يأتي اليوم الرابع من شهر ابريل (نيسان) مِن كل عام ليُذَكِر كلَّ مَن لا زالت لديه ذاكرة، بيوم مشهود في تاريخ الجزائر الحديث عامة، وتاريخ ثورتها التحريرية المباركة خاصة. ذلكم اليوم من سنة 1957، الذي أقدمت فيه عصاباتُ الإرهاب الفرنسي في الجزائر بالاعتداء على حرمة بيت عالِم من علماء الأمة، واقتادته -بصورة لا تليق بمقامه ولا سِنِّه- إلى مصير مجهول المكان، معلوم القصد. اغتالته يدُ الإرهاب تلك بغير ذنب سوى أنه أراد لأمته الحياةَ والرفعةَ، ولوطنه العزةَ والحرية.
تَمُرُّ هذه الذكرى وكثيرٌ مثلها، والناس في شُغُل عن أبطالها وصانعيها، بل ومنهم مَن يتعمد طمسَ معالمها وإبعاد الأجيال عنها وعن عبرها. حتى كادت تختلط الأمور على العقول، وتتشَوَّه الصورةُ أمام العيون، فتساوى أمامها المجاهدُ والقاعد، والأمينُ والخائن، وأصبح الضحيةُ إرهابِيًا والإرهابيُّ حَكَمًا. وكادت تَضيعُ مع ذلك معان عظيمة عاش لها الأسلافُ، وكرامة عزيزة ماتوا لأجلها، واتجهت قلوب الكثيرين من المُسْتَغْفَلين صوب قِبلةٍ كفر بها آباؤُهُم، ليس جحودًا وتعصبًا، بل لأنَ سَدَنَتَها أرادوا استعبادَهم وإذلالهم،وإعراضهم عن الدين الذي ارتضاه لهم آباؤُهم، واللغة التي استعذبتها ألسنةُ أجدادهم وصارت منهم وهم منها.
جدير بأمّة أنجبت مثل الشيخ التبسي أن تفيه حقَّه وأن تُذكِّر الأجيالَ بمناقبه وبطولاته وبطولات أمثاله.
فالحديث عن العلامة الشيخ العربي التبسي، حديثٌ عن نموذج للعالِم العامِل، وعن صورة ناصعة للعمامة الرائدة التي لا تُقاد، والفكر الحر الذي لا يُساوَم، والنفس الأبية التي لا تُشترى، والعزيمة الصلبة التي لا تخور.
والحديث عن الشيخ التبسي، حديث عن رجلٍ عاش للإسلام دينا وللجزائر وطنا وللعربية لغة، وعن مجاهد كَرِهَ الاستعمارَ كما يَكْرَهُ أنْ يُلْقَى في النار وعاش ثائِرًا عليه بكل ما يملك، ومُحرِّضًا على ذلك قدر المستطاع، وأحَبَّ ثورةَ التحرير المباركة، وآمن بها واحتضنها، وضحى لأجلها، وصَيّرَها أَوْلَى أولوياته وشغلَه الشاغل، إيمانا منه بحتميتها وضرورتها لخلاص الجزائر من عبوديتها.
وهذه السطور القليلة مساهمة متواضعة، ومحاولة بسيطة للمشاركة في هذه الذكرى، ووقفة سريعة عند أهم محطات حياة الشيخ العربي التبسي رحمه الله، علّها تُبرِز بعض الجوانب الحية من حياته للأجيال التي لم يُرَد لها أن تعرف الشيخ أوتسمع عنه في زمن الردة والرداءة.
نشأته وتكوينه العلمي
ولد الشيخ العربي بن بلقاسم بن مبارك فرحات التبسي بناحية آسطح قنتيس جنوب غربي مدينة تبسة سنة 1895 في عائلة أمازيغية تنتمي إلى قبائل النمامشة الكبيرة والمشهورة في شرق الجزائر.
بدأ حياته العلمية الأولى بحفظ القرآن كما جرت عليه عادة الكثيرين في المجتمع الجزائري آنذاك وذلك على يد والده الذي كان معلما لأبناء القرية.
بعد وفاة والده سنة 1903 قرّر الرحلة في طلب العلم، فكانت أوّل محطة توقف بها هي »زاوية خنقة سيدي ناجي« جنوب شرق مدينة خنشلة في الأوراس وذلك سنة 1907 أين أمضى ثلاث سنوات. في سنة 1910، رأى أهلُه أن يرسلوه إلى بلدة نفطة بالجنوب التونسي ليلتحق بزاوية الشيخ مصطفى بن عزوز والتي سبق لوالده أن تعلم فيها من قبل، وهناك شرع التبسي في دراسة العلوم الشرعية والعربية. بقى في تلك الزاوية إلى غاية سنة 1914 أين قرّرالإنتقال إلى »جامع الزيتونة« الذي درس فيه مدةً قاربت سبع سنوات ثم شدّ الرحال إلى القاهرة سنة 1921 ليتابع دراساته العليا في »جامع الأزهر« وحصل على درجة العالمية.
العودة إلى الجزائر وأعماله فيها
عاد الشيخ التبسي إلى الجزائر بعد أن أمضى عشرين عاما من عمره في التحصيل العلمي، بدءًا ببلده الأصلي الجزائر ثم تونس وانتهاء بمصر.
وفور عودته من القاهرة سنة 1927، إستقر بمدينة تبسة وجعلها مركزا لانطلاق عمله الإصلاحي الذي كان يؤمن به. فبدأ في بداية الأمر بالتدريس والخطابة وتعليم الصغار والكبار في مسجد صغير بوسط المدينة. وعندما اكتظ ذلك المسجد برواد دروسه وحلقاته العلمية، إضطر الشيخ إلى الانتقال بهم إلى الجامع الكبير في المدينة والذي كان يومها خاضعا لإشراف إدارة الاحتلال الفرنسي. لكنه لم يلبث كثيرا حتى منعته تلك السلطات من النشاط في ذلك الجامع وذلك بإيعاز من بعض رؤوس الطرقية وبعض المتعاونين مع تلك الإدارة من الجزائريين المعارضين للإصلاح، ممّا اضطره إلى العودة مرة أخرى إلى النشاط في المسجد الصغير الذي بدأ منه في أول الأمر.