م لصاحب اليقين علامات :
(منها) ألا يلتفت في أموره إلى غير الله سبحانه ، ولا يكون اتكاله في مقاصده إلا عليه ، ولا ثقته في مطالبه إلا به ، فيتبرى عن كل حول وقوة سوى حول الله وقوته ، ولا يرى لنفسه ولا لأبناء جنسه قدرة على شيء ولا منشأية لأثر . ويعلم أن ما يرد عليه منه تعالى وما قدر له وعليه من الخير والشر سيساق إليه ، فتستوي عنده حالة الوجود والعدم ، والزيادة والنقصان ، والمدح والذم ، والفقر والغنى ، والصحة والمرض ، والعز والذل ، ولم يكن له خوف ورجاء إلا منه تعالى . والسر فيه : أنه يرى الأشياء كلها من عين واحدة هو مسبب الأسباب ، ولا يلتفت إلى الوسائط ، بل يراها مسخرة تحت حكمه . قال الإمام أبو عبد الله (ع) : من ضعف يقينه تعلق بالأسباب ، ورخص لنفسه بذلك ، واتبع العادات وأقاويل الناس بغير حقيقة والسعي في أمور الدنيا وجمعها وإمساكها ، مقرا باللسان أنه لا مانع ولا معطي إلا الله ، وإن العبد لا يصيب إلا ما رزق وقسم له ، والجهد لا يزيد في الرزق ، وينكر ذلك بفعله وقلبه ، قال الله سبحانه : يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (23) . وقال - عليه السلام - : ليس شيء إلا وله حد قيل : فما حد التوكل ؟ قال : اليقين ، قيل : فما حد اليقين ؟ قال : ألا تخاف مع الله شيئا . وعنه - عليه السلام - : من صحة يقين المرء المسلم ألا يرضي
(هامش)
(23) الآية من سورة آل عمران : 161 . وهذا الحديث منقول عن (مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة) المنسوب إلى الصادق - عليه السلام - . وهذا الكتاب قال فيه المجلسي - قدس سره - في مقدمة البحار : فيه ما يريب اللبيب الماهر ، وأسلوبه لا يشبه سائر كلمات الأئمة وآثارهم ، ثم قال : وإن سنده ينتهي إلى الصوفية ، ولذا اشتمل على كثير من اصطلاحاتهم وعلى الرواية عن مشايخهم . (*)
ص 126
الناس بسخط الله ولا يلومهم على ما لم يؤته الله ، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا ترده كراهية كاره ، ولو أن أحدكم فر من رزقه كما يفر من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت . (ومنها) أن يكون في جميع الأحوال خاضعا لله سبحانه ، خاشعا منه ، قائما بوظائف خدمته في السر والعلن ، مواظبا على امتثال ما أعطته الشريعة من الفرائض والسنن ، متوجها بشراشره إليه ، متخضعا متذللا بين يديه ، معرضا عن جميع ما عداه ، مفرغا قلبه عما سواه ، منصرفا بفكره إلى جناب قدسه ، مستغرقا في لجة حبه وأنسه . والسر أن صاحب اليقين عارف بالله وعظمته وقدرته ، وبأن الله تعالى مشاهد لأعماله وأفعاله ، مطلع على خفايا ضميره وهواجس خاطره ، وأن : من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (24) . فيكون دائما في مقام الشهود لديه والحضور بين يديه ، فلا ينفك لحظة عن الحياء والخجل والاشتغال بوظائف الأدب والخدمة ، ويكون سعيه في تخلية باطنه عن الرذائل وتحليته بالفضائل لعين الله الكالئة أشد من تزيين ظاهره لأبناء نوعه . وبالجملة : من يقينه بمشاهدته تعالى لأعماله الباطنة والظاهرة وبالجزاء والحساب ، يكون أبدا في مقام امتثال أوامره واجتناب نواهيه . ومن يقينه بما فعل الله في حقه من أعطاء ضروب النعم والاحسان ، يكون دائما في مقام الانفعال والخجل والشكر لمنعمه الحقيقي . ومن يقينه بما يعطيه المؤمنين في الدار الآخرة من البهجة والسرور ، وما أعده لخلص عبيده مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد ، يكون دائما في مقام الطمع والرجاء . ومن يقينه باستناد جميع الأمور إليه سبحانه ، وبأن صدور ما يصدر في العالم أنما يكون بالحكمة والمصلحة والعناية الأزلية الراجعة إلى نظام الخير ، يكون أبدا في مقام الصبر والتسليم والرضا بالقضاء من دون عروض تغير وتفاوت في حاله .
(هامش)
(24) الزلزال ، الآية : 8 - 9 . (*)
ص 127
ومن يقينه يكون الموت داهية من الدواهي العظمى وما بعده أشد وأدهى ، يكون أبدا محزونا مهموما . ومن يقينه بخساسة الدنيا وفنائها ، لا يركن إليها . قال الصادق (ع) في الكنز الذي قال الله تعالى : وكان تحته كنز لهما (25) . بسم الله الرحمن الرحيم : عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن أيقن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يركن إليها . ومن يقينه بعظمة الله الباهرة وقوته القاهرة ، يكون دائما في مقام الهيبة والدهشة . وقد ورد أن سيد الرسل - صلى الله عليه وآله وسلم - كان من شدة خضوعه وخشوعه لله تعالى وخشيته منه تعالى بحيث إذا كان يمشي يظن أنه يسقط على الأرض . ومن يقينه بكمالاته الغير المتناهية وكونه فوق التمام ، يكون دائما في مقام الشوق والوله والحب . وحكايات أصحاب اليقين من الأنبياء والمرسلين والأولياء والكاملين في الخوف والشوق وما يعتريهم من الاضطراب والتغير والتلون وأمثال ذلك في الصلاة وغيرها مشهورة ، وفي كتب التواريخ والسير مسطورة ، وكذا ما يأخذهم من الوله والاستغراق والابتهاج والانبساط بالله سبحانه . وحكاية حصول تكرر الغشيات لمولانا أمير المؤمنين - عليه السلام في أوقات الخلوات والمناجاة وغفلته عن نفسه في الصلوات مما تواتر عند الخاصة والعامة ، وكيف يتصور لصاحب اليقين الواقعي بالله وبعظمته وجلاله وباطلاعه تعالى على دقائق أحواله ، أن يعصيه في حضوره ولا يحصل له الانفعال والخشية والدهشة وحضور القلب والتوجه التام إليه عند القيام لديه والمثول بين يديه ، مع أنا نرى أن الحاضر عند من له أدنى شوكة مجازية من الملوك والأمراء مع رذالته وخساسته أولا وآخرا يحصل له من الانفعال والدهشة والتوجه إليه بحيث يغفل عن ذاته .
(هامش)
(25) الكهف الآية : 82 . (*)
ص 128
(ومنها) أن يكون مستجاب الدعوات ، بل له الكرامات وخرق العادات . والسر فيه أن النفس كلما ازدادت يقينا ازدادت تجردا ، فتحصل لها ملكة التصرف في موارد الكائنات . قال الإمام أبو عبد الله الصادق - عليه السلام - : اليقين يوصل العبد إلى كل حال سني ومقام عجيب ، كذلك أخبر رسول الله - صلى الله عليه وآله - من عظم شأن اليقين حين ذكر عنده أن عيسى بن مريم - عليه السلام - كان يمشي على الماء ، فقال : لو زاد يقينه لمشي في الهوى . فهذا الخبر دل على أن الكرامات تزداد بازدياد اليقين ، وأن الأنبياء مع جلالة محلهم من الله متفاوتون في قوة اليقين وضعفه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة :
أنقل لكم هذا الموضوع من :
كتاب جامع السعادات , الجزء الأول
للشيخ : محمد مهدي النراقي
مقدمه إليكم : أبو ريسان