسكان رمى بهم القدر للعيش على أطراف الطريق الوطني رقم .16
ونحن ندخل بلدية نفرين التي كنا نظن أنها بلدية قائمة بذاتها، ويعيش فيها المرء عيشة كريمة، خاصة أن أول ما يبهرك فيها هو المزيج بين الطبيعة الصحراوية والغابية؛ حيث تجد النخلة شامخة وجها لوجه مع نظيرها شجرة الصنوبر والزيتون، وكلاهما تجد في مناخ نفرين ما تطلب ولا تبخل على سكناها بثمارها، ولكن سرعان ما تنصهر الأفكار في صخب الحقيقة.
أحياء سكنية... تعيسة
تتكون البلدية من بعض الأحياء السكنية التعيسة، التي تنعدم فيها كل شروط الحياة، وفي غياب المساحات الخضراء، يضطر الأطفال إلى اللعب وسط مناخ مليء بالأمراض.. وقد جرنا الحديث عن الأخطار التي تحدق بالأطفال رفقة مجموعة من النسوة إلى الحديث عن مستوصف البلدية، حيث لا زالت النساء يحوّلن إلى بلدية بئر العاتر لوضع حملهن، على غرار كل الحالات المستعصية لمختلف الأمراض. ويكتفي الطاقم الطبي المتواجد هنا بتقديم بعض الإسعافات الأولية محدودة، مثل الحقن وإسعاف الجروح الخفيفة. وأثارت نساء الحي انعدام القابلات، وقلة الأطباء العامين، والمختصين في أمراض الأطفال كون أغلب أطفالهن يعانون من أمراض شتى، خاصة الحساسية المفرطة، بسبب تواجد منجم الفوسفات.
المشاكل اليومية لاتتوقف عند مجال الصحة فقط، ففي اللقاء الذي جمع ''الخبر'' برئيس البلدية السيد خالد لخضر في مقر مكتبه، كشف لنا جملة من الانشغالات، خاصة فيما يتعلق بالتشغيل؛ حيث يشتكي خاصة الجامعيون من أبناء بلدية نفرين التهميش في عملية الاستفادة من مناصب الشغل، خاصة في قطاع التربية والتعليم. وأشار رئيس البلدية إلى أنه نقل انشغالات الشباب الجامعي إلى المدير الولائي بتبسّة. وأشار كذلك إلى القانون المسيّر لمناصب الشغل في إطار برنامج الشبكة الاجتماعية وتشغيل الشباب والذي لا يتعدى 45 منصبا. مؤكدا في هذا الباب أنه ''خرق القانون في أغلب الأحيان، خاصة عندما أجد نفسي أمام عائلات معوزة وتعيش في فقر مدقع. واذهب إلى منح أكثر من منصب شغل للعائلة الواحدة، عساها توفر رغيف الخبز''.
من جهة أخرى، تحدث رئيس البلدية عن الإمكانيات المادية لبلدية نفرين. مشيرا إلى أن ''المداخيل منعدمة، حيث لا تعرف أي نشاط تجاري أو صناعي ما عدا النشاط الفلاحي''، والذي عاب عليه الكثير من المشاكل، خاصة في مجال غرس النخيل. وفي هذا الصدد ذكر المسؤول مشكل الجفاف الذي أتلف أكثر من 50 ألف نخلة، بعدما كانت المنطقة تحتوي أكثر من 60 ألف نخلة، تهطل على سكانها بخيرات كبيرة، وبعد الجفاف الذي مس الآبار الموجهة لري واحات النخيل، ضاع كل شيء''، يقول رئيس البلدية.
جريمة في حق الحضارة
ركام، غبار، وآثار تبقى شاهدة على حضارة كانت قائمة بذاتها، شقت طريقها وبقيت تضاهي الحضارة الرومانية والنوميدية والوندالية التي تركت بصماتها بولاية تبسّة والقرى المجاورة لها. المدينة العتيقة لبلدية نفرين شيدت في أواخر 1890 وإلى غاية 1904 كانت آهلة بالسكان الأصلين لبلدية نفرين، وهم عرش أولاد حمزة، و سيدي أمحمد وأولاد سيدي إبراهيم وعرش أولاد سيدي بوخنفوس؛ حيث كانت العروش حسب مرشدنا من أبناء المنطقة يعيشون في جو من الأخوة، بعيدا كل البعد عن أجواء التطاحن والمشادات، وكان لكل عرش نصيبه من المساكن وحقه في ممارسة نشاطه التجاري والفلاحي؛ حيث وإلى غاية الآن لا زال الأحفاد يملكون واحات النخيل في واحة نفرين، وحتى عقود ملكية العقارات.
والمؤسف وأنت تتجول في ما تبقى من آثار في المدينة العتيقة وخاصة عندما يقال لك بأن ''آخر من رحل عنها للعيش في التجمعات السكينة بوسط البلدية، كان بداية سنوات التسعينيات، ولا تزال بقايا الجدران والهندسة تدل على تقاليد العيش العربي والصحراوي للمنطقة؛ حيث يبقى ما يعرف ''بوسط الدار'' شاهدا على طبيعة السكان. والمعلم الوحيد الذي لا يزال شامخا وسط المدينة العتيقة هو المسجد ومقر المدرسة القرآنية، وفجأة قال مرشدنا الذي لا يزال يتذكر يوم اقتحام الجيش الفرنسي لمنزل عائلته، ''كنت أنا من دل عناصر الجيش الفرنسي على بيتنا، حيث جاؤوا بحثا عن عمي المجاهد، ورحت يومها أدلهم على البيت مندفعا ببراءتي كوني كنت يومها لا أتعدى العاشرة''. كما عاد بذاكرته إلى الوراء وراح الرجل يرسم لنا يوميات سكان المدينة العتيقة؛ حيث كان ثمة نظام داخلي يسير عليه كل السكان، وحتى من نزل ضيوفا عليها، ولا مجال للخروج عنه ولا التمرد على القوانين''، كما قال، فكان للمدينة العتيقة بابان واحد من الناحية الشرقية والثاني من الناحية الغربية والمطل مباشرة على واحة النخيل السفلية، التي لا زالت الطلة عليه تسر الأبصار؛ حيث تتخللها وديان ومجار للمياه، تمتزج فيها أشجار الزيتون مع النخيل، في ديكور خارق للعادة.
فركان القطب الثاني
تقع بلدية فركان على بعد 18 كلم من بلدية نفرين، هذه البلدية تنام على متحف حضاري مفتوح. ومشاكل البلدية لا تختلف على نظيرتها، بل تتعداها في أغلب الأحيان، ديكور الواحات والآثار الشامخة على ضفاف فركان تمتزج فيها مثل واحة نفرين أشجار الزيتون والنخيل.
ونحن نتجول وسط الواحة لفت انتباهنا أحواض لم نفهم غاياتها، حتى قال مرشدنا ''هذه معصرة الزيتون''، حيث لا زال بعض من الذين ربطتهم بنشاط عصر الزيتون علاقة حب وارتباط كبير بالأرض، يزاولون نشاطهم بالرغم من أن ''هناك معصرة عصرية على مشارف المدينة العتيقة سهلت على ملاك أشجار الزيتون عملهم، ووفرت عليهم عناء ومشقة عصر الزيتون بالطريقة التقليدية. ومن مظاهر الإهمال حالة حمام تقليدي يقع وسط الواحة، ويحكى انه ''كان منبعا طبيعيا يقصده سكان المدينة العتيقة الواقعة في الأعلى، تختلي فيه النسوة تارة والرجال أخرى، كما كان سكان المنطقة يؤمون بجدوى مياهه في التداوي خاصة من مشاكل الروماتيزم، والأمراض الجلدية''. وفي الوقت الذي اقتربت ''الخبر'' من مبنى الحمام، وجدنا مواطنا من سكان بلدية فركان منهمكا في الاستحمام بمياه المنبع الطبيعية. وهنا قال الرجل ''مياه العين طبيعية وليست بحاجة إلى آلات التسخين، زيادة على أنها تتمتع بفوائد جمة في التداوي من الأمراض الجلدية''، الرجل الذي تحدثنا إليه لم يكن من الشيوخ ولا من الكهول، الذين ربما قد ورثوا ثقافة الحمامات المعدنية، بل هو شاب في مقتبل العمر يقول بأنه ''متأكد من جدوى المنبع الطبيعي. وهو من الأوفياء الذين لا يفوتون فرصة عطلة آخر الأسبوع لقضاء بعض من الوقت في الاسترخاء والراحة الطبيعية''. والشيء الأهم الذي لمسناه لدى سكان بلدية فركان، هو طيبة أهلها، وكرم ضيافتهم خاصة عندما تكون إمكانياتهم المالية جد محدودة، ولا يرضى الرجل الفركاني أن تزول بلدته وتخرج منها دون أن يدخلك داره و''يقوم بواجبه'' كما يقولون.
من جهته، أشار رئيس بلدية فركان قاسم لحبيب إلى أن بلديته تعاني من نقص كبير في الإمكانيات المادية، وتعيش ''برحمة المولى عز و جل''. كما تحدث المسؤول الأول عن البلدية مطولا عن مشاكل تنقل التلاميذ للبلديات المجاورة بغرض طلب العلم، إلى جانب الهاجس الكبير للسكان والمتوقف حول انعدام المرافق الطبية في بلدتيهم، حيث أشار رئيس البلدية إلى نقص الأطباء وحتى الأودية، وأشتكى من التهميش المركزي قائلا ''و كأننا شعب منسي''. وبالرغم من كل هذه المشاكل إلا أن رئيس البلدية ومن معه، كما قال، من خيرة أبناء البلدة يحاولون تخفيف عناء المعيشة في المنطقة؛ حيث يشرع بعض التجار ورجال الأعمال لمنحدرين من بلدية فركان في فتح بعض المحلات والمقاهي عساها تروح عنهم، وتخفّف من معاناتهم، كما شرعت البلدية في شق الطريق الرئيسي الذي يقسم وسط البلدة كما تتهيأ البلدية للبس حلتها الجديدة، على الأقل، كما قال محمد، أحد شباب من سكان فركان ''على الأقل عندما نخرج من بيوتنا تستقبلنا شوارع مبتسمة وليست تعيسة، تعكس لنا حاضرنا ومستقبلنا التعيس''.
وعلى عكس العادة في توزيع السكن الريفي، تنتهج بلدية فركان استراتيجية جديدة؛ حيث اعتمدت على جمع المستفيدين من السكن الريفي، في مكان واحد. وفي هذا الباب أكد رئيس البلدية على أن الهدف من جمع السكان في مكان واحد هو خلق نواة لتجمع سكني أو قرية فلاحية مستقبلية. مشيرا إلى إن التكفل بالمستفيدين اجتماعيا يكون أسهل عندما يكونون في مكان محدد، ويسهل علينا تزويدهم بالغاز والكهرباء مثلا، وحتى من الناحية الأمنية يكونون في مأمن أحسن من السكن الانفرادي ويبقى كل واحد مرمي في مكان بعيدا عن الاحتكاك الاجتماعي، كما أكد على أنه في اعتماد هذه الأخيرة غاية ثانية وهي الأهم، و المتعلقة بالتمسك والحفاظ على العلاقات الإنسانية والاجتماعية، وحماية العادات والتقاليد من الزوال، خاصة أن سكان المنطقة لا يزالون يتمسكون بتقاليدهم القديمة وفكرهم الممزوج بين الثقافة العربية الإسلامية والعروشية القبلية
منقول للامانة