الصراع بين الحرية والاستعباد ظل قائما على مدى التاريخ، وانه كان في كل شعب وفي كل بقعة من الأرض، ولكل شعب من شعوب العالم القديم والحديث ثورات متلاحقة تستهدف التقدم وإعلاء شأن الإنسان. وقد أصابنا نحن العرب ما أصاب سوانا من شئون وجودنا فكانت لنا صفحات ذات شأن في تاريخ هذه الثورات الخيرة، وكان الإسلام أعظم هذه الثورات التي قامت لتختم مرحلة من مراحل التاريخ العربي وتبدأ مرحلة جديدة.
ومن الحتميات التاريخية أن الثورات الإصلاحية على مر التاريخ لها أعداء يتربصون بها ويحاولون الانقضاض عليها والانحراف بمسيرتها، وهؤلاء الأعداء هم تلك الطبقة من البشر التي كانت تغتصب السلطات والمناصب والثروات وتمارس الاضطهاد والسيطرة، والتي أقصتها الثورات عن مناصبها وجردتها من أملاكها.
وإذا نحن طبقنا هذه الحتمية التاريخية على تاريخنا العربي لرأينا أن الثورة التي قام بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسار على هديها خلفاؤه الراشدون ما لبثت أن استغلت لاحقا من قبل حكام بني أمية لمصالحهم الفردية ومصالح عشائرهم وقبائلهم والزمر المنافقة المحيطة بهم. ولكن من الحتميات التاريخية أيضا أن للثورات الإصلاحية قادة متجددون يتصدون للانحرافات ويعملون على تصحيح المسار. لهذا قامت الثورة الحسينية بهدف التصدي للانحراف والظلم والاستئثار، فكانت ثورة الحق ضد الباطل، حيث جسد الإمام الحسين (عليه السلام) أسمى معاني التضحية والإيثار والشهادة، فكانت ثورته من أجل نصرة المظلومين وإرساء مبادئ العدالة في المجتمع وترسيخ معاني المواطنة الصحيحة والصالحة.
ثورة الإمام الحسين نبهت المشاعر الإنسانية إلى ضرورة تغيير الواقع المدمر لتراثها وحضارتها وحريتها، ودفعت بجمهور العاملين من أجل التحرر الإنساني شوطا بعيدا في مسار الوعي الذاتي لإنقاذ البشرية من متاهات الانحطاط الجماعي. هذا العنصر الفاعل في الثورة الحسينية يدعونا إلى الاعتقاد الجازم أن الثورة قد حققت نصرا عاما للإنسانية جمعاء وليس للمسلمين وحدهم. لقد مارس الحسين قدره في الشهادة توكيدا للكرامة الإنسانية حيث حمل قدره بيده ومضى حتى الشهادة. وبهذا يكون الحسين قد مد الأفكار والضمائر بما لا ينضب له معين وبما لا يؤثر فيه زمان ولا مكان، وأصبح ملاذا يلجأ إليه طلاب الحق والعدل بمختلف أطيافهم في كل زمان ومكان.
ومن هنا كان الخطاب الحسيني لا يختص بفئة من المسلمين دون سواها من البشر، وإنما هو خطاب الحق والعدالة الإنسانية جمعاء. التقاه الثوار والمفكرون من مختلف القوميات والجنسيات والأديان على مر العصور، فهذا الزعيم الوطني "غاندي" محرر الهند يقول: "لا تربطني بالحسين قومية ولا عقيدة دينية إنما عقيدة الثورة الرافضة للظلم". ويضيف: "تعلمت من الحسين أن أكون مظلوما حتى انتصر".
ويقول الفيلسوف الألماني "ماربين" في كتابه السياسة الإسلامية: "لم يذكر لنا التاريخ رجلا ألقى بنفسه وأهله وأبنائه وأحب الناس إليه في مهاوي الهلاك، إحياء لدولة سلبت منه، إلا الحسين، ذلك الرجل الكبير الذي عرف كيف يزلزل ملك الأمويين الواسع ويقلقل أركان سلطتهم".
أما العلامة السيد محمد حسين فضل الله - رحمه الله - فيقول: "لننطلق مع الإمام الحسين في شخصية الإمامة، فثورته حركة في خط إمامته ودعوته وأخلاقه ووسائله وغاياته وشجاعته وصبره، كل ذلك كان في خط إمامته. لذلك لا تغرقوا الحسين في بحار الدموع التي تبكي المأساة، ابكوا من خلال عمق معنى الإنسانية في المأساة، احتجوا على الذين صنعوا المأساة في كربلاء ليتحول احتجاجكم إلى احتجاج ضد الذين يصنعون مأساة المستضعفين في العالم، لا أن نبكي ونلطم على الحسين في كربلاء ونلعن الذين صنعوا المأساة ثم نخضع لألف يزيد ويزيد ولكل الذين يسرقون الأمة ويصادرونها".
لقد استقطبت ثورة الإمام الحسين خبر التاريخ فأشعلت بذلك وجدا مستمرا من النضال والتضحية في سبيل الحق وكونت حزنا ثوريا لا ينضب ولا يخفت أواره. ولولا مصداقيتها وشرعيتها لما دخلت قلوب المسلمين والأحرار من غير المسلمين وتجذرت في عقولهم ومخيلاتهم عواطف جياشة وحزنا ملتهبا. في الحقيقة لم تكن عاشوراء مجرد حادثة تاريخية عابرة، وإنما كانت ثورة سياسية - اجتماعية لها أبعادها الفلسفية والفكرية التي تضمنت مفاهيم وقيما إنسانية عالية هي أساس تخليدها عبر العصور.
ومن المؤسف حقا أننا نحيي هذه الأيام ذكرى هذه الثورة المباركة التي ضحى فيها سبط الرسول وريحانته بنفسه وأهله وأتباعه من أجل توحيد الأمة الإسلامية والتصدي للانحراف والظلم والاستئثار بالسلطة، والمسلمون اليوم في كل بقاع الأرض في أسوأ أحوالهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، يقاتل بعضهم بعضا، ويكفر بعضهم بعضا، متحزبين ومتحاربين ومتنابذين، يتفرج عليهم أعداؤهم شامتين. والأحرى بنا في هذه الذكرى المباركة أن نتذكر قيمها الإنسانية التي أصبحت ملكا لكل من يبحث عن الخلاص في العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وينبذ التفرقة والتمييز بكل أنواعه وأشكاله.