هو رابع أئمة أهل البيت الطاهر ، المشهور بزين العابدين أو سيدهم ، والسجاد ، وذي الثفنات . ولادته وجوانب من سيرته ( عليه السلام ) ولد في المدينة سنة 38 أو 37 ه . قال ابن خلكان : هو أحد الأئمة الاثني عشر ومن سادات التابعين . قال الزهري : ما رأيت قرشيا أفضل منه . وفضائله ومناقبه أكثر من أن تحصى وتذكر ، ولما توفي دفن في البقيع في جنب عمه الحسن في القبة التي فيها قبر العباس - رضي الله عنه - ( 1 ) .
ولقد تولى الإمامة بعد استشهاد أبيه الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء ، وللاطلاع على النصوص الواردة في إمامته ينبغي الرجوع إلى كتب الحديث والعقائد المتكفلة بهذا
( 1 ) وفيات الأعيان 3 : 267 - 269 . ( * )
الجانب المهم ، وأخص منها بالذكر كتاب " الكافي " للكليني ، و " الإرشاد " للشيخ المفيد ، و " كفاية الأثر " للخزاز ، و " إثبات الهداة " للحر العاملي .
ومن أراد الاطلاع على مناقبه وكراماته وفضائله في مجالات شتى كالعلم ، والحلم ، والجرأة والإقدام ، وثبات الجنان ، وشدة الكرم والسخاء ، والورع ، والزهد ، والتقوى ، وكثرة التهجد والتنفل ، والفصاحة والبلاغة ، وشدة هيبته بين الناس ومحبتهم له ، وتربيته لجيل عظيم من الصحابة والعلماء وقفوا حياتهم في خدمة الإسلام ، وغير ذلك مما لا يسعنا التعرض لها هنا ، فعليه يطلب ذلك في الموسوعات المتعددة التي تعرضت لذلك بالشرح والتفصيل . إلا أنا نكتفي هنا بجانب من سيرته ( عليه السلام ) تتعلق بجملة محددة من الأمور :
1 - هيبته ومنزلته العظيمة : لقد كان ( عليه السلام ) مهابا جليلا بين الناس بشكل كبير ، حتى أن هذه المنزلة العظيمة جعلت الأمراء والحكام يحسدونه عليها ، والتاريخ يذكر لنا على ذلك شواهد كثيرة ومتعددة ، ومن ذلك : لما حج هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة اجتهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يمكنه ذلك ، وجاء علي بن الحسين ( عليهما السلام ) فتوقف له الناس ، وتنحوا حتى استلم ، فقال جماعة لهشام : من هذا ؟ فقال : لا أعرفه ( مع أنه كان يعرفه أنه علي بن الحسين ( عليه السلام ) ) فسمعه الفرزدق ، فقال : لكني أعرفه ، هذا علي بن الحسين زين العابدين ، وأنشد هشاما قصيدته التي منها هذه الأبيات :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم
يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضي حياء ويغضى من مهابته * فما يكلم إلا حين يبتسم
إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله * بجده أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا بضائره * العرب تعرف من أنكرت والعجم
إلى آخر القصيدة التي حفظتها الأمة وشطرها جماعة من الشعراء .
وقد ثقل ذلك على هشام فأمر بحبسه ، فحبسوه بين مكة والمدينة ، فقال معترضا على عمل هشام :
أيحبسني بين المدينة والتي * إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد * وعينا له حولاء باد عيوبها
فأخرجه من الحبس فوجه إليه علي بن الحسين ( عليهما السلام ) عشرة آلاف درهم وقال : " اعذرنا يا أبا فراس ، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به " فردها الفرزدق وقال : ما قلت ما كان إلا لله ، فقال له علي ( عليه السلام ) : " قد رأى الله مكانك فشكرك ، ولكنا أهل بيت إذا أنفذنا شيئا لم نرجع فيه " وأقسم عليه فقبلها .
2 - زهده وعبادته ومواساته للفقراء : أما زهده وعبادته ومواساته للفقراء ، وخوفه من الله فغني عن البيان . فقد روي عنه ( عليه السلام ) أنه إذا توضأ اصفر لونه ، فيقال : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء ؟ قال : " أتدرون بين يدي من أريد أن أقف " .
من كلماته ( عليه السلام ) : " إن قوما عبدوا الله رياضة ، فتلك عبادة العبيد ، وأن قوما عبدوه رغبة ، فتلك عبادة التجار ، وأن قوما عبدوه شكرا ، فتلك عبادة الأحرار " . وكان إذا أتاه سائل يقول له : " مرحبا بمن يحمل زادي إلى الآخرة " .
كان ( عليه السلام ) كثير الصدقات حريصا عليها ، وكان يوصل صدقاته ليلا دون أن يعلم به أحد ، وقد روي أنه ( عليه السلام ) كان يعول مائة عائلة من أهالي المدينة لا يدرون من يأتيهم بالصدقات ، ولما توفي ( عليه السلام ) أدركوا ذلك .
وفي رواية : أنه ( عليه السلام ) كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول : " صدقة السر تطفئ غضب الرب " .
وفي رواية كان أهل المدينة يقولون : ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ( عليه السلام ) ( 1 ) .
وقال رجل لسعيد بن المسيب : ما رأيت رجلا أورع من فلان - وسمى رجلا - فقال له سعيد : أما رأيت علي بن الحسين ؟ فقال : لا ، فقال : ما رأيت أورع منه . قال أبو حازم : ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين . قال طاووس : رأيت علي بن الحسين ( عليهما السلام ) ساجدا في الحجر فقلت : رجل صالح من أهل بيت طيب لأسمعن ما يقول ، فأصغيت إليه فسمعته يقول : " عبيدك بفنائك ، مسكينك بفنائك ، سائلك بفنائك ، فقيرك بفنائك " قال طاووس : فوالله ما دعوت بهن في كرب إلا كشف عني .
وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة ، فإذا أصبح سقط مغشيا عليه ، وكانت الريح تميله كالسنبلة ، وكان يوما خارجا فلقيه رجل فسبه ، فثارت إليه العبيد والموالي ، فقال لهم علي ( عليه السلام ) : " مهلا كفوا " ثم أقبل على ذلك الرجل فقال له : " ما ستر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها ؟ " فاستحيى الرجل فألقى إليه ( عليه السلام ) خميصة كانت عليه ، وأمر له بألف درهم ، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسل ( 2 ) .
( 1 ) تذكرة الخواص : 294 .
( 2 ) كشف الغمة 2 : 292 - 293 . ( * )
ثروته ( عليه السلام ) العلمية : أما الثروة العلمية والعرفانية ، فهي أدعيته التي رواها المحدثون بأسانيدهم المتضافرة ، والتي جمعت بما سمي بالصحيفة السجادية المنتشرة في العالم ، فهي زبور آل محمد ، ومن الخسارة الفادحة أن إخواننا أهل السنة - إلا النادر القليل منهم - غير واقفين على هذا الأثر القيم الخالد .
نعم ، إن فصاحة ألفاظها ، وبلاغة معانيها ، وعلو مضامينها ، وما فيها من أنواع التذلل لله تعالى والثناء عليه ، والأساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسل إليه ، أقوى شاهد على صحة نسبتها إليه ، وإن هذا الدر من ذلك البحر ، وهذا الجوهر من ذلك المعدن ، وهذا الثمر من ذلك الشجر ، مضافا إلى اشتهارها شهرة لا تقبل الريب ، وتعدد أسانيدها المتصلة إلى منشئها ، فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعددة المتصلة ، إلى زين العابدين ( 1 ) .
وقد أرسل أحد الأعلام نسخة من الصحيفة مع رسالة إلى العلامة الشيخ الجوهري الطنطاوي ( المتوفى عام 1358 ه ) صاحب التفسير المعروف ، فكتب في جواب رسالته : " ومن الشقاء أنا إلى الآن لم نقف على هذا الأثر القيم الخالد في مواريث النبوة وأهل البيت ، وإني كلما تأملتها رأيتها فوق كلام المخلوق ، ودون كلام الخالق " ( 2 ) .
وكان المعروف بين الشيعة هو الصحيفة الأولى التي تتضمن واحدا وستين دعاء في فنون الخير وأنواع السؤال من الله سبحانه ، والتي تعلم الإنسان كيف يلجأ إلى
( 1 ) في رحاب أئمة أهل البيت 3 : 414 .
( 2 ) مقدمة الصحيفة بقلم العلامة المرعشي ( قدس سره ) : 28 . ( * )
ربه في الشدائد والمهمات ، وكيف يطلب منه حوائجه ، وكيف يتذلل ويتضرع له ، وكيف يحمده ويشكره . غير أن لفيفا من العلماء استدركوا عليها فجمعوا من شوارد أدعيته صحائف خمسة كان آخرها ما جمعه العلامة السيد محسن الأمين العاملي ( قدس سره ) .
ولقد قام العلامة الحجة السيد محمد باقر الأبطحي - دام ظله - بجمع جميع أدعية الإمام الموجودة في هذه الصحف في جامع واحد ، وقال في مقدمته : وحري بنا القول إن أدعيته ( عليه السلام ) كانت ذات وجهين : وجها عباديا ، وآخر اجتماعيا يتسق مع مسار الحركة الإصلاحية التي قادها الإمام ( عليه السلام ) في ذلك الظرف الصعب .
فاستطاع بقدرته الفائقة المسددة أن يمنح أدعيته - إلى جانب روحها التعبدية - محتوى اجتماعيا متعدد الجوانب ، بما حملته من مفاهيم خصبة ، وأفكار نابضة بالحياة ، فهو ( عليه السلام ) صاحب مدرسة إلهية ، تارة يعلم المؤمن كيف يمجد الله ويقدسه ، وكيف يلج باب التوبة ، وكيف يناجيه وينقطع إليه ، وأخرى يسلك به درب التعامل السليم مع المجتمع فيعلمه أسلوب البر بالوالدين ، ويشرح حقوق الوالد ، والولد ، والأهل ، والأصدقاء ، والجيران ، ثم يبين فاضل الأعمال وما يجب أن يلتزم به المسلم في سلوكه الاجتماعي ، كل ذلك بأسلوب تعليمي رائع وبليغ .
وصفوة القول : إنها كانت أسلوبا مبتكرا في إيصال الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية الأصيلة إلى القلوب الظمأى ، والأفئدة التي تهوى إليها لترتزق من ثمراتها ، وتنهل من معينها ، فكانت بحق عملية تربوية نموذجية من الطراز الأول ، أسس بناءها الإمام السجاد ( عليه السلام ) مستلهما جوانبها من سير الأنبياء وسنن المرسلين ( 1 ) .
ومن أدعيته ( عليه السلام ) في هذه الصحيفة دعاؤه في يوم عرفة ، ومنه : " اللهم هذا يوم عرفة ، يوم شرفته وكرمته وعظمته ، نشرت فيه رحمتك ، ومننت فيه بعفوك ، وأجزلت فيه عطيتك ، وتفضلت به على عبادك .
( 1 ) الصحيفة السجادية الجامعة : 13 . ( * )
اللهم وأنا عبدك الذي أنعمت عليه قبل خلقك له ، وبعد خلقك إياه ، فجعلته ممن هديته لدينك ، ووفقته لحقك ، وعصمته بحبلك ، وأدخلته في حزبك ، وأرشدته لموالاة أوليائك ومعاداة أعدائك " .
رسالة الحقوق : إن للإمام علي بن الحسين رسالة معروفة باسم رسالة الحقوق ، أوردها الصدوق في خصاله ( 1 ) بسند معتبر ، ورواها الحسن بن شعبة في تحف العقول ( 2 ) مرسلة ، وبين النقلين اختلاف يسير .
وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق ، يذكر الإمام فيها حقوق الله سبحانه على الإنسان ، وحقوق نفسه عليه ، وحقوق أعضائه من اللسان والسمع والبصر والرجلين واليدين والبطن والفرج ، ثم يذكر حقوق الأفعال ، من الصلاة والصوم والحج والصدقة والهدي . . . التي تبلغ خمسين حقا ، آخرها حق الذمة .
كما روى الحفاظ وتلاميذ مدرسته أحاديث وحكما مختلفة جليلة حوتها بطون الكتب المختلفة ، جمع الكثير منها العلامة المجلسي في موسوعته الموسومة ببحار الأنوار من مختلف المصادر ، فراجع .
شهادته ( عليه السلام ) : توفي بالمدينة عام 95 أو 94 ه ، يوم السبت الثاني عشر من محرم . وقيل الخامس والعشرين منه .
( 1 ) الخصال : 564 - 570 في أبواب الخمسين .
( 2 ) تحف العقول : ص 183 - 195 . ( * )