قال في ( الملل والنحل ) : الخلاف الثاني في مرضه : أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : " جهزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلف عنه " . فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره ، وأسامة قد برز من المدينة . وقال قوم : قد اشتد مرض النبي عليه السلام فلا تسع قلوبنا مفارقته ، والحالة هذه ( 2 ) وكان سبب ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة المصدر 1 : 29
ابن زيد ، فطعن الناس في إمرته فغضب لذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام فيهم خطيبا وقال : " إن تطعنوا في إمرته ، فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل ، وأيم الله إن كان لخليقا للإمرة ، وإن كان لمن أحب الناس إلي ، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده " ( 1 ) . ودخلت أم أيمن ، فقالت : أي رسول الله ، لو تركت أسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل ، فإن أسامة إن خرج على حالته هذه لم ينتفع بنفسه . فقال صلى الله عليه وآله وسلم : " أنفذوا بعث أسامة " . وعسكر الجيش خارج المدينة ، وفيهم أبو بكر وعمر ، وثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبلغ ذلك أسامة ، فجاءه ، وطأطأ عليه يقبله ، فجعل الحبيب المصطفى يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة ، كالداعي له ، ثم أشار إليه بالرجوع إلى عسكره والتوجه لما بعثه فيه ، فرجع أسامة إلى عسكره . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصبح بارئا ، فدخل عليه أسامة من معسكره ، فأمره رسول الله بالخروج وتعجيل النفوذ ، وقال : " اغد على بركة الله " وجعل يقول : " أنفذوا بعثة أسامة " ويكرر ذلك ( 2 ) . الآن ضع كلماته صلى الله عليه وآله وسلم : " جهزوا جيش أسامة " ، " أنفذوا بعثة أسامة " ، لعن الله من تخلف عنه " ضعها إلى جنب قوله تعالى :
( 1 ) صحيح البخاري 5 : 96 / 223 و 5 : 290 / 262 ، صحيح مسلم 4 : 1884 / 2426 ،
مسند أحمد 2 : 20 ، سيرة ابن هشام 4 : 300 ، الطبقات الكبرى 4 : 65 ، ابن أبي الحديد 1 : 159 ،
السيرة النبوية - المسمى ( عيون الأثر ) - 2 : 352 ، سير أعلام النبلاء 2 : 500 ، المغازي - للذهبي - 714 وقال : متفق على صحته .
( 2 ) الطبقات الكبرى 4 : 68 ، تهذيب تاريخ دمشق 1 : 122 ، ابن أبي الحديد 1 : 160 و 6 : 52 ، المغازي - للواقدي - 3 : 1119 ، عيون الأثر 2 : 352 ، تاريخ ابن خلدون 2 : 484 وأورده موجزا على عادته ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( 1 ) . وقوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )
( 2 ) . وهل يشك أحد في كونه صلى الله عليه وآله وسلم أعلم بمصلحة الدين والأمة منهم ، وأنه أشفق على الإسلام والمسلمين من غيره ؟ إذن كيف نفسر ذلك منهم ؟ مهما كان فهو في خلاف ما أمر به رسول الله ، وشدد عليه ، والنصوص في ذلك صريحة . وشواهد كثيرة يطول ذكرها تدل كلها على عدم سلامة الرأي القائل بعدالة كل صحابي . وتدل أيضا على أن التاريخ السياسي لهذه الأمة له الأثر الأكبر فيما بلغنا حول بعض الصحابة ، وللموضوع تتمة في الفصل الآتي . وأما باقي الصحابة وهم الأكثر عددا ، فهم أنصار الله ورسوله ، وهم أفضل من على وجه الأرض حينئذ ، وبهم قام هذا الدين وانتصر ، فجزاهم الله على ذلك أحسن الجزاء ، ورضي عنهم وأرضاهم ، وجعلنا من التابعين لهم بإحسان . ( 1 ) النساء : 59 . ( 2 ) الأحزاب : 36