السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد وآله الأطهار
المؤتمنين الصادقين
من الواضح إن الأقوال و المزاعم التي كانت بجملتها تتصاعد في كل مكان، و كلها تحمل الشك بانتساب أسرة عبيد الله المهدي، للأمام علي بن أبي طالب(ع) و زوجته السيدة فاطمة الزهراء بنت النبي الكريم محمد(ص)، و التي تسمى قادة هذه الدولة باسمها، و لعل فترة التستر في مدينة (السلمية) في سوريا هي التي أسدلت هذا الستار من الشك على الحقيقة، و أوجدت ذلك الواقع الرهيب من المزاعم و من المعلوم إن الشيعة انقسمت بعد الأمام المعصوم السادس جعفر بن محمد الصادق(ع)، إلى إسماعيليين (نسبة إلى ولده الأكبر إسماعيل)، و موسويين (نسبة إلى ولده الأصغر موسى الكاظم)، و قد اتخذ الاسماعيليون الذين ينتسب إليهم الفاطميون زمام المبادرة، و وقفوا بصمود و عناد بوجه الخلفاء العباسيين و اتباعهم، يقارعونهم بأساليب عديدة.
و حين نجح عبيد الله المهدي في الهجرة و الوصول بسلام إلى بلاد المغرب، و وجد أمنه فيها، اقتنع بأنه آن الأوان لدحض تلك المزاعم و الأقوال المغرضه التي تشكك بنسبه، فأعلن بوضوح عن أصله من كونه ينحدر من سلالة أمير المؤمنين الأمام علي بن أبي طالب، و من فاطمة بنت الرسول الكريم محمد(ص) مباشرة، و في هذا ما يميزه عن الفروع العلوية الأخرى المنحدرة من علي(ع) و زوجاته ـ غير فاطمة.
و الجدير ذكره هنا إن عبيد الله كان قد ولد في (السلمية) في سوريا سنة 259 هـ، و مات و دفن في (المهدية) عاصمة دولته سنة 322 هـ عن عمر بلغ 63 عاما، أما مدة خلافته فهي 25 عاما (297 ـ 322هـ).
الفاطميون و مبدأ الإمامة (الخلافة)
يعتبر الأسماعيليون المستعلييون (البهرة) بفرعيهم السليماني و الداؤدي و هكذا الدروز ـ عبيد الله المهدي إماما ـ مستودعا ـ أي بمعنى إماما وكيلا أو وصيا أو نائبا للأمام الأصيل لفترة زمنية محدودة، و ليس له صلاحيته توريث الأمامه لأحد من أولاده، فمثله كمثل (الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب) عليهما السلام.
بينما يعتبره الأسماعيليون النزاريون إماما مستقرا ـ و صاحب نص ثابت، فهو كالأمام ( الحسين بن علي بن أبي طالب) عليهما السلام، له صلاحية توريث الأمامة لمن يقع إختياره عليه من أولاده.
بدايات نشر الدعوة الفاطمية:
من المعلوم أن الأئمة (العلويين ـ الاسماعيليين) الذين اتخذوا من (السلمية) في سوريا قاعدة لهم، و منطلقا لنشاطاتهم الفكرية و السياسية، بعد فرارهم من العراق و بلاد فارس (إيران) الذي تم تحت تأثير ضغط العباسيين. و من الواضح أن نزول هؤلاء الأئمة في هذه البقعة العزلاء البعيدة عن انظار خلفاء بغداد، سهل لهم الأسباب، و مهد أمامهم الطرق، لأطلاق دعاتهم و عمالهم بحرية و أمان إلى الأقطار العربية و الإسلامية البعيدة و القريبة على السواء للتبشير بأفكارهم و نشر مبادئ دعوتهم (الدينية) التي من أولى مبادئها الوصول إلى (الخلافة الإسلامية).
و ثمة عوامل عديدة ساعدت على إنجاح الفكرة و الدعوة الفاطمية على يد رائدها عبيد الله المهدي و بعون و دعم من جانب نصيره أبو عبد الله الشيعي، فالناس في هذه الأرجاء كانوا قد وصلوا إلى مرحلة قصوى من القلق و التبرم من حياة الظلم و التعسف و الفساد و الأستئثار و اهمال مطاليب الأمة، و هضمها من جانب حكومة الخلافة العباسية المتمركزه في بغداد، و من يحيط بها من الأعوان و الحلفاء.
و هكذا إنضوى تحت لواء الدعاة الفاطميين آلاف من الناس و الجماعات و القبائل و فئات اخرى من أجزاء عديدة من العالم العربي الإسلامي.
برع الأئمة الاسماعيليون في إختراع أساليب الدعاية و نشر الأفكار و التعاليم، و كانت أولى طلائع تلك الجهود، حملة الدعاة الفاطميين الذين راحوا يجوبون البلدان لتثبيت دعوتهم، و لا سيما في مواسم الحج في مكة و المدينة، و أيضاً اليمن و العراق و بلدان مصر و المغرب، و من هؤلاء الدعاة البارزين (الحلواني و أبو سفيان) و (رستم بن الحسين بن فرج بن حوشب) و الداعي الكبير (الحسين الأهوازي) الذي شاءت الأقدار أن يتعرف إلى (الحسن بن أحمد بن زكريا) الذي عُرف بالتاريخ فيما بعد بـ (أبو عبد الله الشيعي)، و هذا يمني الأصل كان يعيش في بغداد، و أن يقيم الاهوازي علاقة وثيقة معه، و من ثم يرسله إلى اليمن للألتحاق بالداعي ابن حوشب للعمل معه في اليمن و معاونته في نشر الفكر الفاطمي.
المهدي و الهجرة إلى بلاد المغرب
بعد ما شعر عبيد الله المهدي بعدم امكانية بقاءه في السلمية، إثر إنقلاب حلفاءه القرامطة عليه و تحولهم إلى عدو لدود يبيت له العداوة و القتل، و كذا الحال بالنسبة للحكم العباسي، و مطاردته له للقبض عليه قرر الخروج من السلمية يرافقه و لي العهد (القائم بأمر الله) و بعض القريبين له، حيث انتقل إلى مدينة حماه، ثم خرج باتجاه الشام في رحلة شاقة و طويلة، فقصد حوران ثم الأردن، فنابلس، و بينما هو في مدينة الرملة متخفيا عن أعين العباسيين، وصلته أبناء المذبحة الدامية التي حلت بأهله و انصاره ممن تركهم في مدينة السلمية حين اجتياحها من قبل جيش القرامطة بقيادة (يحيى بن زكرويه) إلا أن هذا الموقف العصيب لم يمنع عبيد الله المهدي من مواصلة رحلته من أجل الغاية الكبرى التي خرج لأجلها، فخرج من الرملة تحت جنح الظلام باتجاه الاراضي المصرية، و من مصر واصل سيره إلى ليبيا ثم تونس، بعدها توغل في أراضي المغرب الأقصى حتى وصل (سجلماسة)، و هناك قبض عليه أميرها (أليسع بن مدرار) و اودعه السجن و كان ذلك سنة 296 هـ.
و بينما كان أبو عبد الله الشيعي يتابع فتوحاته في المغرب الاوسط، جاءه خبر ما وقع للمهدي في سجلماسه، و لذا تظاهر بعدم المبالاة في بادئ الامر، فيما عزم على وضع خطة بنفسه لانقاذه، و هو ما تم بالفعل بعد أشهر وجيزة، و نجح في ذلك حيث كانت قواته تزحف لاحتلال سجلماسه، إذ سقطت هذه المدينة بيد أبو عبد الله و فر حاكمها (أليسع)، و كان أولى المهام التي وضعها القائد الفاطمي الفاتح على جدول مخططه هو التوجه إلى سجن بني مدرار، و تحرير الأمام الفاطمي المعتقل عبيد الله المهدي.
عبيد الله المهدي أمير المؤمنين و خليفة المسلمين
أخرج أبو عبد الله الشيعي (عبيد الله المهدي) من سجن بني مدرار أصحاب سجلماسة، مجللا بالنصر، و جاء به إلى قصر المدرايين، و أجلسه في مقام الخلافة، و اوعز إلى قواد ألوية الجيش و رؤساء الكتائب بمبايعته و المناداة به خليفة للمسلمين، و اميرا للمؤمنين. و قد تم ذلك في جو زاخر بأفراح النصر، و استغرقت احتفالات المبايعة عدة أيام، و كان ذلك في مطلع شهر رجب 296 هـ، و شملت شيوخ القبائل و العلماء و رجالات الدين و سائر طبقات الناس.
و بعد أن تم ذلك إنتقل إلى مدينة (رقادة) سنة 297، فبايعه فريق آخر من الناس، و كان يقف بين يديه قائده الكبير و مستشاره الأول أبو عبد الله الشيعي و رؤساء كتامة، و هكذا أقام في قصر الأمارة، مبتدأ سلطة حكم دولة الخلافة الإسلامية الفاطمية.
مصر تدخل كنف الدولة الفاطمية
لم تكن دولة الخلافة الفاطمية في المغرب، تظهر على مسرح الدنيا العربية و الإسلامية، أو تعيش طويلا لو لا أن يكون من مبادئها التنظيم و الأدارة، و إقامة العدل، و احلال النظام، و قد وضعوا منذ بادئ الأمر نصب أعينهم مبدأ منافسة العباسيين و إنهاء حالات الظلم و التعسف و الفساد التي تسببوا بها، و هكذا بالنسبة للأمويين، فوضعوا القواعد و أقاموا الأعمدة، و تطلعوا إلى الديار المصرية التي هي مهوى افئدتهم، فأرسلوا إليها الدعاة للقيام بالدعوة و كسب الأنصار و المؤيدين، و كان ذلك في وقت مبكر من ظهور دولتهم. و قد نجحوا على هذا الصعيد، بعد ذلك راحت القيادة الفاطمية تمهد للعمل العسكري بغية فتح مصر على يدها و ضمها إلى دولتها، إذ تم ارسال ثلاث حملات عسكرية إلى الديار المصرية في عهد .
الخليفة المؤسس المهدي
أ ـ الحملة الاولى: كانت في سنة 301هـ، و كان يقود الجيش الفاطمي القائد الكتامي (جناسه ابن يوسف) و قد نجح في احتلال الاسكندرية و الوجه البحري، إلا أن جيش الخليفة العباسي المقتدر بقيادة (مؤنس الخادم) سرعان ما استردهما من الفاطميين و أرغم جناسه على التراجع، و ابدى قطاع واسع من الشعب المصري موقفا ميالا لصالح الفاطميين بغية التخلص من تسلط العباسيين.
ب ـ الحملة الثانية: تحت سنة 307 هـ من قبل الاسطول البحري الفاطمي بقيادة ولي العهد (القائم بأمر الله)، و تمكن الفاطميون من احتلال الاسكندرية و الجيزة و الوجه البحري، إلا أن جيش الخليفة العباسي بقيادة مؤنس الخادم، تمكن ثانية من إلحاق الهزيمة بالجيش الفاطمي و اجباره على التراجع.
ج ـ الحملة الثالثة: تمت ما بين سنة 321 ـ 324، و كان يقود الجيش الفاطمي الكبير هذه المرة القائد الكتامي (حبش بن أحمد) و في هذه المرة نجح الفاطميون في احتلال معظم أرجاء مصر و ضمها لدولتهم، مما دعا زعماء البلاد و الشيوخ إلى المثول للحكم الفاطمي و إعلان الطاعة و الولاء، و قد اتفقوا على توقيع معاهدة صلح اعتبروا فيه أنفسهم من رعايا الدولة الفاطمية.
و مع ضم مصر، أصبحت الدولة الفاطمية تشتمل على ثلاث ولايات: هي مصر وتعتبر مركز الخلافة العامة، و الشام و أفريقية، و نواب الخليفة فيها يعرفون بـ (الولاة)، و للشام واليان هما والي دمشق و والي الرملة و يشمل حكمه سائر فلسطين، و كان القطر المصري ينقسم إلى اربعة اقاليم أو ولايات هي: ولاية قوص و هي أعظمها، و كانت تشمل الوجه القبلي كله، و الشرقية و الغربية و الأسكندرية و هي أقلها. و أما أفريقية فقد لبثت مدى حين تابعة للخلافة، ثم إستقلت بشؤونها فيما بعد. و أستأثر الأمراء البربر بالسلطان فيها، و لبثت صقلية كذلك تابعه من الناحية الدينية للخلافة عصرا حتى انتهت بالسقوط في يد الفرنج النورمان في سنة 462 هـ (1072 م)، و كانت أعمال الحرمين و اليمن أيضا تابعة للخلافة الفاطمية من الوجهة المذهبية، يُدعى فيها الخليفة الفاطمي، و لكنها كانت مستقلة بشؤونها.