الكاتب : العلامة الفقيد الشيخ محمد جواد مغنية ( رحمه الله ) دراسة قيمة و مختصرة يتناول فيها سماحة العلامة الفقيد الشيخ
محمد جواد مغنية ( رحمه الله ) مكانة آل بيت الرسول ( صلى الله عليه و آله ) و ما قدموه من خدمات جسيمة للدين الإسلامي و الأمة الإسلامية ، و ما لاقوه من الأذى و الاضطهاد من أجل ذلك ، و هي منشورة ضمن مجموعة من مقالات سماحته في كتابه " الشيعة في الميزان " .محن آل البيت : تحدّث أصحاب التاريخ و السير عن محن آل البيت و أطالوا الحديث ، و وضع الشيعة فيها كتباً مستقلّة سموا الكثير منها بأسماء تدل عليها ، كاسم مثير الأحزان ، و نفس المهموم ، و الدمعة الساكبة ، و لواعج الأشجان ، و رياض المصائب ، و اللهوف ، و مقاتل الطالبيين ، و ما إلى ذلك . و تكاد تتفق كلمة الباحثين القدامى و المتأخرين على أن الأمويين إنما نكلوا بآل البيت أخذاً بثارات بدر و اُحد ، لأن محمداً و علياً قتلا في هاتين الحربين شيوخ الأمويين و ساداتهم . و يستشهدون على ذلك بما تمثل به يزيد بن معاوية ، عندما قتل الحسين ، و وضع رأسه بين يديه : ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسلْ
لأهلّوا و استهلّوا فرحاً *** ثم قالوا : يا يزيد ، لا تشلْ
و ليس ببعيد أن يتذكر يزيد الحفائظ و الحروب القديمة بين محمد ، جدّ الحسين ، و جدّه أبي سفيان ، و بين علي أبي الحسين و أبيه معاوية ، و أن ينطق بكلمة التشفّي و الحقد . و لكن الباعث الأول على الفجيعة هو نظام الجور ، و عهد الأب للابن بالخلافة ، و جعلها حقاً موروثاً . و البحث في محن آل البيت واسع المجال متشعّب الأطراف . فقد ظهرت آثار هذه المحن في العقيدة ، و السياسة ، و الأدب ، و التقاليد ، و ما زالت تفعل فعلها إلى اليوم . و لم يتح لمحن آل البيت ، فيما أعلم ، من درسها درساً موضوعيّاً ، و لا يمكن شرحها و بيان أسبابها و نتائجها في مقامنا هذا . و على أي الأحوال ، فإن محن آل البيت و محن الناس جميعاً ابتدأت منذ تغيّر نظام الحكم عند المسلمين .
كان الحكم في عهد الرسول الأعظم يقوم على مبدأ أن كل شيء للّه ، فالمال مال اللّه ، و الجند جند اللّه ، و معنى هذا أن الناس جميعاً
متساوون في الحقوق ، لأن اللّه للجميع و بعده بأمد قصير تغير هذا النظام ، و أصبح كل شيء للحاكم . فالمال مال الحاكم ، و الجند جند الحاكم ، و الناس كلهم عبيد الحاكم . قال معاوية بن أبي سفيان : " الأرض للّه ، و أنا خليفة اللّه . فما أخذت فلي ، و ما تركته للناس فبالفضل مني " . و على هذا المبدأ ، وهب مصر لعمرو بن العاص مكافأةً له على جهاده و بلائه ضد الإمام علي . و كان جند يزيد في وقعة الحرة يجبرون الناس على أن يبايعوا يزيداً ، على أنهم عبيد قنّ له ، و ينقشون أكف المبايعين علامة الاسترقاق ، و من أبى عن هذه البيعة ضربت عنقه . من هذا النظام وحده تولدت محن آل البيت و غير آل البيت ، و إن كان نصيبهم منها أكبر و أفظع .
و لا بُدَّ من التساؤل : لماذا ذعر الناس لمحن آل البيت و تحدّثوا فيها و أطالوا الحديث أكثر من غيرها ؟
و يمكننا الجواب بأن محنهم كانت أقسى المحن جميعاً ، و بأنها في نظر المسلمين هي محن الإسلام نفسه . فقد أوصى الرسول و بالغ في الوصاية بأهل بيته ، و واساهم بكتاب اللّه ، و شّبههم بسفينة نوح ، و اعتبر التعدي عليهم تعدياً عليه بالذات ، و هذا السبب يرجع إلى الدين ، و لا شيء يوازي احترام العقيدة الدينية و تقديسها عند المسلمين و بخاصة في ذاك العهد . و هناك أسباب سياسية لتوالي المحن على آل البيت من الحكام ، و إذاعتها بين الجماهير أكثر من غيرها . لما يئس المسلمون من إصلاح الحاكم تمنوا أن يدبر شؤونهم إمام عادل ناصح للّه و رسوله ، و في آل البيت خير من توافرت فيه هذه الصفات ، بل كان في المسلمين حزب قوي منتشر في أقطار الأرض
يدين بالتشيع لهم ، و يرى أن الخلافة حق خصه اللّه بعلي و بنيه . و قد أعلن الشيعة هذا المبدأ في أشعارهم ، و اتخذوه أساساً لتعاليمهم ، و عملوا على بثه في الجهر و الخفاء ، و لم يتركوا فرصة تمرّ إلا عدّدوا مناقب آل البيت و مثالب من غصبهم هذا الحق . فرأى الحكام في آل البيت و شيعتّهم خطراً كبيراً على سلامة الدولة و أمنها أكثر من غيرهم فخصّوهم بالقسط الأوفر من المحن ، و نكّلوا بهم بقسوة تفوق كل قسوة . و قد رأى الناس في هذه المحن مورداً خصباً للتشهير بالحاكم و إثارة الجماهير ، و لا شيء كالخطوب و المآسي تستدعي عطف الناس ، و تثير إشفاقهم و رحمتهم ، و كلنا يعرف كيف استغلّ معاوية قميص عثمان لتأليب أهل الشام على عليّ . فالشيعة أذاعوا تلك المحن و بكوا و استبكوا الناس وفاء لأئمتّهم ، و لبثّ الدعوة لهم و نشر مبادئهم . و أذاعها كل ناقم و معارض للأنظمة السياسية تبريراً لنقمته و معارضته ، و دعماً لأقواله و حجته تظلّم الشعب لآل البيت ، و في الوقت نفسه عّبر بمحنهم عن ثورته على
الفساد . إن محن آل البيت هي محن الشعب ، و محنه محنهم ، و قد أعرب عن آلامه بما ألمّ بهم ، لإثارة العواطف ، لأنّ من أساء إليهم فبالأحرى أن يسيء إلى غيرهم ، و لأنهم المجموعة الكريمة الطيبة التي يرى فيها الشعب مثاله الأعلى و يتمنى أن تقوده هي ، أو من يماثلها في الصفات و المؤهلات و إلا فإن الثورة على النظام الجائر محتمة لا محالة . كارثة كربلاء و أثرها في حياة الشيعة : كانت الأسباب الأولى لمحن آل البيت سياسية ، و بعد حدوثها تركت أثراً بارزاً في حياة طائفة كبيرة من المسلمين كانت و لا تزال تدين بالولاء لآل البيت . فكارثة كربلاء ، و هي أفظع ما حلّ بآل البيت من كوارث ، قُتل فيها الحسين بن علي ، و سبعة عشر شاباً و طفلاً من أهله ، و أكثر من سبعين رجلاً من أصحابه ، فيهم الصحابي و التابعي ، هذه الحادثة جعلت كربلاء مزاراً مقدساً عند الشيعة يفد إليها في كل سنة مئات الألوف للزيارة من أنحاء البلاد ، و في كثير من الأحيان يوصي الشيعة في الهند ، و إيران و أطراف العراق أن ينقل رفاته من بلده
ليدفن في كربلاء ، رغبةً في ثواب اللّه و جزائه . و تحيي الشيعة ، في كل سنة ، و في كل مدينة و قرية من بلادهم ، ذكرى مقتل الحسين في الثلث الأول من شهر محرّم . و في بعض أيام السنة ، يجتمعون للاحتفال بهذه الذكرى فيروي الخطيب بعض أخبار كربلاء و
مأساتها ، و يعدّد المناقب و السوابق لشهدائها ، و ينوح عليهم شعراً و نثراً ، و يسمّون هذه المحافل بمجالس التعزية ، و قد وضعوا لها كتباً خاصة . و ما زال شعراء الشيعة ، منذ قتل الحسين إلى اليوم ، ينظمون القصائد الطوال يصوّرون فيها الحوادث الدامية التي جرت في كربلاء ، و هي من عيون الشعر العربي في الرثاء . و قد طبع السيد محسن الأمين قسماً كبيراً من هذه المراثي أسماه " الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد " . و نذكر أبياتاً من قصيدة لشاعر شيعي تصوّر لنا الغاية التي يهدف إليها الشيعة من زيارة كربلاء ، و يوم عاشوراء :
شممتُ ثراك ، فهبّ النسيم *** نسيم الكرامة من بلقع و عفرتُ خدي بحيث استرا *** خ خدّ تفرّى و لم يخضع و ماذا ؟ أ أروع من أن يكون *** لحمك وقفاً على المبضع و أن تتقي ، دون ما ترتأي *** ضميرك بالأسل الشرَّع و أن تطعم الموت خير البنين *** من الأهلين
إلى الرُّضَّع !
و من هنا نعرف أن الشيعة إنما يقدسون أرض كربلاء ، و يحيون يوم عاشوراء ، لأنها في نظرهم ، رمز الجهاد المقدس في سبيل الحرية و الكرامة ، و عنوان التضحية ضد الظلم و الطغيان . فإحياؤها كذلك ثورة على الظلم و الطغيان . ماذا تعني كلمة الحسين عند الشيعة ؟
كتبت ما تقدم عن كارثة كربلاء و أثرها في حياة الشيعة سنة 1375 هجرية . و في شهر رمضان المبارك سنة 1387 كنت في البحرين ، كان عليّ أن أصعد المنبر في كل ليلة بمأتم آل العريض الكرام بعد أن أزمع على موضوع يتقبله المثقف العصري و غيره
على السواء ، و كنت أحرص على بلوغ هذا الهدف كل الحرص . . أما الحكم بأني أدركت ما أردت و أملت فأدعه إلى أهل البحرين . و في إحدى الليالي صعدت المنبر ، و قبل أن ابتدئ بالكلام سمعت صوتاً يقول : سلام اللّه عليك يا حسين ، و لعن اللّه من قتلك ، و كان الموضوع الذي أزمعت الحديث عنه لا يتصل بالحسين و لا بيزيد من قريب أو بعيد ، و إذا بي أنسى موضوع المحاضرة ، و أشرع بتفسير كلمة الحسين عند إطلاقها دون قيد ، و كلمة يزيد و ماذا تعنيان عند الشيعة ، و قلت فيما قلت : إن التطور لم يقف عند حدود المادة ، بل تعداها إلى الأفكار و اللغة ، لأنها جميعاً متلازمة متشابكة ، لا ينفك بعضها عن بعض . . و كلمة الحسين كانت في البداية اسماً لذات الحسين بن علي ( عليه السَّلام ) ثم تطورت مع الزمن ، و أصبحت عند شيعته و شيعة أبيه رمزاً للبطولة و الجهاد من أجل تحرر الإنسانية من الظلم و الاضطهاد ، و عنواناً للفداء و التضحية بالرجال و النساء و الأطفال لإحياء دين محمد بن عبد اللّه ( صلى الله عليه و آله )
، و لا شيء أصدق في الدلالة على هذه الحقيقة من قول الحسين ( عليه السَّلام ) ، و هو في طريقه إلى الاستشهاد : " أمضي على دين النبي " . أما كلمة يزيد فقد كانت من قبل اسماً لابن معاوية ، أما هي الآن عند الشيعة فإنها رمز للفساد و الاستبداد ، و التهتك و الخلاعة ، و عنوان للزندقة و الإلحاد ، فحيث يكون الشر و الفساد فثم اسم يزيد ، و حيثما يكون الخير و الحق و العدل فثم اسم الحسين .
فكربلاء اليوم عند الشيعة هي فلسطين المحتلة ، و سيناء ، و الضفة الغربية من الأردن ، و المرتفعات السورية ، أما أطفال الحسين و سبايا الحسين فهم النساء و الأطفال المشردون المطرودون من ديارهم ، . . و شهداء كربلاء هم الذين قتلوا دفاعاً عن الحق و الوطن
في 5 حزيران . . و هذا ما عناه الشاعر الشيعي بقوله : كأن كل مكان كربلاء لدى *** عيني و كل زمان يوم عاشورا و ما أن نزلت عن المنبر ، حتى استقبلني شاب مرحباً و قال : هذي هي الحقيقة و هكذا يجب أن يفهم الإسلام و تاريخ الإسلام ، بخاصة كارثة كربلاء . . ثم وجه إليّ سؤالاً وافقني على جوابه ، و لم أكن أعرفه من قبل ، و لما عرفوني به علمت أنه من سنة البحرين ، و أنه يشغل منصباً كبيراً في الحكومة