وما تلك الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
إذاً: فالعاطفة الصادقة تشمل بعطفها وودها ليس المحب وحده، ولكن كل ما يتصل به، مما لم يمنع مانع من حبه والميل إليه، وبموجب هذه الطبيعة، وانطلاقاً من هذه السجية، أحبت أمة الإسلام آل بيت نبيها صلى الله عليه وسلم وأنزلوهم المقام السامي، والمنزل الرفيع، وقدموهم في حبهم على حب أهليهم وأقربائهم، حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: [[ لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي ]]([1]).
ومما زاد هذه المودة الطبيعية قوة ما أخبر الله عنه من إرادته تطهير آل بيت نبيه وتزكيتهم، فقال سبحانه: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ))[الأحزاب:33]، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الصلاة عليه وعلى آله، فقال عليه الصلاة والسلام: { قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد }([2]).
وما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لآل بيته أن يجعل الله عليهم صلواته وبركاته { حيث ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم كساءً على فاطمة والحسن والحسين ثم وضع يده عليهم، ثم قال: اللهم إن هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد }([3]).
ويقول الإمام الشافعي في حب آل النبي صلى الله عليه وسلم:
يا أهل بيت رسول الله حبكم فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر أنكم من لم يصل عليكم لا صلاة له
إذاً: فلا إشكال في حب آل النبي صلى الله عليه وسلم وموالاتهم، بل هو محل إجماع عند أهل السنة جميعاً، ولكن الإشكال هو في الانحراف بهذه المحبة كشعور صادق نبيل إلى منهج من الغلو لا يرضي الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم كالقول بعصمتهم عن الخطأ، ووجوب طاعتهم، وكونهم يعلمون الغيب، وانحصار الولاية فيهم، وهي مسالك من البدع ينبغي الحذر منها، وبيان ضلال أصحابها.
دعوى عصمة أئمة آل البيت
غلت طائفة في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم غلواً عظيماً، إذ زعموا أن أئمة منهم علي والحسن والحسين معصومون من الخطأ فلا يقع منهم، ولا يجوز عليهم، يقول صاحب كتاب (عقيدتنا في الإمامة): (ونعتقد أن الإمام كالنبي، يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت، عمداً وسهواً. كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان، لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه، حالهم في ذلك حال النبي، والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة، بلا فرق) أ. هـ
وللرد على هؤلاء نقول: إن دعوى العصمة باطلة بلا شك، والدليل على بطلانها انتفاء الدليل على وجودها، وعدم ادعاء الأئمة أنفسهم لهذه الصفة، والحقائق التاريخية التي تثبت وقوع الخطأ منهم، فقد حفظ لنا التاريخ كثيراً من المواقف التي تظهر بوضوح عدم اعتقاد الأئمة لأنفسهم العصمة، وعدم ادعائهم لها، ومعرفة معاصريهم بهذه الحقيقة، حيث تعاملوا معهم على أنهم بشر صالحون غير معصومين، فهذا علي رضي الله عنه يأمر ابن عباس أن يسير إلى الشام، قائلاً له: [[ سر إلى الشام، فقد وليتكها. فقال له ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية أموي، وهو ابن عم عثمان، وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، أو أدنى أقل ما هو صانع أن يحبسني، قال علي: ولم؟ قلت: لقرابة ما بيني وبينك، وأن كل من حمل عليك حمل علي. ولكن اكتب إليه، فمنِّّه وعده، فأبى علي، وقال: لا والله، لا كان هذا أبدا ]] أ. هـ من "سير أعلام النبلاء".
وهذه الحادثة تدل على أن علياً لم يكن يعتقد من نفسه العصمة وإلا لما قبل مراجعة ابن عباس رضي الله عنه، وأن ابن عباس لم يكن يعتقد في علي العصمة وإلا لما راجع علياً، وأشار عليه بخلاف رأيه.
وحادثة أخرى تظهر هذه الحقيقة وتجليها، وهي ما كان عليه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في آخر أيامه من كثرة شكواه من أتباعه بسبب مخالفتهم إياه، وعصيانهم له، حتى كان من دعائه: [[ اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شراً مني، اللهم مث قلوبهم ميث الملح في الماء. أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم ]] وكان يخاطبهم بمرارة بالغة فيقول: [[ يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم، ولم أعرفكم، معرفة والله جرت ندماً، وأعقبت سدماً، قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب جرع التهمام -الهم- أنفاساً، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان ]] أ. هـ من نهج البلاغة.
فهل لو كانت العصمة ثابتة لعلي، هل كان سيختار من ينغص عليه حياته، ويخالفه في رأيه، ويعصيه في أمره!!
وهذا الحسن رضي الله عنه يتراجع عن رأي والده في قتال أهل الشام، ويوقع صلحاً يتنازل فيه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه ثم لا يلبث الحسين رضي الله عنه أن يرجع عن نهج أخيه، ويخرج لقتال الأمويين، ويستجيب لنداءات أهل الكوفة، فهل كان الحسن مصيبا فيما ذهب إليه، ما يعني بالضرورة خطأ الحسين، وإذا كان الحسين مصيباً فذلك يعني ضرورة خطأ الحسن، والاحتمالان يدلان على جواز الخطأ عليهما، وهو أمر يقران به، ولم يدعيا يوما عصمتهما رضي الله عنهما.
وهذا الإمام الصادق جعفر بن محمد أحد الأئمة رضي الله عنه يوصي قوماً راحلين عن المدينة بالقول: [[ إنكم إن شاء الله من صالحي أهل مصركم، فأبلغوهم عني: من زعم أني إمام معصوم مفترض الطاعة، فأنا منه برئ، ومن زعم أني أبرأ من أبي بكر وعمر، فأنا منه برئ ]].
وروى حماد بن زيد، عن أيوب قال: سمعت جعفراً يقول: [[ إنا والله لا نعلم كل ما يسألوننا عنه، ولغيرنا أعلم منا ]]، ذكر هذين الخبرين الذهبي في "سير أعلام النبلاء".
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما بكونهما سيدا شباب أهل الجنة، وبكونهما ريحانتيه من الدنيا، وبأن الحسن سوف يصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، ولم يرد مدحه لهما بالعصمة، وعِلْم الغيب، ووجوب الطاعة بإطلاق، ولا شك أن هذه الخصال أعظم ثواباً وأرفع منزلة فلو ثبتت لهما لمدحهما بها النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الاستدلال على عصمة أئمة من آل البيت بقوله تعالى: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ))[الأحزاب:33] فالرد على هذا الاستدلال بهذه الآية من وجوه:
الوجه الأول: أن الآية عامة في كل آل البيت، فلم خصصتم بالعصمة البعض وأخرجتم البعض الآخر، فإن قلتم دلنا على ذلك حديث الكساء، قلنا حديث الكساء إنما ذكر فاطمة والحسن والحسين فلم أضفتم عليهم غيرهم!!
الوجه الثاني: أن سياق الآية يدل على أن أزواجه داخلات في مدلول "أهل البيت"، وأنتم لم تقولوا بعصمتهن، والدليل على دخول أزواجه في مدلول الآية أن الله خاطبهن في بداية الآية، وقبلها، وبعدها، فقال سبحانه: (( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ))[الأحزاب:32-34].
الوجه الثالث: أن الآية نصت على أن الله يريد إذهاب الرجس عن أهل البيت، ولا يصح عقلا إرادة نفي شيء ليس بموجود أصلاً، وفي هذا دليل على أن آل بيته صلى الله عليه وسلم قد يتلبسون بشيء من الذنوب، وأن الله يريد إذهاب ذلك عنهم.
ونصت الآية كذلك على أن الله يريد تطهير آل بيت نبيه، ومن المعلوم أن التطهير إنما يحصل لمن تلبس بشيء يحتاج إلى تطهير، والمعصوم طاهر من الذنوب، فليس بحاجة إلى تطهير، فدلت الآية على جواز ووقوع الذنوب من آل بيت النبي.
أما الاستدلال على عصمة أئمة آل البيت بقوله - تعالى -: (( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ))[البقرة:124]، حيث قالوا: إن العهد هنا هو الإمامة، وأن من شرط الإمام ألا يكون ظالماً، قالوا والظلم أنواع: منها المعاصي، وعليه فمن شرط الإمام أن يكون معصوماً من جميع الذنوب، والجواب عن هذا أن لفظ الظلم وإن كان يطلق على كل مخالفة للشرع، إلا أن المراد به هنا مخصوص بما كان كفراً أو فسقاً، كارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر، ولهذا اشترط العلماء في الإمام أن يكون عدلاً بمعنى أن يكون مجتنباً للكبائر غير مصر على الصغائر، هذا فيما يتعلق بدينه، ولم يشترطوا فيه أن يكون معصوماً، وهذا الإمام علي يذكر شروط الإمامة فيقول: [[ وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة ]] أ. هـ نهج البلاغة. ولم يقل رضي الله عنه يجب أن يكون الإمام معصوما لا يخطئ.
على أننا لو قبلنا بشرط العصمة في الأئمة، لما بقي في أمة الإسلام كلها إمام، إذ ما من أحد إلا ووقع في الخطأ أو قال به، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: { كل بني آدم خطاء }([4]). حتى أئمة آل البيت أنفسهم أخطأوا وندموا على أشياء عملوها كما أسلفنا بذكر أمثلة ذلك من قبل.
منقول