من أحسن ما رأيته في إثبات أن البراءة عقيدة وفريضة ، وأنها جزء من الدين ، وأنها الوجه الآخر للولاية ، فلا تتم الولاية لله تعالى ورسوله إلا بها . . ما رواه الأرموي في هامش الإيضاح لابن جبريل ص 507 ، قال :
( قال أبو جعفر & : قد كنت منذ أيام ، علقت بخطي كلاماً وجدته لبعض الزيدية في هذا المعنى ، نقضاً ورداً على أبي المعالي الجويني ، فيما اختاره لنفسه من هذا الرأي . وأنا أخرجه إليكم لأستغني بتأمله عن الحديث على ما قاله هذا الفقيه ، فإني أجد ألماً يمنعني من الإطالة في الحديث لا سيما إذا خرج مخرج الجدل ومقاومة الخصوم . ثم أخرج من بين كتبه كراساً قرأناه في ذلك المجلس واستحسنه الحاضرون، وأنا أذكر هاهنا خلاصته :
قال : لولا أن الله تعالى أوجب معاداة أعدائه كما أوجب موالاة أوليائه وضيق على المسلمين تركها إذا دل العقل عليها ، أو صح الخبر عنها ، بقوله سبحانه : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) .
وبقوله تعالى : ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ) .
وبقوله سبحانه: ( لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم ) .
ولإجماع المسلمين على أن الله تعالى فرض عداوة أعدائه وولاية أوليائه ، وعلى أن البغض في الله واجب ، والحب في الله واجب ..
لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين ، ولا للبراءة منه ، ولكانت عداوتنا للقوم تكلفاً !
ولو ظننا أن الله عز وجل يعذرنا إذا قلنا: يا رب غاب أمرهم عنا فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنا معنى ، لاعتمدنا على هذا القدر وواليناهم . . ولكنا نخاف أن يقول سبحانه لنا: إن كان أمرهم قد غاب عن أبصاركم ، فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم ، قد أتتكم به الأخبار الصحيحة التي بمثلها ألزمتم أنفسكم الإقرار بالنبي وموالاة من صدقه ومعاداة من عصاه وجحده ، وأمرتم بتدبر القرآن وما جاء به الرسول .. فهلاَّ حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الآية غداً : ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا .
فأما لفظة اللعن فقد أمرنا الله تعالى بها وأوجبها، ألا ترى إلى قوله : أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون . فهو إخبار معناه الأمر ، كقوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء . وقد لعن الله تعالى العاصين بقوله : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود . وقوله : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً ) . وقوله : ( ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً ) . وقال الله تعالى لإبليس: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ) . وقال: ( إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً ) .
فأما قول من يقول : أي ثواب في اللعن ؟ وإن الله تعالى لايقول للمكلف : لِمَ لَمْ تلعن ؟ بل قد يقول له : لم لعنت ، وأنه لو جعل مكان : لعن الله فلاناً، اللهم اغفر له لكان خيراً له ، ولو أن إنساناً عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك .. فكلام جاهل لا يدري ما يقول !
اللعن طاعة ويستحق عليه الثواب إذا فعلت على وجهها ، وهو أن يلعن مستحق اللعن لله وفي الله ، لا في العصبية والهوى . ألا ترى أن الشرع قد ورد بها في نفى الولد ، ونطق بها القرآن وهو أن يقول الزوج في الخامسة : أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة ، وأنه قد تعبدهم بها ، لما جعلها من معالم الشرع ، ولما كررها في كثير من كتابه العزيز ، ولما قال في حق القائل : وغضب الله عليه ولعنه . وليس المراد من قوله : ولعنه ، إلا الأمر لنا بأن نلعنه ، ولو لم يكن المراد بها ذلك لكان لنا أن نلعنه ، لأن الله تعالى قد لعنه ، أفيلعن الله تعالى إنساناً ولا يكون لنا أن نلعنه ؟! هذا ما لايسوغ في العقل ! كما لايجوز أن يمدح الله إنساناً إلا ولنا أن نمدحه ، ولا يذمه إلا ولنا أن نذمه . وقال تعالى: ( هل أنبئكم بشرٍَ من ذلك مثوبةً عند الله من لعنه الله) . وقال: (ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيراً ) . وقال عز وجل : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) .
وكيف يقول القائل: إن الله تعالى لا يقول للمكلف : لِمَ لَمْ تلعن ؟! ألا يعلم هذا القائل أن الله تعالى أمر بولاية أوليائه ، وأمر بعداوة أعدائه ، فكما يسأل عن التولي يسأل عن التبري! ألا ترى أن اليهودي إذا أسلم يطالب بأن يقال له تلفظ بكلمة الشهادتين ، ثم قل : برئت من كل دين يخالف دين الإسلام ، فلا بد من البراءة ، لأنه بها يتم العمل . ألم يسمع هذا القائل قول الشاعر: تود عدوي ثم تزعـم أنني صديقك إن الرأي عنك لعازبُ
فمودة العدو خروج عن ولاية الولي ، وإذا بطلت المودة لم يبق إلا البراءة ، لأنه لا يجوز أن يكون الإنسان في درجة متوسطة مع أعداء الله تعالى وعصاته بأن لايودهم ولا يبرأ منهم ، بإجماع المسلمين على نفي هذه الواسطة .
وأما قوله : لو جعل عوض اللعنة أستغفر الله لكان خيراً له .. فإنه لو استغفر من غير أن يلعن أو يعتقد وجوب اللعن لما نفعه استغفاره ولا قبل منه، لأنه يكون عاصياً لله تعالى مخالفاً أمره في إمساكه عمن أوجب الله تعالى عليه البراءة منه وإظهار البراءة . . والمصرُّ على بعض المعاصي لا تقبل توبته واستغفاره عن البعض الآخر .
وأما من يعيش عمره ولا يلعن إبليس ، فإن كان لايعتقد وجوب لعنه فهو كافر ، وإن كان يعتقد وجوب لعنه ولا يلعنه فهو مخطئ .
على أن الفرق بينه وبين ترك لعنه رؤوس الضلال في هذه الأمة كمعاوية والمغيرة وأمثالهما : أن أحداً من المسلمين لايورث عنده الإمساك عن لعن إبليس شبهةً في أمر إبليس ، والإمساك عن لعن هؤلاء وأضرابهم يثير شبهة عند كثير من المسلمين في أمرهم ، وتجنب ما يورث الشبهة في الدين واجب . فلهذا لم يكن الإمساك عن لعن إبليس نظيراً للإمساك عن أمر هؤلاء !
قال : ثم يقال للمخالفين : أرأيتم لو قال قائل قد غاب عنا أمر يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف ، فليس ينبغي أن نخوض في قصتهما ، ولا أن نلعنهما ونعاديهما ونبرأ منهما .. هل كان هذا إلا كقولكم : قد غاب عنا أمر معاوية والمغيرة بن شعبة وأضرابهما فليس لخوضنا في قصتهم معنى ؟ !
وبعد ، كيف أدخلتم أيها العامة والحشوية وأهل الديث أنفسكم في أمر عثمان وخضتم فيه ، وقد غاب عنكم، وبرئتم من قتلته ولعنتموهم ؟ !
وكيف لم تحفظوا أبا بكر في محمد ابنه ؟ فإنكم لعنتموه وفسقتموه !
ولاحفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد المذكور ، ومنعتمونا أن نخوض وندخل أنفسنا في أمر علي والحسن والحسين ومعاوية الظالم له ولهما ، المتغلب على حقه وحقوقهما ؟ !
وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنة عندكم ، ولعن ظالم علي والحسن والحسين تكلفاً ؟! وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة ، وبرئت ممن نظر إليها والقائل لها يا حميراء ، أو إنما هي حميراء ، ولعنته لها بكشفه سترها . ومنعتمونا نحن عن الحديث في أمر فاطمة ، وما جرى لها بعد وفاة أبيها ؟!!
فإن قلتم : إن بيت فاطمة إنما دُخِل ، وسترها إنما كُشِف حفظاً لنظام الإسلام ، وكي لا ينتشر الأمر ، ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة ولزوم الجماعة .
قيل لكم : وكذلك ستر عائشة إنماكشف ، وهودجها إنما هتك ، لأنها نشرت حبل الطاعة ، وشقت عصا المسلمين ، وأراقت دماء المسلمين من قبل وصول علي بن أبى طالب (ع) إلى البصرة ، وجرى لها مع عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة ومن كان معهما من المسلمين الصالحين ، من القتل وسفك الدماء ما تنطق به كتب التواريخ السير ! !
فإذا جاز دخول بيت فاطمة لأمر لم يقع بعد .. جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق !! فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر التي يجب معها التخليد في النار ، والبراءة من فاعله من أوكد عرى الإيمان .. وصار كشف بيت فاطمة والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها وتهديدها بالتحريق من أوكد عرى الدين ، وأثبت دعائم الإسلام ، ومما أعز الله به الدين وأطفأ به نائرة الفتنة !! والحرمتان واحدة ، والستران واحد ؟!!!
وما نحب أن نقول لكم إن حرمة فاطمة أعظم ومكانها أرفع ، وصيانتها لأجل رسول الله (ص) أولى، فإنها بضعة منه وجزء من لحمه ودمه ، وليست كالزوجة الأجنبية التي لا نسب بينها وبين الزوج.. وإنما هي وصلة مستعارة وعقد يجري مجرى إجارة المنفعة ، وكما يملك رق الأمة بالبيع والشراء، ولهذا قال الفرضيون : أسباب التوارث ثلاثة ، سبب ونسب وولاء ، والنسب القرابة ، والسبب النكاح ، والولاء ولاء العتق ، فجعلوا النكاح خارجاً عن النسب ، ولو كانت الزوجة ذات نسب لجعلوا الأقسام الثلاثة قسمين !! وكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة ، وقد أجمع المسلمون كلهم من يحبها ومن لا يحبها منهم على أنها سيدة نساء العالمين ؟!
قال : وكيف يلزمنا اليوم حفظ رسول الله (ص) في زوجته وحفظ أم حبيبة في أخيها ، ولم تلزم الصحابة أنفسها حفظ رسول الله في أهل بيته ، ولا ألزمت الصحابة أنفسها حفظ رسول الله في صهره وابن عمه عثمان بن عفان ، وقد قتلوهم ولعنوهم ، وقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة ، منهم عائشة كانت تقول : أقتلوا نعثلاً لعن الله نعثلاً ، ومنهم عبد الله بن مسعود !!
وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب وابنيه حسناً وحسيناً وهم أحياء يرزقون بالعراق ، وهو يلعنهم بالشام على المنابر، ويقنت عليهم في الصلوات!
وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حي وبرئا منه ، وأخرجاه من المدينة إلى الشام ! ولعن عمر خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة ! وما زال اللعن فاشياً في المسلمين إذا عرفوا من الانسان معصية تقتضي اللعن والبراءة.
قال : ولو كان هذا معتبراً وهو أن يحفظ زيد لأجل عمرو فلا يلعن ، لوجب أن تحفظ الصحابة في أولادهم فلا يلعنوا لأجل آبائهم ، فكان يجب أن يحفظ سعد بن أبى وقاص فلا يلعن عمر بن سعد قاتل الحسين ، وأن يحفظ معاوية فلا يلعن يزيد صاحب وقعة الحرة وقاتل الحسين ومخيف المسجد الحرام بمكة، وأن يحفظ عمر بن الخطاب في عبيد الله ابنه قاتل الهرمزان ، والمحارب علياً في صفين . انتهى . ورحم الله هذا العالم الزيدي .