الأدلة على استخلاف النبي(صلى الله عليه وآله) لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) ، وهي إضافة لما سبق من شواهد قطعية تثبت ذلك، وخصوصاً حديث الثقلين. ومن أشهر ما روي في استخلاف علي(عليه السلام) هو ما عرف بخطبة الغدير بعد الانتهاء من حجة الوداع في السنة الحادية عشرة للهجرة، حيث أعلن رسول الهدى على الملأ ذلك بقوله في نهايتها كما روى الترمذي بسنده عن زيد بن أرقم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" (1)، وقد أخرج ابن ماجة جزءاً من هذه الخطبة المسهبة في صحيحه بالسند عن البراء بن عازب قال: "اقبلنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حجته التي حج، فنزل في بعض الطريق، فأمر بالصلاة جامعة، فأخذ بيد علي(عليه السلام) ، فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: ألست أولى بكل مؤمن من نفسه، قالوا: بلى، قال: فهذا ولي من أنا مولاه، اللهم وال من والاه، اللهم عاد من عاداه" (2).
وفي مسند أحمد بن حنبل بسنده عن البراء بن عازب أيضاً قال: "كنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) في سفر، فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا: الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله(صلى الله عليه وآله) تحت شجرتين، فصلى الظهر وأخذ بيد علي(عليه السلام) ، فقال: ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه! قالوا: بلى،قال: فأخذ بيد علي(عليه السلام) فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، قال: فلقيه عمر بن الخطاب بعد ذلك، فقال له: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة (3).
إنّ هذا الحديث اشتهر باسم "حديث الغدير" نسبة إلى وقوع هذه الحادثة في مكان يسمى "غدير خم" قرب مكة، وهو مما لا يستطيع أحد أن يشكك في روايته، حيث أنّه روي في كثير من كتب الحديث عند أهل السنة، وحتى أنّ بعض العلماء قد أخرج له أكثر من 80 طريقاً من طرق أهل السنة فقط.
ويظهر من الأحاديث السابقة أن الرسول(صلى الله عليه وآله) قد أشهد المسلمين على ولايته عليهم عندما سألهم: "ألستم تعلمون بأني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟.... ألستم تعلمون أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه؟" ويفهم أنّه من يمتلك صفة (أولى بالمؤمنين من أنفسهم) لابد وأن يكون قائداً للمؤمنين كما كان فعلاً الرسول(صلى الله عليه وآله) قائداً، وعندما قرن بينه وبين علي(عليه السلام) بهذه الصفة بقوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" يكون قد أعطى صفة القيادة من بعده لعلي(عليه السلام) . والشيعة يحتفلون كل عام في الثامن عشر من ذي الحجة بهذه المناسبة ويسمونها بعيد الغدير.
وأما أهل السنة فقد حملوا هذا الحديث على غير ذلك، وقالوا بأنه لا يدل على الخلافة، وفسروا كلمة مولى بالمحب أو الصديق لا ولي الأمر، وبذلك يكون معنى هذا الحديث على رأيهم أنّه "من كنت صديقه فهذا علي صديقه"!!
والحقيقة أنّ كلمة "مولى" تأتي بمعاني عديدة في اللغة العربية، وحتى قيل إنّ لها سبعة عشر معنى من ضمنها "مُعْتَق" أو "الخادم"، لذلك فإن كلمة مولى في هذا الحديث تفهم بالإضافة إلى ما سبق من خلال قرائن كثيرة أنّها تدل على القيادة، ومن هذه القرائن:
1 ـ آية (يا أيها النبي بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)(4) التي نزلت كما جاء في تفاسير كثيرة قبل خطبة الغدير، وهي في مفهومها تدل على وجود أمر من الله سبحانه وتعالى يراد تبليغه، وأن هذا الأمر كما يظهر من سياق الآية ومن خلال لهجتها الحادة على درجة من الخطورة والأهمية يدل على أنّ المقصود ليس مجرد الصداقة والمناصرة.
2 ـ آية (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)(5)، والتي نزلت كما ذكر مفسرون كثيرون بعد حادثة الغدير، حيث تدل على اكتمال تبليغ الرسالة المحمدية والتي لم تكن لتكتمل بدون تبليغ ولاية على وأهل البيت عموماً، ومن المستبعد القول بأن اكتمال التبليغ قد حصل تبليغ الرسول(صلى الله عليه وآله) بصداقته ومحبته لعلي!
3 ـ إنّ الظروف التي ألقى فيها الرسول (صلى الله عليه وآله) خطبة الغدير، حيث الصحراء المحرقة وقد أمر المسلمين بالتجمع والذين قيل أنّ
عددهم جاوز التسعين ألفاً، وأخذ الاقرار منهم بولاية الله ورسوله قبل أن يأمرهم بولاية علي، تؤكد على أنّ الأمر لم يكن متعلقاً بمجرد حب علي وصداقته.
4 ـ الأحاديث السابقة وخصوصاً حديث الثقلين وكذلك ما يلي من أحاديث تدل في مجموعها على خلافة علي دون أن تدع أي مجال للشك.
شواهد إضافية على استخلاف علي:
في صحيح الترمذي وبسنده عن عمران بن حصين قال: "بعث رسول الله(صلى الله عليه وآله) جيشاً واستعمل عليهم علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، فمضى في السرية فأصاب جارية، فأنكروا عليه وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) والغضب يعرف في وجهه وقال: ما تريدون من علي؟ إنّ علياً مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي" (6).
وفي قوله تعالى: ( إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (7)، حيث ذكر أغلب المفسرين من أهل السنة أنها نزلت في علي عندما تصدق بخاتمه لمسكين جاءه وهو في ركوعه أثناء تأديته للصلاة.
وفي صحيح البخاري، عن مصعب بن سعد عن أبيه: "أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) خرج إلى تبوك واستخلف علياً فقال: اتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس نبي بعدي" (
، ويدل هذا الحديث على أنّ علياً(عليه السلام) له جميع المناصب التي كان يحتلها هارون(عليه السلام) في بني إسرائيل ـ باستثناء النبوة ـ، والتي بيّنها سبحانه وتعالى في قوله: (...واجعل لي وزيراً من أهلي * هارون أخي * أشدد به أزري وأشركه في أمري... قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) (9)، حيث يظهر في هذه الآيات أنّ هارون(عليه السلام) كان وزيراً لموسى(عليه السلام) ومعاونه الخاص وشريكه في قيادة الأمة.
وما يؤكد استحقاق عليّ لهذه المنزلة الرفيعة باستخلافه على الأمة، أنّه كان الأعلم بين جميع الصحابة، بدليل ما يرويه البخاري عن عمر بن الخطاب(رضي الله عنه)، فعن ابن عباس قال: "قال عمر(رضي الله عنه): اقرؤنا أبيّ، وأقضانا علي" (10) كذلك أنّ الأقضى هو الأعلم بالأحكام والقوانين كما لا يخفى.
ويكفي لاثبات أعلميته بين جميع الصحابة أنه كان باب مدينة علم رسول الله(صلى الله عليه وآله) وحكمته، ففي مستدرك الصحيحين بسنده عن ابن عباس، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب" (11).
وفي صحيح الترمذي قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : "أنا مدينة الحكمة وعلي بابها(12)"، وفي مستدرك الصحيحين قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لعلي: "أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي "(13).
بل إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) قد جعل كره علي علامة من علامات النفاق، كما يظهر ذلك من الرواية التي أخرجها مسلم في صحيحه بالسند عن عليّ(عليه السلام) قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأمي(صلى الله عليه وآله) إليّ أن لايحبني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق" (14).
وحتى لو لم يعين الرسول(صلى الله عليه وآله) خليفة بعده، ألا ينبغي على الأمة أن تختار الأعلم والأكثر تميزاً ليكون قائداً لها؟
فقد بيّنا فيما مضى أنّ علياً(عليه السلام) كان الأعلم بين جميع الصحابة،
حيث كانوا يرجعون إليه إذا ما واجهتهم معضلة دينية معقدة، ومثال ذلك ما أخرجه أبو داود بسنده عن ابن عباس قال: "أتي عمر بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناساً، فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها أن ترجم، قال، فقال: ارجعوا بها، ثم أتاه فقال: يا عمر، أما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة، عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل؟ قال: بلى، قال: فما بال هذه ترجم؟ قال: لا شيء، قال: فأرسلهما، قال: فجعل عمر يكبر"(15) وأخرج البخاري أيضاً جزءاً من الحادثة في صحيحه(16).
بالإضافة إلى ذلك، فقد عرف الإمام علي (عليه السلام) بإمام الزاهدين، واشتهر بشجاعته وبطولاته الخارقة، فقد كان أول فدائي في الإسلام، وكان له في كل معركة من معارك الإسلام مع الرسول (صلى الله عليه وآله) الدور الحاسم، ففي بدر قتل بسيفه "ذي الفقار" ثلاثين صنديداً من صناديد قريش، وفي أحد وحنين وقف ذلك الموقف التاريخي مستميتاً يدافع عن الرسول(صلى الله عليه وآله) بعد فرار الغالبية العظمى من الصحابة!!، وفي الخندق تصدى لمبارزة عملاق المشركين عمرو بن عبدود العامري واجهز عليه في الوقت الذي لم يجرؤ فيه أي من باقي الصحابة بالخروج إليه، بالرغم من أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) دعاهم لذلك ثلاث مرات قبل أن يسمح لعلي(عليه السلام) بالقيام بذلك والذي كان صغير السن مقارنة بمعظم الصحابة. وفي خيبر إذ فتح الله على يديه باب الحصن، بعد أن استعصى على المسلمين يومها وقد عجز عن فتحه جمع كبير من الصحابة مجتمعين.
وتميز أيضاً عن باقي الصحابة بأنه لم تدنسه الجاهلية بأوثانها، وتلقى تربيته الفريدة على يد معلم البشرية الأول محمد(صلى الله عليه وآله) ولم يفارقه لحظة طوال حياته حتى فارق الدنيا وهو بين يديه، فكان طوال حياته يتلقى العلم والحكمة من رسول الله(صلى الله عليه وآله) فاستحق بجدارة أن يكون باب مدينة علم رسول الله(صلى الله عليه وآله) وحكمته وأخاه.
فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عمر قال: "آخى رسول الله(صلى الله عليه وآله) بين أصحابه، فجاء علي(عليه السلام) تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله، آخيت بين أصحابك ولم تواخ بيني وبين أحد، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : أنت أخي في الدنيا والآخرة" (17). وحتى أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) اعتبر علياً منه كما روى البخاري: "قال النبي(صلى الله عليه وآله) لعلي: أنت مني وأنا منك" (18).
وتميز أيضاً عن باقي الصحابة بأنّه كان الأكثر فضائلاً، كما أخرج ذلك الحاكم في مستدركه نقلاً عن أحمد بن حنبل بقوله: "ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) "(19).
وفي كنز العمال، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : "إنّ الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي" (20)، وكان ذلك بعد أن رفض تزويجها لعدد من الصحابة تقدموا لطلبها في محاولة لنيل هذا الشرف العظيم بالزواج من بضعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وسيدة نساء المؤمنين وأهل الجنة والتي يغضب الله لغضبها، وقد صدق من قال: "لو لم يخلق علي ما كان لفاطمة كفوء" (21).
وبعد كل ذلك، فإنّه لو كان اختيار الخليفة موكولاً إلى الناس، فإنّ علياً(عليه السلام) كان الأكثر تميزاً بين الصحابة، وبالتالي الأكثر لياقة واستحقاقاً للخلافة.
____________
1- صحيح الترمذي: ج5 ص633 ح3713.
2- سنن ابن ماجة: ج1 ص43، باب فضل علي بن أبي طالب ح16، ط دار الفكر، بيروت.
3- مسند أحمد: ج4 ص281.
4- المائدة: 67، الواحدي في أسباب النزول: ص135، والتفسير الكبير للرازي ج12 ص48 ـ 49.
5- المائدة: 3، السيوطي في الدر المنثور ج2 ص259، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج8 ص290.
6- صحيح الترمذي: ج5 ص632 ح3712.
7- المائدة: 55، تفسير الطبري ج6 ص186، أسباب النزول للواحدي: ص133، شواهد التنزيل للحاكم ج1 ص164 ـ 167، أنساب الأشراف ج2 ص381.
8- صحيح البخاري: ج6 ص3، كتاب المغازي.
9- طه: 29 ـ 36.
10- صحيح البخاري: ج6 ص23 كتاب التفسير باب قوله ـ "ننسخ آية أو ننسها" ـ.
11- مستدرك الصحيحين ج3 ص126.
12- صحيح الترمذي ج5 ص637 ح3723.
13- مستدرك الصحيحين ج3 ص122.
14- صحيح مسلم ج1 ص86 ح131 كتاب الإيمان باب حب علي كرم الله وجهه من الايمان.
15- سنن أبي داود ج4 ص140 ح4399، باب المجنون يسرق أو يصيب حداً.
16- صحيح البخاري ج8 ص204 كتاب المحاربين باب لا يرجم المجنون والمجنونة.
17- صحيح الترمذي: ج5 ص636 ح3720.
18- صحيح البخاري: ج5 ص22 كتاب فضائل الصحابة.
19- مستدرك الصحيحين: ج3 ص107.
20- كنز العمال ج13 ص 683 ح37753، ذخائر العقبى: ص30.
21- كنوز الحقائق للمناوي، وأخرجه الديلمي ج3 ص372 ح5127.