هو الإمام السادس من أئمة أهل البيت الطاهر - رضي الله عنهم أجمعين - ولقب بالصادق لصدقه في مقاله ، وفضله أشهر من أن يذكر .
ولادته وخصائصه ( عليه السلام ) : ولد عام 80 ه ، وتوفي عام 148 ه ، ودفن في البقيع جنب قبر أبيه محمد الباقر وجده علي زين العابدين وعم جده الحسن بن علي - رضي الله عنهم أجمعين - فلله دره من قبر ما أكرمه وأشرفه ! ( 1 ) .
قال محمد بن طلحة : هو من عظماء أهل البيت وساداتهم ، ذو علوم جمة ، وعبادة موفورة ، وزهادة بينة ، وتلاوة كثيرة ، يتبع معاني القرآن الكريم ، ويستخرج من بحره جواهره ، ويستنتج عجائبه ، ويقسم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليها نفسه ، رؤيته تذكر الآخرة ، واستماع كلامه يزهد في
( 1 ) وفيات الأعيان 1 : 327 رقم الترجمة 31 . ( * )
الدنيا ، والاقتداء بهداه يورث الجنة ، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوة ، وطهارة أفعاله تصدع أنه من ذرية الرسالة .
نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمة وأعلامهم ، مثل : يحيى بن سعيد الأنصاري ، وابن جريج ، ومالك بن أنس ، والثوري ، وابن عيينة ، وأبو حنيفة ، وشعبة ، وأبو أيوب السجستاني ( 1 ) وغيرهم ، وعدوا أخذهم عنه منقبة شرفوا بها ، وفضيلة اكتسبوها ( 2 ) .
ذكر أبو القاسم البغاء في مسند أبي حنيفة : قال الحسن بن زياد : سمعت أبا حنيفة وقد سئل : من أفقه من رأيت ؟ قال : جعفر بن محمد ، لما أقدمه المنصور بعث إلي فقال : يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد ، فهيئ لي من مسائلك الشداد ، فهيأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إلي أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته ، فدخلت عليه ، وجعفر جالس عن يمينه ، فلما بصرت به ، دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر ، فسلمت عليه ، فأومأ إلي فجلست ، ثم التفت إليه فقال : يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة . قال : نعم أعرفه ، ثم التفت إلي فقال : يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد الله من مسائلك ، فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا ، وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربما تابعنا وربما تابعهم ، وربما خالفنا جميعا حتى أتيت على الأربعين مسألة ، فما أخل منها بشئ . ثم قال أبو حنيفة : أليس أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس ( 3 ) .
عن مالك بن أنس : جعفر بن محمد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على
( 1 ) في الأصل أيوب السختياني والصحيح ما ذكرناه ( منه ) .
( 2 ) كشف الغمة 2 : 368 .
( 3 ) بحار الأنوار 47 : 217 - 218 ، أسد حيدر ، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 4 : 335 نقلا عن مناقب أبي حنيفة للمكي 1 : 173 ، جامع مسانيد أبي حنيفة 1 : 252 ، تذكرة الحفاظ للذهبي 1 : 157 . ( * )
إحدى ثلاث خصال : إما مصل ، وإما صائم ، وإما يقرأ القرآن ، وما رأت عين ، ولا سمعت أذن ، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علما وعبادة وورعا ( 1 ) .
وعن عمرو بن بحر الجاحظ ( مع عدائه لأهل البيت ) : جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه ، ويقال : إن أبا حنيفة من تلامذته ، وكذلك سفيان الثوري ، وحسبك بهما في هذا الباب ( 2 ) .
مناقبه ( عليه السلام ) : وأما مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عد الحاصر ، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر ، حتى أن من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى ، صارت الأحكام التي لا تدرك عللها ، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بحكمها ، تضاف إليه وتروى عنه ( 3 ) .
وقال ابن الصباغ المالكي : كان جعفر الصادق ( عليه السلام ) من بين إخوته خليفة أبيه ، ووصيه ، والقائم بالإمامة من بعده ، برز على جماعة بالفضل ، وكان أنبههم ذكرا وأجلهم قدرا ، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته وذكره في البلدان ، ولم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقلوا عنه من الحديث .
إنك إذا تتبعت كتب التاريخ والتراجم والسير تقف على نظير هذه الكلمات وأشباهها ، كلها تعرب عن اتفاق الأمة على إمامته في العلم والقيادة الروحية ، وإن
( 1 ) أسد حيدر ، الإمام الصادق 1 : 53 نقلا عن التهذيب 2 : 104 والمجالس السنية ج 5 .
( 2 ) أسد حيدر ، الإمام الصادق 1 : 55 نقلا عن رسائل الجاحظ : 106 .
( 3 ) كشف الغمة 2 : 368 . ( * )
اختلفوا في كونه إماما منصوصا من قبل الله عز وجل ، فذهبت الشيعة إلى الثاني نظرا إلى النصوص المتواترة المذكورة في مظانها ( 1 ) .
حياته العلمية ( عليه السلام ) : ولقد امتد عصر الإمام الصادق ( عليه السلام ) من آخر خلافة عبد الملك بن مروان إلى وسط خلافة المنصور الدوانيقي ، أي من سنة 83 ه إلى سنة 148 ه .
فقد أدرك طرفا كبيرا من العصر الأموي ، وعاصر كثيرا من ملوكهم ، وشاهد من حكمهم أعنف أشكاله ، وقضى سنوات عمره الأولى حتى الحادية عشرة من عمره مع جده زين العابدين ، وحتى الثانية والثلاثين مع أبيه الباقر ونشأ في ظلهما يتغذى من تعاليمهما وتنمو مواهبه وتربى تربيته الدينية ، وتخرج من تلك المدرسة الجامعة فاختص بعد وفاة أبيه بالزعامة سنة 114 ه ، واتسعت مدرسته بنشاط الحركة العلمية في المدينة ومكة والكوفة وغيرها من الأقطار الإسلامية .
وقد اتسم العصر المذكور الذي عاشه الإمام بظهور الحركات الفكرية ، ووفود الآراء الاعتقادية الغريبة إلى المجتمع الإسلامي ، وأهمها عنده هي حركة الغلاة الهدامة ، الذين تطلعت رؤوسهم في تلك العاصفة الهوجاء إلى بث روح التفرقة بين المسلمين ، وترعرت بنات أفكارهم في ذلك العصر ليقوموا بمهمة الانتصار لمبادئهم التي قضى عليها الإسلام ، فقد اغتنموا الفرصة في بث تلك الآراء الفاسدة في المجتمع الإسلامي ، فكانوا يبثون الأحاديث الكاذبة ويسندونها إلى حملة العلم من آل محمد ، ليغروا بها العامة ، فكان المغيرة بن سعيد يدعي الاتصال بأبي جعفر الباقر ويروي عنه الأحاديث المكذوبة ، فأعلن الإمام الصادق ( عليه السلام ) كذبه
( 1 ) لاحظ الكافي 1 : 306 - 307 . ( * )
والبراءة منه ، وأعطي لأصحابه قاعدة في الأحاديث التي تروي عنه ، فقال : " لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة ، أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة " .
ثم إن الإمام قام بهداية الأمة إلى النهج الصواب في عصر تضاربت فيه الآراء والأفكار ، واشتعلت فيه نار الحرب بين الأمويين ومعارضيهم من العباسيين ، ففي تلك الظروف الصعبة والقاسية استغل الإمام الفرصة فنشر من أحاديث جده ، وعلوم آبائه ما سارت به الركبان ، وتربى على يديه آلاف من المحدثين والفقهاء . ولقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات - على اختلاف آرائهم ومقالاتهم - فكانوا أربعة آلاف رجل ( 1 ) .
وهذه سمة امتاز بها الإمام الصادق عن غيره من الأئمة - عليه وعليهم السلام - .