لا نزاع بينهم في ثبوت حقّ الخليفة في النصّ على مَن يخلفه ، ولافي نفوذ هذا النصّ ؛ لاَنّ الاِمام أحقّ بالخلافة ، فكان اختياره فيها أمضى ، ولا يتوقّف ذلك على رضى أهل الحلّ والعقد (1).
وإنّما صار ذلك للخليفة خوفاً من وقوع الفتنة واضطراب الاَُمّة (2).
فمن أجل ذلك كان بعض الصحابة يراجع عمر ويسأله أن ينصّ على من يخلفه (3) .
تُرى، لماذا لا يكون النبيّ (صلى الله عليه وآله) أوْلى بالتفكير في ذلك، وبرعاية هذه المصلحة ؟!
إنّه الرحمة المهداة، بلا شكّ. أليس من تمام الرحمة وجمالها أن يُجنّب أُمّته المحذور من الاختلاف بعده ؟!
لقد أحبّ أُمّته وحرص عليها ( عزيزٌ عليه ماعنِتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) (4).
وأيضاً: فقد كان (صلى الله عليه وآله) يعلم أنّنا سوف لاننتظر بعده نبيّاً يُعيد نظمَ أمرنا!
لقد بصر ابن حزم بذلك ، فحاول أن يتداركه ، فقال : وجدنا عقد الاِمامة يصحّ بوجوه : أوّلها وأصحّها وأفضلها أن يعهد الاِمام الميّت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته ، سواء جعل ذلك في صحّته أو عند موته ، كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأبي بكر ، وكما فعل أبو بكر بعمر ، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز .
قال : وهذا هو الوجه الذي نختاره ، ونكره غيره ، لِما في هذا الوجه من اتّصال الاِمامة ، وانتظام أمر الاِسلام وأهله ، ورفع مايتخوّف من الاختلاف والشغب ممّا يُتوَقّع في غيره من بقاء الاَُمّة فوضى ، ومن انتشار الاَمر وحدوث الاَطماع (5).
لقد لحظ ابن حزم أكثر من ثغرة في تلك النظرية ( الشورى ) ، فأظهر مهارةً في محاولة رتقها ، بأنْ جمع بين الضرورات الدينية والعقلية والاجتماعية وبين الاَمر الواقع ، ليخرج بصيغة أكثر تماسكاً .
فتَرْكُ الاَُمّة دون تعيين وليّ الاَمر الذي يخلف زعيمها يعني بقاء الاَُمّة فوضى ، وتشتّت أمرها ، وظهور الاَطماع في الخلافة لا محالة.. وهذا ممّا ينبغي أن يدركه النبيّ (صلى الله عليه وآله) فيبادر إلى تلافيه ، ولو في مرضه الذي توفّي فيه .
وتعيين الخليفة بهذه الطريقة سيضمن اتّصال الاِمامة ، وانتظام أمر الاِسلام .
وإذا كان أبو بكر قد أدرك ذلك فنصَّ على مَن يخلفه ، وأدركه أيضاً عمر ، وأدركه سليمان بن عبد الملك ، فكيف نظنّ بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قد أغفل ذلك ؟!
إنّها إثارات جادّة دفعته إلى حلٍّ وحيد يمكنه أن ينقذ هذه النظرية ، كما ينقذ الاَمر الواقع بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وتمثّل هذا الحلّ عنده بنصّ النبيّ على أبي بكر بالخلافة !
إذن فلا النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد ترك هذا الاَمر للاَُمّة ، أو تركها فوضى ، ولا كانت بيعة أبي بكر فلتة !
إنّها أُطروحة متينة ، كفيلة بقطع النزاع ، لو تمّت.. !
ولكنّها ـ للاَسف ـ لم تكن سوى مجازفة ، فمن البديهي عندئذٍ أن تكون عاجزةً عن تحقيق الاَمل المنشود منها !
فلا هي تداركت تلك النظرية وعالجت ثغراتها ، ولا هي أنقذت الاَمر الواقع !
وذلك لسبب بسيط ، وهو أنّ النصّ على أبي بكر لم يثبت ، بل لم يدّعِ وجوده أحد ، بل تسالمت الاَُمّة على عدمه .
فمن أراد أن يثبت مثل هذا النصّ على أبي بكر بالخصوص ، فعليه أن ينفي حادثة السقيفة جملةً وتفصيلاً .
عليه أن يكذّب بكلّ ماثبت نقله في الصحاح من كلام أبي بكر وعمر وعليٍّ والعبّاس والزبير في الخلافة..
عليه أن يهدم بعد ذلك كلّ ماقامت عليه نظرية أهل السُنّة في الاِمامة ، فلم تُبْنَ هذه النظرية أوّلاً إلاّ على أصل واحد ، وهو البيعة لاَبي بكر بتلك
الطريقة التي تمّت في السقيفة وبعدها !!
عليه أن ينفي ماصرّحوا به من (الاِجماع على أنّ النصّ منتفٍ في حقّ أبي بكر) (6) !
ولم يكن هذا الطرح منسجماً مع هذه المدرسة ومبادئها ، وإنّما هو محاولة لسدّ ثغراتها ، ومقابلة للاِلحاح الذي تُقدّمه النظرية الاُخرى القائمة على أساس النصّ ، ولقطع دابر النزاع ، كما ذكر ابن حزم .
إنّه كان مقتنعاً بضرورة النصّ ، ولكنّه أراد نصّاً منسجماً مع الاَمر الواقع، وإنْ لم يسعفه الدليل !!
إقرار بقدر من النصّ :
لم يختف النصّ إلى الاَبد في هذه النظرية ، والشورى هنا ليست مطلقة العنان ، فليس لاَهل الحلّ والعقد أن ينتخبوا من شاءوا بلا قيد .
إنّ هناك حدّاً تلتزمه الشورى ، وهذا الحدّ إنّما رسمه النصّ الثابت .
قالوا : إنّ من شرط الاِمامة : النَسَب القرشي ، فلا تنعقد الاِمامة بدونه.. وعلّلوا ذلك بالنصّ الثابت فيه ، فقد ثبت عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «الاَئمّة من قريش» .
وقال : «قدّموا قريشاً ولا تتقدّموها» . وليس مع هذا النصّ المسلَّم شبهةٌ لمنازع ، ولا قول لمخالف (7).
واشترطوا لهذا القرشي أن يكون قرشيّاً من الصميم ، من بني النضر بن كنانة ، تصديقاً للنصّ (
.
وقال أحمد : (لا يكون من غير قريش خليفة) (9).
واستدلّوا على تواتر هذا النصّ بتراجع الاَنصار وتسليمهم الخلافة للمهاجرين القرشيّين حين احتجّوا عليهم بهذا النصّ في السقيفة (10).
وقال ابن خلدون : ( بقي الجمهور على القول باشتراطها ـ أي القرشية ـ وصحّة الخلافة للقرشيّ ولو كان عاجزاً عن القيام بأُمور المسلمين ) (11).
وهكذا ثبت النصّ الشرعي ، وثبت تواتره ، وثبت الاِجماع عليه .
وحين تراجع بعضهم عن الالتزام بهذا النصّ ـ كأبي بكر الباقلاّني ـ فسّر ابن خلدون سرّ تراجعه ، وردّ عليه ، فقال : لمّا ضعف أمر قريش ، وتلاشت عصبيّتهم بما نالهم من الترف والنعيم ، وبما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الاَرض ، عجزوا بذلك عن أمر الخلافة وتغلّبت عليهم الاَعاجم ، فاشتبه ذلك على كثير من المحقّقين حتّى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشية ، وعوّلوا على ظواهر في ذلك مثل قوله (صلى الله عليه وآله) : «اسمعوا وأطيعوا وإنْ وليَ عليكم عبدٌ حبشي» (12).
قال : وهذا لاتقوم به حجّة في ذلك ، لاَنّه خرج مخرج التمثيل ، للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة (13).
وثبت النصّ واستقرّ ، ولا غرابة ، فهو نصّ صحيح ، بل متواتر .
وهو فوق ذاك ينطوي على فائدة أُخرى ، فهو النصّ الذي يعزّز أركان هذه النظرية ، إذ يضفي الشرعية على الخلافة في كافة عهودها ، ابتداءً من أوّل عهود الخلافة ! وانتهاءً بآخر خلفاء بني العبّاس ، فهذا كلّ مايتّسع له لفظ القرشيّة هنا .
لمّا تغلب معاوية بالسيف بلغه أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص يُحدِّث أنّه سيكون ملك من قحطان ، فهبّ معاوية غضباً فجمع الناس وخطبهم قائلاً : أمّا بعد ، فإنّه بلغني أنّ رجالاً منكم يحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولاتؤثر عن رسول الله ، أُولئك جهّالكم ! فإيّاكم والاَمانيّ التي تضلّ أهلها ، فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : «إنّ هذا الاَمر في قريش، لايعاديهم أحد إلاّ كبّه الله في النار على وجهه» (14).
وقفة مع هذا النصّ :
عرف المهاجرون القرشيّون الثلاثة ـ أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ـ هذا النصّ فاحتجّوا به على الاَنصار في السقيفة ، فأذعن الاَنصار ، وعاد القرشيّون بالخلافة ، أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ مالت عن أبي عبيدة ، لا لعدم كفاءته وهو القرشيّ المهاجر ، بل لاَنّه قد توفّي في خلافة عمر ، فلمّا حضرت عمر الوفاة تأسّف عليه ، وقال : (لو كان أبو عبيدة حيّاً لولّيتهُ)(15).. والاَمر ماضٍ مع النصّ .
ولكن حين لم يكن أبو عبيدة حيّاً كاد ذلك المبدأ ـ النصّ ـ أن ينهار ، وكاد ذلك النصّ المتواتر أن يُنسى ، كلّ ذلك على يد الرجل الذي كان من أوّل المحتجّين به على الاَنصار ، عمر بن الخطاب ! إنّه لمّا لم يجد أبا عبيدة حيّاً ، قال : (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيتُه) (16).
ولمّا لم يكن سالم حيّاً ، قال : (لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيتُه) (17).
فهل كان سالم قرشياً ؟! أم كان معاذ كذلك ؟!
أمّا سالم : فأصله من إصْطَخْر ، من بلاد فارس ، وكان مولىً لاَبي حذيفة(18) !
وأمّا مُعاذ : فهو رجل من الاَنصار الّذين أغار عليهم القرشيّون الثلاثة في السقيفة ، وفيهم عمر ، واحتجّوا عليهم بأنّ الاَئمّة من قريش ، وهيهات أن ترضى العرب بغير قريش ! هذا الكلام قاله عمر في خطابه للاَنصار في السقيفة ، ثمّ واصل خطابه قائلاً : (ولنا بذلك الحجّة الظاهرة ، مَن نازعنا سلطانَ محمّد ونحن أولياؤه وعشيرتُه ، إلاّ مُدْلٍ بباطلٍ ، أو متجانفٍ لاِثم ، أو متورّط في هَلَكة) (19)؟!
إنّ تعدّد هذه المواقف المختلفة أضفى كثيراً من الغموض على عقيدة عمر في الخلافة ، ممّا يزيد في إرباك نظرية الخلافة والاِمامة إذا ماأرادت أن تُساير جميع المواقف ، من هنا اضطرّوا إلى الضرب على اختلافات عمر حفاظاً على صورة أكثر تماسكاً لهذه النظرية ، كلّ ذلك لاَجل تثبيت هذا المبدأ القائم على النصّ الشرعي : «الاَئمّة من قريش» .
واضح إذن كيف تمّ الانتصار للنصّ على الرأي المخالف !
وواضح أيضاً كيف كان قد تمّ الانتصار لمبدأ النصّ على مبدأ الشورى ، وذلك حين رأى الخليفة ضرورة النصّ على من يخلفه ، هذا بغض النظر عن السر الذي ذكرناه في طرح نظرية الشورى !
فدخل النصّ إذن في قمّة النظام السياسي !
إذن ، ثبت لدينا نصّ صريح صحيح وفاعل في هذه النظرية ، وهو الحديث الشريف «الاَئمّة من قريش» وقد أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن والسير بألفاظ مختلفة .
ضرورة التخصيص في النصّ :
1 ـ إنّ قراءةً سريعة في تاريخنا السياسي والاجتماعي توقفنا على حقيقة أنّ النصّ المتقدّم «الاَئمّة من قريش» بمفرده لايحقق للاِمامة الاَمل المنشود منها في حراسة الدين والمجتمع .
وأوّل من لمس هذه الحقيقة هم الصحابة أنفسهم منذ انتهاء عصر الخلفاء الاَربعة ، ثمّ أصبحت الحقيقة أكثر وضوحاً لدى من أدرك ثاني ملوك بني أُميّة ـ يزيد بن معاوية ـ ومَن بعده .
ففي صحيح البخاري : لمّا كان النزاع دائراً بين مروان بن الحكم وهو بالشام ، وعبد الله بن الزبير وهو بمكّة ، انطلق جماعة إلى الصحابي أبي برزة الاَسلمي رضي الله عنه فقالوا له : ياأبا برزة ، ألا ترى ماوقع فيه الناس ؟! فقال : إنّي أحتسب عند الله أنّي أصبحتُ ساخطاً على أحياء قريش ، إنّ ذاك الذي بالشام والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا ، وإنّ الذي بمكّة والله إنْ يقاتل إلاّ على الدنيا (20) !!
2 ـ وأهمّ من هذا أنّه ثمّة نصوص صحيحة توجب تضييق دائرة النصّ المتقدّم..
لقد حذّر النبيّ (صلى الله عليه وآله) من الاغترار بالنسب القرشي وحسب ، وأنذر بأنّ ذلك سيؤدّي إلى هلاك الاَُمّة وتشتّت أمرها !
ففي صحيح البخاري عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «هَلَكَةُ أُمّتي على يَدَي غلمةٍ من قريش» (21) .
كيف إذن سيتمّ التوفيق بين النصّين : «الاَئمّة من قريش» و «هَلَكة أُمّتي على يدي غلمة من قريش» ؟!
أليس لقائل أن يقول : ماهو ذنب الاَُمّة ؟! إنّها التزمت نصّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)
«الاَئمّة من قريش» فقادها هذا النصّ إلى هذا المصير حين ذُبح خيار الاَُمّة بسيوف قريش أنفسهم !
أليس النصّ هو المسؤول ؟!
حاشا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يضع أُمّته على حافة هاوية ، وهو الذي كان قد استنقذها من الهاوية .
إنّهم أرادوا أن يحفظوا الرسول بحفظ جميع الصحابة وإضفاء الشرعية حتّى على المواقف المتناقضة تجاه القضيّة الواحدة ، فوقعوا في مافرّوا منه !
بل وقعوا في ماهو أكبر منه حين صار النصّ النبويّ هو المسؤول عمّا آل إليه أمر الاَُمّة من فتن ، ثمّ هَلَكة !
فهؤلاء الغلمة إنّما يكون هلاك الاَُمّة على أيديهم عندما يملكون أمر الاَُمّة ، لكنّ الاَُمّة إنْ رضيت بهم فإنّما كان اتّباعاً للنصّ الاَوّل «الاَئمّة من قريش» فهل يكون هذا إلاّ إغراء ؟!
حاشا لرسول الله أن يكون ذلك منه ، وإنّما هو من علامات التهافت في هذه النظرية التي أغضت عن كلّ ماورد في السُنّة ممّا يفيد تخصيص ماورد في حقّ قريش .
نوعان من التخصيص :
ورد في السُنّة نوعان من التخصيص في أمر قريش ؛ تخصيص سلب ، وتخصيص إيجاب .
1 ـ تخصيص السلب : ثمّة نصوص صريحة تستثني قوماً من قريش ، فتبعدهم عن دائرة التكريم ، ناهيك عن التقديم : قال ابن حجر الهيتمي : في الحديث المرويّ بسندٍ حَسَن أنّه (صلى الله عليه وآله) قال : «شرّ قبائل العرب : بنو أُميّة وبنو حنيفة وثقيف» .
قال : وفي الحديث الصحيح ـ قال الحاكم : على شرط الشيخين ـ عن أبي برزة رضي الله عنه أنّه قال : ( كان أبغض الاَحياء ـ أو الناس ـ إلى رسول الله بنو أُميّة ) (22) .
والذي ورد في ذمّ آل الحَكَم ـ أبو مروان ـ خاصّة كثير ومشهور .
فهل يصحّ أن تُسند الاِمامة إلى شرّ قبائل العرب ، وأبغض الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟!
ومن دقائق النصّ الاَوّل إقرانه بني أُميّة ببني حنيفة ، وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الكذّاب !!
فإذا أصبح هؤلاء هم الحكّام في الواقع فعلينا أن نشهد أنّ هذا الواقع منحرف عن النصّ ، بدلاً من أن نسعى لتبريره وإخضاعه للنصّ .
2 ـ تخصيص الاِيجاب : الحديث الذي ميّز قريشاً بالاصطفاء على سائر القبائل لم يقف عند دائرة قريش الكبرى ، بل خصّ منها طائفةً بعينها، فقال (صلى الله عليه وآله) : «إنّ الله اصطفى كنانة من وُلد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم»(23).
وهذا تقديم لبني هاشم على سائر قريش ..
ساق ابن تيميّة هذا الحديث الصحيح ، وأضاف قائلاً : وفي السنن أنّه شكا إليه العبّاسُ أنّ بعض قريش يحقّرونَهم ! فقال (صلى الله عليه وآله) : «والذي نفسي بيده لايدخلون الجنّة حتّى يحبّوكم لله ولقرابتي» وإذا كانوا أفضل الخلائق ، فلا ريب أنّ أعمالهم أفضل الاَعمال.. ففاضلهم أفضل من كلّ فاضل من سائر قبائل قريش والعرب ، بل وبني إسرائيل وغيرهم (24).
وليس المقام مقام تفضيل وحسب ، بل إنّ قريشاً لا يصحّ لها إيمان مالم تحبّ بني هاشم حُبّين : لله ، ولقرابة الرسول !
فهل يصحّ أن تكون قريش كلّها سواء في حقّ التقدّم والاِمامة ، وفيها بنو هاشم الّذين رفعهم النصّ إلى أعلى منزلة ، وفيها بنو أُميّة الّذين خفضهم النصّ إلى أردى الرتب ؟!
إذا كان الواقع قد آل إلى هذه الحال ، فعلينا أن نشهد أنّه واقع منحرف عن النصّ ، لا أن نسعى إلى تبريره .
نتيجة البحث :
ممّا تقدّم يبدو بكّل وضوح أنّنا هنا قد أخفقنا في تحقيق نظرية منسجمة متماسكة في موضوع الاِمامة ، وأنّ السبب الحقيقي لهذا الاِخفاق هو متابعة الاَمر الواقع والسعي لتبريره وجعله مصدراً رئيساً في وصف النظام السياسي .
وتلك الوجوه المتناقضة كلّها من المستحيل أن تجتمع في نظرية واحدة ، فتكون نظرية منسجمة وذات تصوّر واضح ومحدّد ومفهوم .
هذا كلّه ، وبقدر مايثيره من شكوك حول صلاحية هذه النظرية ، فإنّه يرجّح الرأي الآخر الذي يذهب إلى اعتماد النصّ الشرعي في تعيين خليفة الرسول .
إلى هذه النتيجة أيضاً خلص الدكتور أحمد محمود صبحي وهو يدرس نظرية الاِمامة ، إذ قال : (أمّا من الناحية الفكرية فلم يقدّم أهل السُنّة نظرية متماسكة في السياسة تُحدّد مفاهيم البيعة والشورى وأهل الحلّ والعقد ، فضلاً عن هوّة ساحقة تفصل بين النظر والتطبيق ، أو بين ماهو شرعي وبين ما يجري في الواقع .
لقد ظهرت نظريات أهل السُنّة في السياسة في عصر متأخّر بعد أن استقرّ قيام الدولة الاِسلامية على الغَلَبة.. كما جاء أكثرها لمجرّد الردّ على الشيعة.. والتمس بعضها استنباط حكم شرعي من أُسلوب تولّي الخلفاء الثلاثة الاَوائل .
وإنّ الهوّة الساحقة بين تشريع الفقهاء وبين واقع الخلفاء ، فضلاً عن تهافت كثير من هذه الآراء وإخفاقها في استنباط قاعدة شرعية ، هو ما مكّن للرأي المعارض ـ القول بالنصّ ـ ممثّلاً في حزب الشيعة) (25).
____________
(1) الاَحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : 10 ، الاَحكام السلطانية ـ للبغوي ـ : 25 ـ 26 .
(2) الفِصَل 4 : 169 ، تاريخ الاَُمم الاِسلامية ـ للخضري ـ : 1 : 196 .
(3) الكامل في التاريخ 3 : 65 .
(4) التوبة 9 : 128 .
(5) الفِصَل 4 : 169 .
(6) شرح المقاصد 5 : 255 ، ومصادر أُخرى .
(7) الاَحكام السلطانية ـ للماوردي ـ : 6 .
(
الاَحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : 20 ، الفِصَل 4 : 89 ، مآثر الاِنافة 1 : 37 ، مقدّمة ابن خلدون : 214 فصل 26 .
(9) الاَحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : 20 .
(10) الفِصَل 4 : 89 .
(11) المقدّمة : 215 .
(12) والخوارج أيضاً احتجّوا بهذا حين لم يجدوا بينهم قرشياً يسندون إليه الزعامة فيهم !
(13) مقدّمة ابن خلدون : 214 ـ 215 فصل 26 .
(14) صحيح البخاري ـ كتاب الاَحكام ـ باب 2 | 6720 .
(15) مسند أحمد 1 : 18، الكامل في التاريخ 3 : 65، صفة الصفوة 1 : 367 ، سير أعلام النبلاء 1 : 10.
(16) الكامل في التاريخ 3 : 65 ، صفة الصفوة 1 : 283 ، طبقات ابن سعد 3 : 343 .
(17) مسند أحمد 1 : 18، صفة الصفوة 1 : 494، طبقات ابن سعد 3 : 590، سير أعلام النبلاء 1 : 10.
(18) سير أعلام النبلاء 1 : 167 .
(19) راجع : الكامل في التاريخ 2 : 329 ـ 330 ، الاِمامة والسياسة : 12 ـ 16 .
(20) صحيح البخاري ـ الفتن ـ باب 20 | 6695 .
(21) صحيح البخاري ـ الفتن ـ باب 3 | 6649 ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13 : 7 ـ8. ومما يثير الدهشة أن تجد هذه الاَحاديث وأكثر منها في آل أبي سفيان وآل مروان ، تجدها في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير تحت عنوان (إخباره (صلى الله عليه وآله) لما وقع من الفتن من بني هاشم بعد موته) !! 6 : 255 ـ ط. دار التراث العربي ـ سنة 1992 م ، و 6 : 227 ـ ط . مكتبة المعارف ـ سنة 1988 م . علماً أنّه وضعها وفق ترتيبه التاريخي في أحداث العهد الاَموي!! ولعل المتهم في هذا ناسخ أمويّ الهوى غاضه ذكر بني أُمية في هذا العنوان فقلبه على بني هاشم !
(22) تطهير الجنان واللسان : 30 .
(23) صحيح مسلم ـ كتاب الفضائل ـ | 1 .
(23) صحيح مسلم ـ كتاب الفضائل ـ | 1 .
(24) ابن تيميّة ، رأس الحسين : 200 ـ 201 مطبوع مع استشهاد الحسين ـ للطبري .
(25) الزيدية : 35 ـ 37.