ابن مسعود :هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي وأمه أم عبد ود الهذلي . وكان أبوه حليف بني زهرة . أسلم قديما وأجهر بالقرآن في مكة ولم يكن قد أجهر به أحد من المسلمين قبله فضربته قريش حتى أدموه ولما أسلم أخذه رسول الله صلى الله عليه وآله إليه وكان يخدمه ، وقال له " آذنك على أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي ( * ) حتى أنهاك " فكان يلج عليه ويلبسه نعليه ويمشي معه وأمامه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام ، وكان يعرف في الصحابة بصاحب السواد والسواك . هاجر الهجرتين جميعا إلى الحبشة وإلى المدينة ، وشهد بدرا وما بعدها . وقالوا فيه : كان أشبه الناس هديا ودلا وسمتا برسول الله ( 16 ) . سيره عمر في عهده إلى الكوفة ، وكتب إلى أهل الكوفة : إني قد بعثت عمار بن ياسر أميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من أهل بدر فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما وقد آثرتكم بعبدالله على نفسي ( 17 ) .
فكان ابن مسعود يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين وكان على بيت المال لما قدم الوليد الكوفة فاستقرضه مالا . وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثم ترد ما تأخذ فأقرضه عبد الله ما سأله ، ثم إنه اقتضاه إياه فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود : " إنما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال " فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال : " كنت أظن أني خازن للمسلمين فأما إذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي في ذلك " وأقام بعد إلقائه المفاتيح في الكوفة ( 18 ) .
( * ) ساودة سوادا : أي ساوره مساورة ولذلك كان يقال له : صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وآله .
( 16 ) راجع مسند أحمد 5 / 389 ومناقبه في البخاري والمستدرك 3 / 315 و 320 وحلية أبي نعيم 1 / 126 و 127 .
( 17 ) راجع ترجمته في أسد الغابة 3 / 258 .
( 18 ) أنساب الاشراف للبلاذري 5 / 36 .
وفي العقد الفريد ( 19 ) أن ابن مسعود خرج إلى المسجد وقال : " يا أهل الكوفة ! فقدت من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتني بها كتاب أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها براءة " فكتب الوليد بن عقبة إلى عثمان في ذلك فنزعه من بيت المال .
وروى البلاذري ( 20 ) ان عبد الله بن مسعود حين ألقى مفاتيح بيت المال إلى الوليد بن عقبة قال : " من غير غير الله ما به ، ومن بدل أسخط الله عليه ، وما أرى صاحبكم إلا وقد غير وبدل ، أيعزل مثل سعد بن أبي وقاص ويولي الوليد ! ؟ " ، وكان يتكلم بكلام لا يدعه وهو : " إن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله ، وشر الامور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " . فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال : إنه يعيبك ويطعن عليك ، فكتب إليه عثمان يأمره باشخاصه . فاجتمع الناس فقالوا : أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شئ تكرهه ، فقال : " إن له علي حق الطاعة ولا أحب أن أكون أول من فتح باب الفتن " وفي الاستيعاب : ( إنها ستكون أمور وفتن لا أحب أن أكون أول من فتحها ) . فرد الناس وخرج إليه ( 21 ) وشيعه أهل الكوفة فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن
( 22 ) . فقالوا له : جزيت خيرا فلقد علمت جاهلنا ، وثبت عالمنا ، وأقرأتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ، فنعم أخو الاسلام أنت ونعم الخليل ، ثم ودعوه وانصرفوا . وقد ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله فلما رآه قال :
( 19 ) العقد الفريد 2 / 272 .
( 20 ) البلاذري في الأنساب 5 / 36 .
( 21 ) الاستيعاب ، ترجمة ابن مسعود .
( 22 ) رجعنا إلى رواية البلاذري .
ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقئ ويسلح . فقال ابن مسعود : لست كذلك ولكني صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ويوم بيعة الرضوان ( 23 ) . ونادت عائشة : " أي عثمان : أتقول هذا لصاحب رسول الله ! ؟ " . وفي رواية بعده : " فقال عثمان أسكتي " . ثم أمر عثمان به فأخرج من المسجد إخراجا عنيفا ، وضرب به عبد الله بن زمعة الأرض ، ويقال : بل احتمله " يحموم " غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فدق ضلعه . فقال علي : يا عثمان ! أتفعل هذا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله بقول الوليد ابن عقبة ؟ ! فقال : ما بقول الوليد فعلت هذا ولكن وجهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة ، فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال . فقال علي : أحلت على زبيد على غير ثقة . وقام علي بأمر ابن مسعود حتى أتى به منزله ، فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها إلى ناحية من النواحي ، وأراد - حين برئ - الغزو فمنعه من ذلك .
وقال له مروان : إن ابن مسعود أفسد عليك العراق ، أفتريد ان يفسد عليك الشام ؟ . فلم يبرح المدينة حتى قبل مقتل عثمان بسنتين ، وكان مقيما بالمدينة ثلاث سنين . ولما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائدا ، فقال : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي . قال : فما تشتهي ؟ ( 23 ) في كلامه هذا تعريض بعثمان حيث غاب عن بدر وبيعة الرضوان . قال : رحمة ربي . قال : ألا أدعو لك طبيبا ؟ قال : الطبيب أمرضني . قال : أفلا آمر لك بعطائك ؟ وكان قد تركه سنتين ( 24 ) . قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا مستغن عنه ! قال : يكون لولدك . قال : رزقهم على الله . قال : استغفر لي يا أبا عبد الرحمن قال : اسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي . وأوصى أن يصلي عليه عمار بن ياسر ، وأن لا يصلي عليه عثمان فدفن بالبقيع وعثمان لا يعلم ( 25 ) فلما علم غضب . وقال : سبقتموني به . فقال عمار ابن ياسر : إنه أوصى أن لا تصلي عليه . فقال ابن الزبير : لاعرفنك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي ( 26 )
هذا بعض ما كان من أمر ابن مسعود .
( 24 ) تاريخ ابن كثير 7 / 163 وراجع اليعقوبي 2 / 170 .
( 25 ) توفي سنة 32 ودفنه الزبير ليلا ولم يؤذن به عثمان وكان عمره بضعا وستين سنة .
( 26 ) لقد رجعنا فيما أوردنا من قصة ابن مسعود إلى البلاذري في أنساب الأشراف 5 / 36 ،
وفي بعضه إلى ترجمته في طبقات ابن سعد 3 / 150 161 طبعة دار صادر ببيروت ، والاستيعاب 1 / 361 ،
وأسد الغابة 3 / 384 رقم الترجمة 3177 ، وتاريخ اليعقوبي 2 / 170 ، وراجع تاريخ الخميس 2 / 268 ،
وابن أبي الحديد طبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر 1 / 236 - 237 .