يقول الشيخ في كتابة ( التَّصَوُّفُ المنْشَأ وَالمَصَادِر ) في الباب الثالث :
التّشَيُّع وَالتّصَوُّف :
إن التشيع أوجده اليهود , وأسسوا أسسه , وأصلوا أصوله , وأرسو قواعده , ووضعوا عقائده ومعتقداته , بواسطة إبنهم البار عبد الله بن سبأ , المتزيّ بزيّ الإسلام , واللابس ثوبه ولباسه , تقية وخداعا , الذي أرسل إلى عاصمة الخلافة الإسلامية أيام الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه من قبل يهود صنعاء اليمن لتقويض دعائم الإسلام , وفناء دولته , ومسخ شريعته السماوية البيضاء , وهدم قوائمها وأركانها , وترويج عقائد اليهودية بين المسلمين , وإيجاد الفرقة والاختلاف بينهم , وإسعار نار الحقد والبغضاء , وفتح باب المطاعن والتلاعن , والسباب والشتائم , بدل الأخوة الصادقة والتوادّ والتعاطف والتراحم :
( إن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم , ووالى عليا عليه السلام , وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصيّ موسى بالغلو , فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله في عليّ مثل ذلك , وكان أول من أشهر القول بفرض إمامة علىّ , وأظهر البراءة من أعدائه , وكاشف مخالفيه , وكفرهم . ومن هنا قال من خالف الشيعة : إن التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية ) [1] .
فاجتمع حوله وتحت لواء التشيع كثر من أبناء اليهودية البغيضة , والفرس المهزومين , والبابليين المكسورين , والموالي المقهورين , والكارهين للعرب حكامهم , والفاتحين بلادهم , والآخذين زمام أمورهم , بعد فشلهم في محاربة الإسلام وجيوشه المظفرة المنصورة وجها لوجه , واندحار قوتهم , وانكسار شوكتهم , فغيّروا أسلوبهم في مزاحمة الإسلام جهرا , فتستّروا بستار الإسلام , ودخلوا في صفوفه , واندمجوا في بيئته , وروّجوا بين المسلمين أفكارا يهودية ومجوسية ونصرانية , وعقائد مدخولة مدسوسة , نقمة على الإسلام والمسلمين , من حلول الإله أو الجزء الإلهي في الخلق , وإجراء النبوة بعد خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه , ونزول الوحي وإتيان الملائكة , وحصول العصمة , ووجود شخص في كل عصر وزمان به قيام الأرض وثباتها , وعقيدة الوصاية والولاية , والإخفاء والكتمان , والتأويل , و انقسام العلم إلى الظاهر والباطن , وتقسيم الناس إلى العامة والخاصة , وتعطيل الشريعة ومسخها , ومسخ تعاليمها , ورفع التكليف وغير ذلك من الخرافات والترهات مما لا علاقة لها بالإسلام , قريبة ولا بعيدة , ولم يقصد من بثّها ودسها إلا ضرب الإسلام ومحوه من الوجود وتفريق كلمته , وتشتيت قوته , ودرء هيمنته , وخرق هيبته .
فكان هذا هو المقصود من تكوين التشيع وإنشائه , فأدى التشيع في سبيل ذلك خدمات جليلة , وكان أول ضحيته سيدنا الإمام المظلوم عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث وصهر رسول الله , كما كان أول ثمرته التفرق والتمزق , والتشتت والتحزب في الأمة الإسلامية الواحدة , المتفقة العقائد , المتحدة الآراء والأفكار , فولدت الفرق , ونشأت الطوائف العديدة وبرزت الآراء الجديدة , وراجت بين المسلمين مذاهب لم تكن موجودة ولا معروفة من قبل , وكثير من المذاهب المنحرفة والعقائد الزائفة غذّيت من قبل التشيع , ونمّيت وربّيت , وأمدّت ودعّمت , ولو أنه بعد حين صار هذا الزيغ والضلال من لوازم تلك النحلة , وعلائم تلك الطائفة , حيث أنسى تقادم العهد المصدر الأصلي , والمنبع الحقيقي , والموجد الأول , والمنشئ الأصلي , وكان الهدف من هذا أن تعمّ الفتنة , ويكثر البلوى , وتبعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم من محمد عليه الصلاة والسلام وإرشاداته وتوجيهاته , وعن الكتاب الذي أنزل على قلبه الطاهر , وعن أحكامه وضوابطه , وأن تضعف كذلك , ويضعف سلطانها , وينكمش حكمها , سلطتها و اختيارها .
فكان إحدى هذه الفرق والنحل والمشارب والمذاهب , الصوفية والتصوف , كما يظهر لمن درس كتب التاريخ والعقائد والمسالك , وتعمق في منشأ ومولد الطوائف والنحل أن كل فتنة ظهرت في تاريخ الإسلام , وكل ديانة طلعت من العدم إلى الوجود كان رأسها ومديرها , أو منشئها ومدبرها واحد من الشيعة .
وكذلك كان أمر الصوفية . فإن الثلاثة الذين اشتهروا في التاريخ الإسلامي باسم الصوفي ولقبه بادئ ذي بدء كان اثنان منهم من الشيعة أو متهمين بالتشيع , كما أن هؤلاء الثلاثة كلهم كانوا من موطن الشيعة آنذاك , وهو الكوفة .
فأبو هاشم الكوفي الذي فصلنا فيه القول فيما مر لم يرم بالتشيع ولكنه كان من الكوفة الشيعية , ومتهما بالزندقة والدهرية [2] .
أما جابر بن حيان فيذكره ماسينيون بقوله ( وورد لفظ الصوفي لقبا مفردا لأول مرة في التاريخ في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي إذ نعت به جابر بن حيان وهو صاحب كيمياء شيعي من أهل الكوفة , له في الزهد مذهب خاص ) [3] .
وذكره نيكلسون بقوله ( جابر بن حيان الكيميائي المعروف كان يدعي جابر الصوفي , وأنه تقلد كما تقلد ذو النون المصري علم الباطن الذي يطلق عليه القفطي مذهب المتصوفين من أهل الإسلام ) [4] .
ويذكر المستشرق التشيكوسلاوي بي كراؤس P. KRAUS وم بلسنر M. PLESSNER أن ( جابر بن حيان كان من الشيعة الغلاة , ولعله كان من القرامطة أو الإسماعيلية , وكان يرجح مثل النصيرية سلمان على محمد , كما كان يعتقد مثل الغلاة والنصيرية عقيدة تناسخ الأرواح )[5] .
وهذان المستشرقان ينقلان عن جابر بن حيان نفسه أنه يقول ( إنه أخذ جميع علومه عن جعفر الصادق معدن الحكمة , وأنه ليس إلا الناقل المحض والمرتب ) [6] .
وبمثل ذلك قال هولميارد الإنجليزي الذي نشر عديدا من كتب جابر بن حيان [7] .
وأما الشيعة فيعدونه من أعيانهم .
فلقد كتب السيد محسن الأمين الشيعي المشهور في ترجمته أكثر من ثلاثين صفحة في كتابه ( أعيان الشيعة ) فيقول :
( أبو عبد الله , ويقال : أبو موسى جابر بن حيان بن عبد الله الطرطوسي الكوفي المعروف بالصوفي .... كان حكيما رياضيا فيلسوفا عالما بالنجوم طبيبا منطقيا رصديا مؤلفا مكثرا في جميع هذه العلوم وغيرها : كالزهد والمواعظ , من أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام , وأحد أبوابه , ومن كبار الشيعة , ومايأتي عند تعداد مؤلفاته يدل على أنه كان من عجائب الدنيا ونوادر الدهر , وأن عالما يؤلف ما يزيد على 3900 كتاب في علوم جهلها عقلية وفلسفية لهو حقا من عجائب الكون , فبينا هو فيلسوف حكيم ومؤلف مكثر في الحيل والنرنجيات والعزائم ومؤلف في الصنائع وآلات الحرب , إذا هو زاهد واعظ مؤلف كتبا في الزهد والمواعظ ) [8] .
ثم نقل عن عديد من الشيعة أنهم ذكروا في كتبهم الرجالية , وعدّوه من تلامذة جعفر بن الباقر , ثم قال :
( يستفاد مما سلف أمور , وهي : تشيعه , وعلمه بصناعة الكيمياء , وتصوفه , وفلسفته , وتلمذته على الصادق عليه السلام , واشتهاره عند أكابر العلماء , واشتهار كتبه بينهم اشتهارا لا مزيد عليه ) [9] .
ثم كتب تحت عنوان ( أما تشيعه ) :
( فيدل عليه عدّ ابن طاوس له في منجمي الشيعة , ورواية ابني بسطام عنه عن الصادق عليه السلام , وروايته خمسمائة رسالة للصادق عليه السلام كما ذكره اليافعي , ونقل ابن النديم عن الشيعة أنه من كبارهم وأحد الأبواب , وأنه إنما كان يعني بسيده جعفر هو الصادق , لا جعفر البرمكي , ولا ينافيه زعم الفلاسفة أنه منهم , فإنه لا تنافي بين كونه فيلسوفا وشيعيا , إذ المراد الفلسفة الإسلامية , لا فلسفة الحكماء القدماء التي قد تنافي الشريعة , وقول ابن النديم : أن له كتبا في مذاهب الشيعة كما تقدم ذلك كله ) [10] .
ونقل أيضا عن الدكتور أحمد فؤاد الأهواني أن ( والد جابر بن حيان قتل في خراسان لاتهامه بالتشيع )[11] .
ونضيف إلى ذلك أن الرجالي الشيعي المشهور الطهراني أيضا عده من رجال الشيعة حيث ذكر في موسوعته كتابين له ( كتاب الرحمة الصغير , وكتاب الرحمة الكبير لجابر بن حيان الصوفي الطوسي الكوفي المتوفى سنة مائتين من الهجرة ) [12] .
وأما من متقدمي الشيعة فيذكره ابن النديم بقوله :
( وهو أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي المعروف بالصوفي , واختلف الناس في أمره .
فقالت الشيعة : أنه كان من كبارهم وأحد الأبواب , وزعموا أنه كان صاحب جعفر الصادق رضي الله عنه , وكان من أهل الكوفة .
وزعم قوم من الفلاسفة أنه كان منهم , وله في المنطق والفلسفة مصنفات .
وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الرياسة انتهت إليه في عصره , وأن أمره كان مكتوم . وزعموا أنه كان يتنقل في البلدان لا يستقر به بلد خوفا من السلطان على نفسه .
وقيل : إنه كان في جملة البرامكة ومنقطعا إليها , ومتحققا بجعفر بن يحيى . فمن زعم هذا قال : أنه عنى بسيده جعفر هو البرمكي .
وقالت الشيعة : إنما عنى جعفر الصادق ) [13] .
ثم أصدر رأيه في معتقداته بقوله ( ولهذا الرجل كتب في مذاهب الشيعة ) [14]
ونقل عنه أنه (كان تلميذا لجعفر بن محمد الباقر , أو عبده ) [15] .
ومما يدل على تشيعه وكونه من الحلوليين والمغالين في التشيع ما نقله في رسائله التي تنسب إليه أنه قال :
( بعد ما سمعت كلام الصادق في الكيمياء والطلسم فخررت ساجدا , فقال ( أي جعفر ) : لو كان سجودك لي وحدك لكنت من الفائزين , قد سجد لي آبائك الأولون , وسجودك لي سجودك لنفسك ) [16] .
وأما كونه تلميذا لجعفر فيقره الحاج خليفة في ( كشف الظنون ) , وابن خلكان في وفياته [17] .
وغيرهمـــــا .
ولقد فات الدكتور الشيبي عندما أنكر على جابر بن حيان التصوف حيث قال : ( أن صلة جابر بالتصوف اسمية لأنه لم يكن صاحب مجاهدة أو خوف , أو نطاقا بأقوال زهدية , وإنما نقل عنه اشتغاله بالكيمياء ) [18] .
قد فاته ما ذكره ابن النديم في فهرسته نقلا عن جابر بن حيان نفسه أنه قال : ( ألفت كتبا في الزهد والمواعظ ) [19] .
وكذلك ما نقله هو نفسه عن ( أخبار الحكماء ) أن ( جابر بن حيان كان مشرفا على كثير من علوم الفلسفة ومتقلدا للعلم المعروف بعلم الباطن , وهو مذهب المتصوفين من أهل الإسلام , كالحارث المحاسبي , وسهل بن عبد الله التستري ونظرائهم ) [20] .
وكذلك ما نقله فيليب حتى حيث قال أنه ادعى مذهبا خاصا في الزهد ) [21] .
فهذا هو أول الثلاثة الذين لقبوا بالصوفية , والذي توفي بين 160 إلى 200 هجرية على اختلاف في الأقوال .
=================
[1] رجال الكشي ص 101 ط مؤسسة الأعلمي بكربلاء - العراق . أيضا تنقيح المقال للمامقاني ج2 ص 184 ط طهران , أيضا فرق الشيعة للنوبختي ص 43 , 44 ط المطبعة الحيدرية بالنجف العراق 1379 هـ , كتاب المقالات والفرق لسعد بن عبد الله القمي ص 21 ط طهران 1962م , رجال الطوسي ص 51 ط نجف , تحفة الأحباب ص 184 , ناسخ التواريخ ج3 ص 393 ط إيران , كتاب الرجال للحلي ص 469 ط طهران 1383 هـ , منهج المقال للأسترابادي ص303 , شرح ابن أبي الحديد ج2 ص 309 وغير ذلك من الكتب الشيعية الكثيرة , ومثله في كتب السنة .
[2] انظر طرائق الحقائق للحاج معصوم علي ج1 ص 101 .
[3] انظر دائرة المعارف الإسلامية أردو ج6 ص 419 ط جامعة بنجاب باكستان الطبعة الأولى 1962م , كذلك التصوف لماسينيون ترجمة عربية ص26 ط دار الكتاب اللبناني 1984م .
[4] انظر كتاب في التصوف الإسلامي وتاريخه ترجمة الدكتور أبي العلاء العفيفي ص 11
[5] انظر دائرة المعارف الإسلامية اردو ج7 ص 6 مقال ( بي كراؤس ) و ( م بلنسر ) .
[6] دائرة المعارف الإسلامية اردو ج7 ص6 .
[7] انظر مقدمة كتاب الرحمة المنشور هولميارد , وكتاب البيان وغيرهما .
[8] أعيان الشيعة لمحسن الأمين الشيعي ج 15 ص 87 , 88 ط دار التعارف للمطبوعات بيروت .
[9] أيضا ص 102 .
[10] أيضا ص 105 .
[11] أعيان الشيعة ج 15 ص 87 .
[12] انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة ج 10 ص 171 .
[13] الفهرست لابن اندين ص 498 , 499 ط دار المعرفة لبنان .
[14] أيضا .
[15] خلاصة الأثر للمحبي ج 1 ص 213 نقلا عن الشيبي
[16] مختار رسائل جابر بن حيان ص 78 .
[17] انظر وفيات الأعيان لابن خلكان تحت ترجمة جعفر بن الباقر .
[18] انظر الصلة بين التصوف والتشيع ج1 ص 289 ط دار الأندلس بيروت الطبعة الثالثة 1982 م .
[19] الفهرست لابن النديم ص 503 .
[20] أخبار الحكماء للقفطي ص 111 .
[21] تاريخ العرب للهتي ج 2 ص 22 .