ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، أن الشيخ العربي التبسي كان يقوم بتلك الأعمال مُتطوعا ومن دون مقابل مادي، وكان مُصِرًّا على التبرع بأعماله خالصة للّه ثم للعلم، كما جاء في نص بيان المجلس الإداري لجمعية العلماء المُوَجّه للأمة الجزائرية وبإمضاء رئيسها الشيخ الإبراهيمي بتاريخ 19 اكتوبر 1943.
لقد أدركت جمعية العلماء أنّ رحلة أبناء الجزائر إلى خارج بلادهم وقطع المسافات البعيدة لطلب العلم في مستوياته الأولى، إنَّما هوإهدار للجهد والأموال وليس من العقل والصواب، وأنه لا يجب أن يفعل ذلك إلا من استكمل تعليمه في مراحله الأولى وكان استعداده وافيا لتلقي العلوم في مستوياتها العليا، فهناك فقط تَحسُنُ الرحلة وتكون لها فائدة.
فقامت الجمعيةُ بعد رسوخ تلك القناعة، على العمل على إنشاء مؤسسة تعليمية تضطلع بسد ذلك الفراغ الرهيب الذي فرضته يَدُ التخريب الاستعمارية التي طالت مؤسسات الجزائر العلمية العليا منذ احتلالها للبلاد. فتم للجمعية ما تمنت وتحقق الحلم الذي كان يراود الشيخ ابن باديس منذ أن وضع اللبنة الأولى في التعليم المسجدي بمدينة قسنطينة. وتم افتتاح »معهد عبد الحميد ابن باديس« في قسنطينة سنة 1947 على أمل -آنذاك- أن تفتح الجمعيةُ بَعده مثيلين له أحدهما في مدينة الجزائر والآخر في تلمسان بغرب البلاد.
ونذكر في فضل ذلك المعهد العظيم شهادةً لأحد علماء »جامعة القرويين« الشيخ محمد التواتي وهومن أصل جزائري، رواها د. عبد المالك مرتاض الذي عاشها بنفسه، حيث أنه لما ذهب للدراسة في تلك الجامعة العتيقة وجلس لذلك الشيخ لاختبار القبول، كان من جملة ما سأله كم يحفظ من الشِّعر، فأجابه بأنه يحفظ أكثر من ألفي بيت من الشعر العربي الرصين، ثم سأله عن المدة التي قضاها طالبا بمعهد عبد الحميد ابن باديس، فلما أدرك أنها لم تكن أكثر من أربعة أشهر، أعجب لذلك وقال له بأن معهدا يحفظ فيه تلاميذه هذا الكم من الشعر وبتلك النوعية وفي مثل تلك المدة لمعهد عظيم.
ونظرا لأهمية ومكانة ذلك الصرح العلمي الكبير في قلوب علماء الجمعية وما كانوا يعقدونه عليه من آمال، فلم يكن في نظرهم من يشرف عليه-حينئذ- أفضل من الشيخ العربي التبسي الذي أسندت إليه إدارته والإشراف على التعليم العالي فيه. وقد بين ذلك بوضوح تصريح الشيخ الإبراهيمي في هذا الشأن حيث قال: »وأما الإدارة فقد كانت -في رأيي- وما زالت أصعبَ من المال. لأن الصورة الكاملة التي يتصورها ذهني للإدارة الرشيدة الحازمة اللائقة بهذا المعهد العظيم، نادرة عندنا، ونحن قوم نقرأ لكل شيء حسابه. ولا نُقدّم لجلائل الأعمال إلا الأكفاء من الرجال. وقد كنت مُدّخرًا لإدارة المعهد كفؤََها الممتاز وجذيلها المحكك الأخ الأستاذ العربي التبسي...«
ولم يكن قبول الشيخ التبسي لتلك المسؤولية الجديدة بالأمر الهين فلقد كان على رجال الجمعية وعلى رأسهم رئيسها الشيخ الإبراهيمي بإقناعه هوأَوَّلا بذلك، ثم إقناع أهل مدينة تبسة ثانية عن العدول على إصرارهم على عدم التفريط في الشيخ هذه المرة بتركه مغادرة مدينتهم، حيث كانوا يعدون انتقال الشيخ التبسي عنهم كبيرة يرتكبها مَن يتسبب فيها.
فما كان من أهل مدينة تبسة في الأخير إلا الاقتناع بوجهة نظر جمعية العلماء وأهمية انتقال الشيخ التبسي إلى عمله الجديد في قسنطينة وحاجة ذلك العمل إلى قدراته وإلى شخصية علمية مثله. وكان مما قاله الشيخ الإبراهيمي لهم: »إن الشيخ العربي التبسي رجل أمة كاملة لا بلدة واحدة، ورجل الأعمال العظيمة لا الأعمال الصغيرة«. فرضوا وسلموا خاصة بعد أن تعهدت لهم الجمعية بمسؤولية تأمين مشاريعهم العلمية والدينية بإيجاد من يخلف الشيخ العربي فيها.
عندما انتقل الشيخ العربي التبسي إلى قسنطينة للعمل في »معهد عبد الحميد ابن باديس«، تعرّف المعلمون والطلبة على السواء على شخصية جديدة في التضحية والجدية ونكران الذات في آداء الأعمال والواجبات. وقد سجل رئيس الجمعية حينئذ الشيخ الإبراهيمي شهادات قيِّمة كثيرة حول بعض تلك الصفات وغيرها المتجسدة في شخصية الشيخ التبسي وأعماله في المعهد وغيرها. وكان مما أعُجب به الشيخ الرئيس من تلك الصفات، القدوة في التضحية في العمل وذلك من خلال الكلمة التي ألقاها الشيخ التبسي أمام هيئة التدريس في المعهد في اجتماع لتقرير منهاج سير التعليم فيه. وكان مما جاء في كلمته تلك ما يلي:»إن التعليم بوطنكم هذا، وفي أمتكم هذه ميدان تضحية وجهاد، لا مسرح راحة ونعيم. فلنكن جنود العلم في هذه السنة الأولى، ولنسكن في المعهد كأبنائنا الطلبة، ولنعش عيشَهم: عيش الاغتراب عن الأهل والعشيرة ولا تزورزهم إلا لماماً. أنا أضيقكم ذرعًا بالعيال للبعد وعدم وجود الكافي، ومع ذلك فها أنا فاعل فافعلوا. وها أنذا بادئ فاتبعوا«.فكانت كلماته تلك كما يروي لنا الشيخ الإبراهيمي » مُؤثرة في المشائخ، ماسحة لكل ما كان يساورهم من قلق... ومضت السنة الدراسية على أتم ّ ما يكون من النظام الإداري، وعلى أكمل ما يكون من الألفة والانسجام بين المشائخ بعضهم مع بعض، وبينهم وبين مديرهم، حتى كأنهم أبناء أسرة واحدة، دبّوا على حضن واحدة، وشبّوا في كنف واحد، وربّوا تحت رعاية واحدة، توزّع الحنان بالسوية، وتبني الحياة على الحب. وأنّ مرجع هذا كله إلى الأخلاق الرضية التي يجب أن يكون مظهرها الأول العلماء«.
كما أثرت أخلاقه وسيرته تلك في هيئة التدريس فصار قدوة لهم في أداء الواجب بكل تضحية وتفان، ويصف الشيخ الإبراهيمي شيئا من ذلك فيقول: » لقد حدثني المشائخ في الأشهر الأخيرة -أي منذ تولي الشيخ التبسي إدارة المعهد- فرادى ومجتمعين بأنهم انجذبوا إلى العلم انجذابًا جديدًا، وحببت سيرةُ الأستاذ التبسي التعليم إليهم على ما فيه من مكاره ومتاعب وأنهم أصبحوا لا يجدون بعد جهد سبع ساعات متواصلة يوميًا، نصبًا ولا لغوبًا«.
وكان من صفات الشيخ العربي أيضا في إدارته للمعهد ما ذكره الشيخ الإبراهيمي مِن أنّ » الأستاذ التبسي في إدارته يتساهل في حقوق نفسه الأدبية إلى درجة التنازل والتضييع، ولا يتنازل في فتيل من النظام أوالوقت أوالأخلاق أوالحدود المرسومة«.