السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لو فتشنا الكافي من أوله إلى أخره لم نعثر على قول صريح للشيخ الكليني بتحريف القرآن ومن قال أن الكليني يقول في كتابه بتحريف القرآن الكريم ينحصر فإنه دليله في طريقين لا ثالث لهما:
أ- أنه روى روايات في معنى التحريف في كتابة الكافي ولم يتعرض فيها مع التزامه بانه يثق بما رواه كما قاله المحدث الكاشاني واوردها الدكتور القفاري تأييداً لرأيه .
ب- استظهار هذا المعنى من عناوين ابواب الكافي فمنها باب (انه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام) .
لكن نقل هذه الاستفادة غير تامة:
1- ان ذكر الراوي لرواية في كتابه لا يعني انه يقول بها فكثير من الرواة يروون روايات معتبرة ولكن لا من حيث الدلالة بل من حيث السند واعتبار سنداً الرواية لا يعني اعتبار متنها مطلقاً خصوصاً إذا كان متن هذه الروايات متعارضاً مع روايات أخرى اقوى منها مسنداً ومتناً والا لصار أصحاب الصحاح الستة وغيرهم جميعاً متهمين بالقول بالتحريف .
2- على فرض ان هذه المجموعة من روايات الكافي وردت في التحريف بالمعنى المتنازع فيه فانها معارضة بروايات اخرى في كتاب الكافي نفسه وهي اكثر عدداً واقوى متناً ووردت تحت عناوين اكثر وضوحاً حول القرآن من تلك.
وهناك قاعدة قطعية اخذها الكليني من الأئمة الطاهرين وجعلها في بداية كتابة,وهي اننا حينما تتعارض الروايات ولا يوجد لها محمل صحيح يمكن حمل الرواية عليه أي ان التعارض من نوع التعارض المستقر,فهنا نعرض الروايتين على القرآن الكريم فما وافق القرآن اُخذ به وما خالفه ضرب به عرض الجدار وسقط عن الحجية.
والكليني رحمه الله وان لم يكن دأبه من كتابه الرد والقدح في الروايات بل كان قصده ذكر الروايات المعتبرة فقط وهو ملتزم قطعاً وبشكل لا يقبل الشك بقاعدة عرض الروايات المتعارضه على القرآن وعلى هذا تكون روايات التحريف ساقطة عنده عن الحجية.
وأما استظهار معنى التحريف من عناوين أبواب الكافي.
لابد اولاً قبل البحث في العناوين ان نسأل القدماء من العلماء عن معنى التحريف والتنزيل و... فانهم سيقولون لنا ان التحريف يقصد به الأعم من التفسير في المعنى. و(التنزيل) ايضاً بمعنى مطلق ما تنزل من الوحي من آيات القرآن او تفسيره وبيانه ومع تلك الحال فلو فتشنا الكافي من أوله الى آخره لما وجدنا بابا تحت عنوان تحريف القرآن او شيئاً من هذا القبيل والذين قالوا بذلك لم يجدوا الا عنوان واحداً ليتشبثوا به في دعواهم وهو باب (لم يجمع القرآن كله الا الأئمة عليهم السلام وانهم يعلمون علمه كله) ولكن هذا العنوان لا يدل على التحريف بالمعنى المتنازع فيه وشاهد ذلك وجود روايات في ذيل ذلك العنوان .
فالروايتان الأوليان مجملتان والأربعة الباقيات في مقام شرح وتفصيل الأوليتين وقد يعطي نفس عنوان الباب الإجمال والتفصيل,وفي المجموع فان هذه الأحاديث تثبت أن القرآن الكريم من جهة تنزيله وتأويله وعلوم ظاهره وباطنه عند الائمة الطاهرين ولا غرو في ذلك فانهم احد الثقلين اللذين اوصى بهما النبي صلى الله عليه وآله وهما امامان لا يختلفان واخوان لا يتخاذلان ومجتمعان لا يفترفان (انظر كتاب سلامة القرآن من التحريف للدكتور فتح الله المحمد ص341 - 345).
وبعد, فإن من الجائز نسبة القول بعدم التحريف إلى الشيخ الكليني رحمه الله لعدة وجوه :
أولاً: إنّه كما روى ما ظاهره التحريف فقد روى ما يفيد عدم التحريف بمعنى الإسقاط في الألفاظ, وهو ما كتبه الإمام عليه السّلام إلى سعد الخير (( وكان من نبذهم الكتاب أن اقاموا حروفه وحرّفوا حدوده, فهم يروونه ولا يرعونه, والجهال يعجبهم حفظهم للرواية, والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية )) الحديث . وقد استدلّ به الفيض الكاشاني على أنّ المراد من أخبار التحريف هو تحريف المعاني دون الألفاظ, فيكون هذا الخبر قرينة على المراد من تلك الأخبار . ولو فرضنا المتعارضين كان مقتضى عرض الخبرين المعارضين على الكتاب - عملاً بالقاعدة التي ذكرها الكليني, ولزوم الأخذ بالمشهور كما ذكر أيضاً - هو القول بعدم وقوع التحريف في القرآن .
ثانياً: إنّ عمدة روايات الكليني الظاهرة في التحريف تنقسم إلى قسمين :
الأول - ما يفيد اختلاف قراءة الأئمة مع القراءة المشهورة .
الثاني - ما ظاهره سقوط أسماء الأئمة ونحو ذلك .
أما القسم الأول فخارج عن بحثنا .
وأما القسم الثاني - فمع غض النظر عن الأسانيد - فكلّه تأويل من أهل البيت عليهم السلام, والتأويل لا ينافي التفسير, وإرادة معنى لا تضاد إرادة معنى آخر, وقد روى الكليني ما هو صريح في هذا الباب عن الصادق عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ : (( الّذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل )) : (( إنّها نزلت في رحم آل محمد . وقد يكون في قرابتك - ثم قال - ولا تكوننّ ممن يقول في الشيء أنّه في شيء واحد )) .
ومقتضى القواعد التي ذكرها الكليني أن لا يؤخذ بظواهر الأخبار من القسم الثاني .
ثالثاً: إنّ كلمات الأعلام والأئمة العظام من الشيعة الإمامية - كالصدوق والمفيد والمرتضى والطبرسي - الصريحة في أن المذهب هو عدم التحريف, وان القائلين بالتحريف شذاذ من (( الحشوية )) تقتضي أن لا يكون الكليني قائلاً بالتحريف, لا سيمّا كلام الصدوق الصريح في (( أن من نسب إلينا ... فهو كاذب )) .
وإلاّ لم يقولوا كذلك, إذ لم ينسوا شأن الكليني وعظمته في الطائفة .
رابعاً: إنّ دعوى الإجماع من إجماعة من أعلام الطائفة - كالشيخ جعفر كاشف الغطاء وغيره - ترجح القول بأن الكليني من نفاة التحريف, وإلاّ لما ادّعوه مع الالتفات إلى شخصية الكليني .
خامساً: إنّ الكليني رحمة الله روى الأخبار المفيدة للتحريف في ( باب النوادر ), ومن المعلوم أنّ النوادر هي الأحاديث الشاذة التي تترك ولا يعمل بها كما نص على ذلك الشيخ المفيد (معجم رجال الحديث 1 : 45, مقباس الهداية : 45) .
وعن الشيخ في التهذيب بعد حديث لحذيفة : (( إنّه لا يصلح العمل بحديث حذيفة, لأن متنه لا يوجد في شيء من الأصول المصنّفة بل هو موجود في الشواذ من الأخبار )) .
ثم إن الشيخ المامقاني بعد أن أثبت الترادف بين (( الشاذ )) و (( النادر )) عرّف الشاذ بقوله : (( وهو على الاظهر الأشهر بين أهل الدراية والحديث هو ما رواه الثقة مخالفاً لما رواه الجماعة ولم يكن له إلاّ إسناد واحد )) (مقباس الهداية : 45) .
فجعله تلك الأحاديث تحت العنوان المذكور يدل على تشكيكه بصحتها وطرحه لها . قال السيّد محمد تقي الحكيم : (( ولعل روايتها في ( النوادر ) من كتابه دليل تشكيكه بصدورها ورفضه لها, وكأنّه أشار بذلك لما ورد في المرفوعة من قوله عليه السّلام : دع الشاذ النادر )) (الاصول العامّة للفقه المقارن : 110) .
وقال السيّد حسين مكي العاملي : (( ولأجل ما هي عليه من الضعف وندرتها وشذوذها وغرابتها مضموناً جعلها الإمام الكليني من الأخبار الشاذّة النادرة, فسطرها تحت عنوان ( باب النوادر ) . وهذا دليل على أنّه خدش في هذه الأخبار وطعن فيها ولم يعتبرها, إذ لم يغب عن ذهنه - وهو من أكابر أئمة الحديث - ما هو معنى النادر الشاذ لغة وفي اصطلاح أهل الحديث .
فالحديث الشاذ النادر عندنا, معشر الإمامية الإثني عشرية, هو الحديث الذي لا يؤخذ به, إذا عارضه غيره من الروايات المشهورة بين أهل الحديث أو خالف مضموناً, كتاباً أو سنّة متواترة أو حديثاً مشهوراً بين أهل الحديث ... )) .
قال : (( وأما البحث في حكم النادر الشاذ من الأحاديث فهو : أنّه إذا خالف الكتاب والسنّة أو كان صحيحاً في نفسه, ولكنه معارض برواية أشهر بين الرواة لا يعمل به, كما قرره علماؤنا ... )).
إنظر التحقيق في نفي التحريف للميلاني ص 144 – ص 147
ودمتم في رعاية الله
http://www.aqaed.com/faq/2778/