واحتمال مقتلهم بيد الروم. فامتنعوا من المسير في تلك الحملة، وقتلوا النبي (صلى الله عليه وآله)، واغتصبوا الخلافة!
منزلته مثل هارون من موسى (عليه السلام)
لما خلف النبي (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) على المدينة قال له علي (عليه السلام): أتخلفني في النساء والأطفال؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. إلا أنه لا نبي من بعدي (1). وكان البعض يخاف أشد الخوف من وصول الإمام علي (عليه السلام) إلى خلافة النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن ذلك يعني سيطرة بني هاشم على الحكم، وحرمان قريش من الخلافة، وعرفت خلافة علي (عليه السلام) الإلهية أكثر عندما تركه الرسول (صلى الله عليه وآله) على
(هامش)
(1) الكامل في التاريخ 2 / 278. (*)
ص 56
المدينة المنورة خليفة له ليحفظها واصفا إياه بهارون من موسى. والملاحظ لحركة المنافقين يجد أن بعض المسلمين قد تحرك تحركا جديدا يختلف عن الأساليب السابقة متمثلا في إنشاء مسجد يكون قلعة لضرب الإسلام المحمدي. ولأول مرة في تاريخ المسلمين هدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مسجدا لأنه مسجد ضرار. وتحرك آخرون لقتل النبي (صلى الله عليه وآله) قبل انتقال الحكم إلى علي (عليه السلام). والذي يفهم تاريخ السيرة جيدا يجد أن المنافس القوي لبني هاشم على السلطة هم قريش وليس الأنصار. لذلك دعا النبي (صلى الله عليه وآله) في مكة على قريش ولم يدع على الأنصار بل دعا لهم. ودعا الإمام علي (عليه السلام) على قريش ودعا للأنصار. وهناك نتيجة مفادها: إن دهاة قريش قد فعلوا عدة أمور قد خفيت على كثير من العلماء والمحققين إلى يومنا هذا تبين حرصهم على السلطة منها: حرفوا حديث الخلفاء من بعدي اثنا عشر أولهم علي (عليه السلام) إلى صالحهم، فجعلوا الحكم إلى يوم القيامة في قبائل قريش. وأبعدوا الأنصار وغيرهم عن الخلافة بلا سند إلهي وعقلي. وأرادوا قتل النبي (صلى الله عليه وآله) في أثناء عودته من تبوك، يوم كان الإمام علي (عليه السلام)
ص 57
في المدينة. ولم يكتفوا بذلك بل ألقوا بتبعة الأمر على الأنصار (1). وكانت عصبة قريش قد ألقت بتبعة لدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على العباس (2). فهم يتهمون الآخرين بعمليات الاغتيال التي يخططونها وينفذونها هم. وجاء عن نافع بن جبير بن مطعم: لم يخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأسماء المنافقين الذين بخسوا به ليلة العقبة بتبوك وهم اثنا عشر رجلا. وزادوا في الحديث قولهم: ليس فيهم قرشي وكلهم من الأنصار أو من حلفائهم! (3). وفي قضية السقيفة فعل رجال قريش نفس الشيء، فهم قد تركوا مراسم دفن النبي (صلى الله عليه وآله) وبايعوا أبا بكر في السقيفة، ولم يكتفوا بذلك، بل حاولوا القضاء على منافسيهم (الأنصار) قضاء تاما. وتمثل ذلك باتهام الأنصار بمحاولة بيعة سعد بن عبادة في السقيفة واغتصاب الحكم من قريش؟! في حين لم يجتمع الأنصار لمبايعة سعد، ولم يبايعوه، ولم يكن
(هامش)
(1) مختصر تاريخ دمشق 6 / 253. (2) معجم ما استعجم، عبد الله الأندلسي ص 142. (3) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور 6 / 253. (*)
ص 58
عندهم خطة لذلك، وما تلك الأخبار الكاذبة إلا هجمة لتحطيم الأنصار (1)، وإيجاد العذر اللازم لسقيفتهم. وقد جاء: لما رجع رسول الله قافلا من تبوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق، مكر به ناس من أصحابه، وتآمروا أن يطرحوه في العقبة (2) وأرادوا أن يسلكوها معه لهذه الغاية، فأخبر رسول الله خبرهم، فقال لأصحابه من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم. فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) العقبة، وأخذ الناس بطن الوادي إلا النفر الذين أرادوا المكر به، فقد استعدوا وتلثموا، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه مشيا، وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون، إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم، قد غشوهم. فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمر حذيفة أن يراهم، ويتعرف عليهم، فرجع ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم، وضربها بالمحجن، وأبصر القوم وهم متلثمون، فأرعبوا حين أبصروا حذيفة، وظنوا أن مكرهم قد ظهر، فاسرعوا حتى خالطوا الناس. وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله، فلما أدركه، قال (صلى الله عليه وآله): اضرب الناقة يا حذيفة، وامش أنت يا عمار، فاسرعوا وخرجوا من العقبة، ينتظرون
(هامش)
(1) أنظر كتاب السقيفة، لعبد الفتاح، والسقيفة للمؤلف. (2) العقبة: مرقى صعب من الجبال، والطريق في أعلاها، والجمع عقاب وعقبات وواحدة العقب. أقرب الموارد 2 / 807. (*)
ص 59
الناس. فقال النبي (صلى الله عليه وآله) يا حذيفة هل عرفت أحدا منهم؟ فقال: عرفت راحلة فلان وفلان، وكانت ظلمة الليل قد غشيتهم وهم متلثمون. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هل عرفت ما شأنهم وما يريدون؟ قال: لا يا رسول الله. قال (صلى الله عليه وآله): فإنهم فكروا أن يسيروا معي، حتى إذا صرت في العقبة طرحوني فيها! فقال: أفلا ترأف بهم إذا جاءك الناس. قال: أكره أن يتحدث الناس، ويقولوا: إن محمدا قتل أصحابه، ثم سماهم بأسمائهم (1). وفي كتاب أبان بن عثمان بن عفان، قال الأعمش: وكانوا اثني عشر، سبعة من قريش. وقال أبو البختري، قال حذيفة: لو حدثتكم بحديث لكذبني ثلاثة أثلاثكم. فقال: ففطن له شاب، فقال: من يصدقك إذا كذبك ثلاثة أثلاثنا! فقال: إن أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) كانوا يسألون رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الخير، وكنت
(هامش)
(1) السيرة الحلبية 3 / 143 طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت، ودلائل النبوة لأبي بكر أحمد البيهقي * 5 / 260 - 262 طبع دار الكتب العلمية - بيروت، وأخرجه مسلم في ص 50 كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، كتاب أبان بن عثمان. (*)
ص 60
أسأله عن الشر. قال: فقيل له: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنه من اعترف بالشر، وقع في الخير (1). وقال الحسن بن علي (عليه السلام): يوم أوقفوا الرسول (صلى الله عليه وآله) في العقبة ليستنفروا ناقته كانوا اثني عشر رجلا منهم أبو سفيان (2). وذكر ابن عبد البر الأندلسي في كتابه الاستيعاب: كان أبو سفيان كهفا للمنافقين منذ أسلم (3). وجاء أيضا: لدى العودة تآمر 12 منافقا ثمانية منهم من قريش، والباقي من أهل المدينة، لاغتيال الرسول (صلى الله عليه وآله) في أثناء الطريق، وقبل أن يصل إلى المدينة، وذلك بتنفير ناقة النبي (صلى الله عليه وآله) في عقبة بين المدينة والشام، ليطرحوه في واد كان هناك. وعندما وصل الجيش الإسلامي إلى بداية تلك المنطقة (العقبة) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي، فإنه أوسع لكم. فأخذ الناس بطن الوادي. ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذ بطريق العقبة، فيما يسوق حذيفة بن اليمان ناقة النبي (صلى الله عليه وآله)، ويقودها عمار بن ياسر، فبينما هم يسيرون إذ التفت رسول
(هامش)
(1) مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، ابن منظور 6 / 259. (2) كتاب المفاخرات، الزبير بن بكار، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 2 / 103 ط. دار الفكر 1388 ه. (3) الاستيعاب 2 / 690. (*)
ص 61
الله (صلى الله عليه وآله) إلى خلفه، فرأى في ضوء ليلة مقمرة فرسانا متلثمين، لحقوا به من ورائه، لينفروا به ناقته، وهم يتخافتون، فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصاح بهم، وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم. قائلا: اضرب وجوه رواحلهم. فأرعبهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بصياحه بهم إرعابا شديدا، وعرفوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علم بمكرهم ومؤامرتهم، فاسرعوا تاركين العقبة حتى خالطوا الناس. يقول حذيفة فعرفتهم برواحلهم وذكرتهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وقلت: يا رسول الله ألا تبعث إليهم لتقتلهم؟ فأجابه رسول الله في لحن ملؤه الحنان والعاطفة: إن الله أمرني أن أعرض عنهم، وأكره أن يقول الناس: إنه دعا أناسا من قومه وأصحابه إلى دينه، فاستجابوا له، فقاتل بهم، حتى ظهر على عدوه، ثم أقبل فقتلهم، ولكن دعهم يا حذيفة فإن الله لهم بالمرصاد (1). ولما جمعهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبرهم بما قالوه وأجمعوا له فحلفوا بالله ما قالوا. فأنزل الله تعالى: { يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم
(هامش)
(1) المغازي النبوية 3 / 1042 - 1045، مجمع البيان 3 / 46، إمتاع الأسماع 1 / 477. (*)
ص 62
ينالوا... } (1). وروى مسلم في صحيحه عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل: قال: كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله، كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم أخبره إذ سألك؟ فقال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر (2). لقد أخفى مسلم ذكر اسم ذلك الرجل والظاهر أنه أبو موسى الأشعري، ولو كان من الأنصار لذكر اسمه! ووفق رواية حذيفة بن اليمان كان في هؤلاء الرجال أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة وسعد بن أبي وقاص (3).