مضت ليلة عاشوراء ثقيلة وئيدة الخطى.. وجاء الفجر مؤذناً ببدء تأريخ جديد.. في صفحة السماء.. تجلت صورة من بريق السيوف وهي تقطر دماً عبيطاً، لملامح يوم الفتح الحسيني الأكبر، فيما اغبر وجه الأرض وكلح كأنه يحكي قصة الانهزام.. انهزام الإنسانية من قيمها، والسقوط إلى منحدر الجريمة.. فما إن توسطت الشمس كبد السماء، توسط عمر بن سعد الصفوف واضعاً السهم في قوسه ثم رماه نحو أصحاب الحسين (عليه السلام) وهو يصيح بأعلى صوته: اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمي وكان هذا السهم المارق فاتحة لوابل كثيف من السهام نزعت عن قوى الإثم والعدوان إلى صفوف أنصار الحق والفضيلة فبرزوا لمضاجعهم ونداء الله أكبر يتعالى ويتردد في الأرجاء بلا توقف. واشتبكت الأسنة والرماح وتطايرت الرؤوس كتطاير الكتب كلٌ إلى سبيله المعلوم لتحشر كل أمةٍ بإمامهم. فأصحاب الحسين (عليه السلام) ما أصحاب الحسين في جنات وعيون، وأصحاب يزيد إلى جهنم وبئس المصير. وكان شباب بني هاشم ينتظرون بفارغ الصبر لحظات التضحية وقلوبهم مشتاقة لملاقاة الموت إحياءً لحقيقة الدين وشريعة سيد المرسلين محمد (صلى الله عليه وآله) وعند حلول الموعد وتحصل الإذن برز القمر الأول شبيه المصطفى، علي الأكبر ليصبح أول شهيد هاشمي. كان ذلك البطل المؤمن يخاف أن تتأخر تضحيته بسبب العواطف الأبوية فهو الابن الأكبر لأبيه الحسين (عليه السلام) وهو الشبيه خلقاً وخلقاً بجده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان أهل البيت (عليهم السلام) إذا ما اشتاقوا لرؤية جدهم المصطفى نظروا وأطالوا النظر استزادة بالتمتع بهيئته التي لا تخرم هيئة الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولهذا كله بذل جهده من أجل أن ينال الشهادة قبل جميع الشباب الهاشميين أقرانه، وبادر إليها مرتجزاً ينشد الموت في سبيل الله وكأنه مقبل على الحياة... وقاتل حتى قتل.. فوقف الحسين (عليه السلام) عليه ووضع خده على خده وأمر فتيانه فقال: احملوا أخاكم فحملوه من مصرعه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه. وهنا تأججت نار الحمية مستصرخةً في صدر القاسم بن الحسن (عليه السلام) فأقبل بكل عزم وبسالة إلى عمه الحسين (عليه السلام) يطلب الإذن للجهاد والتضحية شفعاً لابن عمه ورفيقه في الدنيا والآخرة. اقترن وقت استئذان والقاسم مع وقتٍ استشهد فيه جميع أصحاب الإمام وعدة من أبناء السلالة الهاشمية وكان الحسين يحب ابن أخيه لأنه صورة عن أبيه الحسن (عليه السلام) فتريث قليلاً قبل أن يأذن له.. ما الذي يدور الآن في خلد الحسين (عليه السلام)؟! لقد تجسدت أمام ناظريه شهادة أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) وما رافقها من حوادث مرة. ولم ينس كيف أن الظالمين لم يسمحوا بدفن جثمانه إلى جوار مرقد جده وتذكر منظر السهام التي رشقوا بها الجثمان الطاهر. كان طلب القاسم الإذن للقتال قد أثار لدى عمه حزناً عميقاً لم يزل يختلج في قلبه.. وأخذ ينظر إليه وشريط الذكريات يدور في ذهنه فكيف يأذن لنجل أخيه وهو في ريعان الصبا ولما يبلغ الحلم بعد، أن يبرز لقتال الأمويين الأشرار الذين خليت قلوبهم من الرحمة... وأحس القاسم بما يفكر فيه عمه وإمامه المفترض الطاعة فداخله حزن شديد، فوضع رأسه بين رجليه وأراد أن يبكي بمجرد أن طرأت على باله فكرة رفض طلبه بالقتال ثم توجه إلى عمه بالقول: أيها الإمام، لم تعد لدي طاقة على مفارقة الأحباب والأقارب وقد أجلسني الدهر في أرض البلاء والمصيبة، فدعني أنتقم للشهداء وأرد على سؤال أهل الضلال القتال بلساني وسناني حتى أنقلب إلى حيث انقلب أبي وجدي وإخواني الشهداء في مقعد صدق عند مليك مقتدر. قال الإمام ما معناه: أنت أنيسي في هذه الصحراء فكيف لي أن أتحمل غم بعدك؟! فنهض القاسم فجأة.. إذ تذكر أن أباه كان أوصاه وشد تعويذة على ساعده الأيمن ونبهه أن بإمكانه أثناء تألم الخاطر أن يقرأها ويعمل بمضمونها.. فتح التعويذة وقبلها ونظر بدقة إلى نصها وعثر فيها على حلّ يفرغ ما أثقل صدره من همّ ثم أسرع إلى عمه الحسين (عليه السلام) يقرئه وصية ودعاء السبط الأكبر.. فأخذ (عليه السلام) يبكي بألم وحسرة ثم تكلم إلى القاسم بما معناه: بني ستذهب بنفسك نحو الموت.. فأجاب القاسم بسرور لاح على وجهه: كيف لا يكون هذا وأنت وحيد بين الأعداء ولا ناصر لك.. فديتك بنفسي.؟؟ كان لكلامه العذب وقع في النفوس وكانت العيون تنظر إليه بدهشة... و حين نزل لم يعرفه أحد من الأعداء إذ كان متنقباً.. بدأ يجول في ميدان الحرب كأنه علي بن أبي طالب وضغط على فرسه بقدميه كما يفعل الفرسان المحترفون واهتزت الأرض من تحت الأقدام وبدوا كأن رؤوسهم وأعناقهم مشدودة بحبل كان في يده فتدور الأعناق والرؤوس حيثما دار ابن الحسن (عليه السلام) وتارة كانت الرؤوس تتقدم العيون في الملاحقة وتصبح العيون أكثر حيرةً وذلك عندما وقع النقاب عن وجهه بسبب الريح فظهرت بعض شمائله أولاً ثم بزغ وجهه كأنه البدر ليلة تمامه، وجعل يرتجز:
إن تنكروني فأنا نجل الحسن***سبط النبي المصطفى والمؤتمن
هذا حسين كالأسير المرتهـن***بين أناس لاسقوا صوب المزنوحمل على الأعداء فأصاب منهم - على صغر سنة وعطشه - خمسةً وثلاثين رجلاً، ولم يتمكنوا منه إلا غيلة إذ رماه أحد الأشقياء واسمه شيبة بن سعد برمح في ظهره خرج من صدره وأسقطه على الأرض صريعاً مضرجاً بدمائه.. وسعى إلى إخفاء أنينه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً كي لا يرى الظالمون أثراً للعجز والأنين فيه وإنما استقبل الشهادة بثغر باسم ووجه مستبشر. |