خبر عمار مع الخليفة الحادثة الأخرى التي اشتركت فيها أم المؤمنين ، وقادت الجماهير فيها ضده كانت في قصة الخليفة مع عمار بن ياسر .
وعمار بن ياسر هو أبو اليقظان بن ياسر بن عامر ، وكان ياسر والد عمار عربيا قحطانيا مذحجيا من عنس قدم من اليمن إلى مكة وحالف أبا حذيفة ابن المغيرة المخزومي وتزوج أمته سمية بن خباط فولدت عمارا فاعتقه أبو حذيفة ، فمن هنا صار عمار مولى لبني مخزوم .
كان هو وأبواه وأخوه عبد الله من السابقين إلى الإسلام ، واجهروا بإسلامهم فعذبوا عليه أشد العذاب . ألبسوا أدراع الحديد ، ثم صهروا في الشمس على أن يتركوا الإسلام وهم يأبون ذلك ، وكان رسول الله يمر عليهم بالابطح وهم يعذبون في رمضاء مكة فيقول : " صبرا آل ياسر موعدكم الجنة " وكانت سمية أول شهيد في الإسلام طعنها أبو جهل بحربة في قبلها فماتت من ذلك . وقتل بعدها ياسر .
أما عمار فانه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها فأخبر النبي بأن عمارا كفر فقال : كلا ، إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، وأخلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يبكي فجعل رسول الله يمسح عينيه ، وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ، فأنزل الله تعالى فيه : ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ . . ) الآية ( 59 ) ( النحل / 106 ) .
هاجر عمار إلى المدينة وشهد بدرا وما بعدها ، ولما قدم النبي إلى المدينة جمع أحجارا وبنى له مسجد قبا فهو أول من بنى مسجد في الإسلام ( 60 ) .
واشترك في بناء المسجد النبي صلى الله عليه وآله .
قال ابن هشام ( 61 ) عند ذكره بناء رسول الله مسجده في المدينة : فدخل عمار وقد أثقلوه باللبن ، فقال : يا رسول الله قتلوني يحملون علي مالا يحملون . قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله ينفض وفرته بيده وكان رجلا جعدا وهو يقول : " ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك إنما تقتلك الفئة الباغية " وارتجز علي بن أبي طالب ( رض ) :
لا يستوي من يعمر المساجدا * يدأب فيها قائما وقاعدا وقائما
طورا وطورا قاعدا * ومن يرى عن الغبار حائدا
فأخذها عمار بن ياسر فجعل يرتجز بها .
قال ابن هشام : فلما أكثر ، ظن رجل من أصحاب رسول الله أنه إنما
( 59 ) ذكر نزول هذه الآية في عمار : ابن عبد البر بترجمته من الاستيعاب قال : هذا مما اجتمع أهل التفسير عليه ، وراجع تفسير الآية في تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير والسيوطي وطبقات ابن سعد 3 / 178 والمستدرك 3 / 178 وغيرها وراجع - لسائر ما ذكرناه في نسب عمار وأبيه وأمه وتعذيبهم - ترجمتهم في الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة ، وباب فضائلهم في المستدرك
وكنز العمال .
( 60 ) ترجمته في أسد الغابة .
( 61 ) سيرة ابن هشام 2 / 114 .
يعرض به ، فقال : قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية والله إني لاراني سأعرض هذه العصا لانفك ، قال : وفي يده عصا ، قال : فغضب رسول الله ثم قال : " مالهم ولعمار ! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفي فإذا بلغ ذلك من الرجل فلم يستبق فاجتنبوه " قال أبو ذر في شرح سيرة ابن هشام : إن هذا الرجل هو عثمان بن عفان ( 62 ) .
وقد أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله في مواطن كثيرة منها قوله فيه لما رأى خالدا يغلظ له القول : " من عادى عمارا عاداه الله ، ومن أبغض عمارا أبغضه الله " شهد مع علي الجمل وصفين ، وكان في صفين لا يأخذ في ناحية ولا واد إلا وتبعه أصحاب النبي كأنه علم لهم ، وكان يرتجز ويقول :
اليوم ألقى الأحبة * محمدا وحزبه
ولما قتل اختصم في قتله اثنان فقال عمرو بن العاص : والله إن يختصمان إلا في النار ، والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة ( 63 ) .
هذا هو عمار بن ياسر ، وأما قصته مع الخليفة عثمان فإنه غضب عليه في عدة موارد :
منها في قصة ترحمه من كل قلبه على أبي ذر في ما روى البلاذري ( 64 ) وقال : إنه لما بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال : رحمه الله . فقال عمار بن ياسر : نعم فرحمه الله من كل أنفسنا ، فقال عثمان : يا عاض أير أبيه ! أتراني
( 62 ) شرح سيرة ابن هشام لابي ذر الخشني المتوفى ( 604 ) ه وقد روى ذلك عن ابن اسحاق صاحب السيرة الذي من سيرته أخذ ابن هشام ما اورده في سيرته . وقد اورد ابن عبد ربة القصة تامة في العقد الفريد 4 / 342 343 .
( 63 ) استشهد مساء الخميس 9 صفر سنة 37 ه وعمره 93 سنة ، راجع ترجمته في الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة والبخاري ، كتاب الجهاد ، الباب السابع عشر والطبقات 3 ق 1 / 166 189 .
( 64 ) الانساب 5 / 54 واليعقوبي 2 / 150 وكان عثمان قد نفى أبا ذر إلى الربذة لما شكاه معاوية فتوفي هناك في قصة طويلة ذكرها البلاذري في الانساب 5 / 52 - 54 وابن سعد في الطبقات 4 / 168 ، واليعقوبي 2 / 148 ، والمسعودي 1 / 438 .
ندمت على تسييره ؟ وأمر فدفع في قفاه وقال : إلحق بمكانه فلما تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى علي فسألوه أن يكلم عثمان فيه . فقال له علي : يا عثمان ! إتق الله فإنك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك ، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره ، وجرى بينهما كلام حتى قال عثمان : أنت أحق بالنفي منه فقال علي رم ذلك إن شئت ، واجتمع المهاجرون فقالوا : إن كنت كلما كلمك رجل سيرته ونفيته فان هذا شئ لا يسوغ . فكف عن عمار .
ومنها في قصة أخذه كتاب استنكار الصحابة من عثمان إليه في ما أخرجه البلاذري وغيره ( 65 ) .
البلاذري : إن المقداد بن عمرو ، وعمار بن ياسر ، وطلحة ، والزبير في عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان وخوفوه ربه وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع ، فأخذ عمار الكتاب وأتاه به فقرأ صدرا منه فقال له عثمان : أعلي تقدم من بينهم ؟ فقال عمار : لاني أنصحهم لك . فقال : كذبت يا ابن سمية ! فقال : أنا والله ابن سمية وابن ياسر ، فأمر غلمانه فمدوا بيديه ورجليه ثم ضربه عثمان برجليه وهي في الخفين على مذاكيره فأصابه الفتق ، وكان ضعيفا كبيرا فغشي عليه .
ومنها قصة استنكاره أخذ عثمان جواهر من بيت المال في ما رواه البلاذري ( 66 ) وقال : كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجواهر ، فأخذ منه عثمان ما حلى به بعض أهله فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه فخطب فقال : لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ وإن رغمت أنوف أقوام . فقال له علي : إذا تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه . وقال عمار بن ياسر : أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك ، فقال عثمان : أعلي يا ابن المتكاء ( * ) تجترئ ؟ خذوه ، فأخذ ودخل عثمان ودعا به فضربه حتى غشي
( 65 ) الانساب 5 / 49 ، والعقد الفريد 2 / 272 ، وراجع تفصيل الكتاب في الإمامة والسياسة .
( 66 ) أنساب الاشراف 5 / 48 .
( * ) المتكاء : العظيمة البطن ، البظراء المفضاة ، التي لا تمسك البول
عليه ثم أخرج فحمل حتى أتي به منزل أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يصل الظهر والعصر والمغرب فلما أفاق توضأ وصلى وقال : الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا فيه في الله .
وقام هشام بن الوليد بن المغيرة المخزوحي وكان عمار حليفا لبني مخزوم فقال : يا عثمان أما علي فاتقيته وبني أبيه ، وأما نحن فاجترأت علينا وضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف ، أما والله لئن مات لاقتلن به رجلا من بني أمية عظيم السرة ، فقال عثمان ، وإنك لها هنا يا ابن القسرية ، قال : فانهما قسريتان ( وكانت أمه وجدته قسريتين من بجيلة ) فشتمه عثمان وأمر به فأخرج ، فأتى أم سلمة فإذا هي قد غضبت لعمار ، وبلغ عائشة ما صنع بعمار فغضبت وأخرجت شعرا من شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وثوبا من ثيابه ونعلا من نعاله ثم قالت : ما أسر ما تركتم سنة نبيكم وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد ، فغضب عثمان غضبا شديدا حتى ما درى ما يقول ، فالتج المسجد وقال الناس : سبحان الله ، سبحان الله ، وكان عمرو بن العاص واجدا على عثمان لعزله إياه عن مصر وتوليه إياها عبد الله بن سعد بن أبي سرح فجعل يكثر التعجب والتسبيح .
ومنها في قصة دفن ابن مسعود فانه كان قد أوصى أن يصلي عليه عمار ولا يؤذن به عثمان ففعل ، فلما أخبر بذلك غضب عليه ولم يلبث يسيرا حتى توفي المقداد فصلى عليه عمار وكان أوصى إليه ولم يؤذن عثمان به ، فاشتد غضب عثمان على عمار وقال : ويلي على ابن السوداء ، أما لقد كنت به عليما ( 67 ) .
ومما يلفت نظرنا في هذه القصة مجابهة الخليفة عمارا بقوله : يا ابن المتكاء ، ويا عاض أير أبيه إلى أمثالها ، هذا مع ما ورد في الصحاح والمسانيد عن أم المؤمنين من أن عثمان رجل حيي ، وأن الملائكة والله لتستحي من عثمان ، وأن رسول الله قد استحى منه لشدة حيائه ، إلى غيرها مما فيه الإشادة بذكر حيائه !