[size=24خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - 24هـ-644م.
• تمهيد.
• عهد أبي بكر لعمر رضي الله عنهما.
• تفنيد اعتراضات الشيعة على إمامة عمر.
• موقف أهل السنة والشيعة من خلافة عمر.
• تفنيد ورد شيخ الإسلام ابن تيمية على:
الطعون الموجهة إلى خلافة عمر.
خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - 24هـ-644م.
تمهيد:
بحثنا في الفصل السابق كيف أثبت أهل السنة صحة إمامة أبي بكر، وسنحاول في هذا الفصل أن نبحث موقفهم في الدفاع عن إمامة عمر بن الخطاب، لأن الشيعة في طعنهم في صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - باستثناء علي بن أبي طالب - جمعوا بين الصحابيين فقدحوا في إمامتهما معًا. وكذلك فعل الراوندية - وهم الذين تبرؤوا من أبي بكر وعمر، ورأوا أن أحق الناس بالإمامة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمه العباس بن عبد المطلب وأجازوا بيعة علي لأن العباس أجازها بقوله: (هلم إليّ أبايعك فلا يختلف عليك اثنان)[1].
لهذا اتجهت أبحاث مفكري أهل السنة إلى إثبات إمامة الصاحبين للتسوية بينهما (ولأنه لا خلاف أن أبا بكر إذا صلح للإمامة وثبتت إمامته أن عمر مثله)[2].
ولكن ما السبب في انتقال الخلافة إلى عمر بن الخطاب بالعهد بواسطة الصاحب الأول؟ وكيف أقر متكلمو أهل السنة ومن اتبع منهجهم في الاستدلال على هذه الوسيلة كأحد الطرق التي ثبتت لها الإمامة مستندين على انعقاد إجماع الصحابة على صحتها؟ هذا ما سنحاول عرضه خلال هذا الفصل.
عهد أبي بكر لعمر - رضي الله عنهما -:
تولى أبو بكر الخلافة عن طريق البيعة بعد المجادلات التي دارت في اجتماع السقيفة، فلما أحس بدنو أجله دعى الصحابة وأفضى إليهم بما يجول في خاطره، قال: (قد حضرتُ من قضاء الله ما ترون، وأنه لابد لكم من رجل يلي أمركم ويصلي بكم، ويقاتل عدوكم، ويقسم فيأكم)[3] إن الصديق تذكر ما حدث في اجتماع السقيفة وخشي على المسلمين إذا تركهم دون ولي من أن يفرط عقد الجماعة بصورة أخطر مما تمت عقب وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن الاختلاف حينئذ كان محصورًا بين المهاجرين والأنصار، ولكن المسلمين في عهده انتشروا يجاهدون في العراق والشام، ويواجهون فارس والروم.
فإذا استخلف (وجمع كلمة المسلمين على من استخلفه فقد اتقى ما يخشى)[4].
وبمثل هذه الكلمات التي عبر بها أبو بكر عما يدور في نفسه، اعتمد أهل السنة فيما بعد أسس نظرياتهم في ضرورة تولي الإمام أمر المسلمين، أو بعبارة أخرى نظرية وجوب الإمامة سمعًا، استدلالًا بالأمر الواقع أيام الخلافة الراشدة فإن عبارة أبي بكر تتضمن أبرز المهام التي تناط بالإمام وهي:
أولًا: أداء الصلاة، وهي الركن الجوهري في الإسلام، وقد بينا كيف كانت إمامة الصلاة هي أحد الاستدلالات التي أثبت بها أهل السنة صحة خلافة أبي بكر. ولا بأس من أن نسجل هنا حرص الصاحب الثاني على أدائها حتى ساعاته الأخيرة. إذ استجاب لنداء الصلاة وهو يقول: (نعم، لا حظ لامرئ في الإسلام إن أضاع الصلاة) فصلى والجرح يثغب دمًا[5].
ثانيًا: قتال الأعداء والذود عن ديار المسلمين.
ثالثًا: تقسيم الغنائم تفاديًا للمنازعات والخصومات.
وقد ظلت هذه المهام إجمالًا هي التي رسم حدودها أهل السنة قياسًا على الأسس التي وضعت إبان الخلافة الأولى. يقول إمام الحرمين: (الإمامة رياسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، متضمنها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الجنف والحيف)[6].
تفنيد اعتراضات الشيعة على إمامة عمر:
وقد طعن الشيعة في إمامة عمر بسبب عهد أبي بكر له. ولكن الباقلاني يتصدى لهذا الطعن فيوضح أن العهد تم بمحضر من الصحابة والمسلمين، فأقروه جميعًا وصوبوا رأيه، ولو كان ذلك خطأ في الدين لراجعوه فيه، والدليل على ذلك أن المراجعة انصرفت إلى صفة من يعهد إليه بقول القائل (أتولى علينا فظًا غليظًا؟)، ولم تكن منصبة على صحة العهد نفسه. فهم يجمعون على صحة العهد من الإمام إلى غيره، فالعهد ليس إذًا خطأ في الدين لأن الأمة لن تجتمع في عصر الصحابة - ولا في غيره من العصور - على خطأ. ولهذا فإن عهد أبي بكر صحيح وهو يجري مجرى العقد لعمر بن الخطاب، ولأن الإمام العدل - وهو شخص واحد ضمن الرعية - يصح له أن يبتدئ العقد لمن يصلح للإمامة، فكيف يحرم من هذا الحق لكونه إمامًا؟
أما الاعتراض الثاني الذي يضعه الشيعة فهو تحريمهم للعهد من الإمام لغيره لموضع التهمة من العاهد وتجويز ميله إلى العهود إليه وإيثاره لولايته. ولكن إمام المسلمين - وهو أبو بكر - كان ظاهر العدالة مشهورًا لها ولم تدل أفعاله على خيانة للأمة، بل كان منصفًا لها أيام ولايته، فلا يقبل أن يسلط عليهم بعد موته ظالمًا أو جاهلًا بأمورهم، بل إن اتهام المسلمين لإمامهم الذي عرفوه بالصلاح والتقوى بمثل هذا الاتهام يعود عليهم بالذنب الذي يوجب عليهم التوبة والاستغفار.
أما الدليل الذي يراه الباقلاني على إثبات إمامة عمر بن الخطاب، فهو أن أبا بكر عهد إليه أمام جلة الصحابة، فقبلوا رأيه بعد أن خطت خطبته التي وصف فيها عمر بصفاته كلها وخلاصتها: أنه شديد في غير عنف، لين في غير ضعف، وإذا كان طلحة قد احتج على توليته بقوله لأبي بكر: (تولي علينا فظًا غليظًا، ماذا تقول لربك إذا لقيته؟)، فقد حدث أن اعترف بعد ذلك بفضله وقال لعمر: (لقد استقامت العرب عليك وفتح الله على يديك)، ثم اشترك مع عثمان وعبد الرحمن في طلب العهد من أبي بكر لعمر لأنه أهل لها)[7].
وبهذا صار عمر بن الخطاب إمامًا للمسلمين بعهد أبي بكر إليه لأنه وقع برضا الجماعة (وإجماعهم على ذلك يكشف عن صحة الطريق الذي صار به إمامًا)[8].
ولقد قاس مفكرو أهل السنة على ذلك فجعلوا من تولية العهد مسلكًا في إثبات الإمامة في حق المعهود إليه لأن أبا بكر خليفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما عهد إلى عمر، أقره الصحابة على ذلك[9].
ويستند ابن خلدون (808 هـ- 1405م) في مشروعية العهد على دعامتين:
الأولى: بما أن حقيقة الإمامة هي النظر في مصالح العامة لأمور الدين والدنيا، فإن الإمام على هذا هو الولي الأمين الذي يتولى شئون المسلمين أثناء حياته وبعد مماته أيضًا، فهو إذا أقام لهم من يتولى أمورهم بعد وفاته قبلوا هذا الاختيار عن رضى واطمئنان لأنهم يثقون في اختياره كما وثقوا به إمامًا أثناء حياته.
الثانية: أجمعت الأمة على جواز هذا العهد وانعقاده كما تم بواسطة أبي بكر لعمر بمحضر من الصحابة فأجازوه وأوجبوا على أنفسهم طاعة عمر، وكما عهد عمر في الشورى إلى الستة ففوض بعضهم إلى بعض حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وانعقد الأمر في النهاية إلى عثمان بن عفان وأوجبت المسلمون طاعته (والملأ من الصحابة حاضرون للأولى والثانية ولم ينكره أحد منهم فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته والإجماع حجة)[10].
ويتوسع ابن خلدون بعد ذلك في طريقة العهد؛ فيجيز أن يعهد الإمام إلى أبيه أو ابنه إذ لا ينبغي في هذه الحالة أن يتهم بأنه يفضل ذوي القربى بما أنه مأمون على رعاية شئونهم أثناء حياته، فبالتالي لا يحتمل الخروج عن الحدود التي ألزم بها نفسه أثناء حياته.
ويظهر بوضوح من خلال هذه الفكرة أن فيلسوفنا خاضع للظروف السياسية إبان عصره.
أما السير أرنولد فإنه ذهب إلى أن طريقة العهد لا تخلو من المخاطرة؛ إذ لا يمكن الاطمئنان إلى حسن نتيجتها؛ ويحتمل الخطأ في الاختيار[11] ولكن الحقيقة أن بحث ما دار من مساجلات في الرأي بين أبي بكر والصحابة تبعد احتمال الخطأ إلى حد انعدامه، فالمسلمون جميعًا يعرفون عمر خير المعرفة ويثقون في اختيار أبي بكر كما أسلفنا، لأنهم على بينة من نواياه. وعذر السير أرنولد في اتجاهه أنه لم يستطع تقدير عامل الدين وقوة تأثير المثل العليا في نفوس المسلمين في ذلك الوقت، فقد (كان الوازع دينيًا، فعند عل أحد وازع من نفسه، فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره، ووصلوا كل من يسمو إلى ذلك إلى وازعه)[12].
ويمكن الرد أيضًا على اعتراض السير أرنولد بأن أصوات المعارضة ارتفعت في وجه أبي بكر تصف عمر بن الخطاب بالغلظة، فقد أعلنوا ما يرونه في وجه الحليفة دون خشية أو محاباة لكي يعيد النظر في العهد إذا أثبتوا له أنه على خطأ، ولكنهم (لم يحابوا الصديق في عهد عمر مع شدته، ومن شأن الناس أن يراعوا من يرشح للولاية فيحابونه خوفًا منه أن ينتقم منهم إذا ولي، ورجاء له، وهذا موجود، فهؤلاء لم يحابوا عمرًا ولا أبا بكر مع ولايتهما)[13].
ومع قيام أبي بكر باختيار عمر، فقد ظل يراود نفسه محاولًا التثبت من صحة اختياره. ولا نجد صعوبة في استنتاج هذا المعنى من بعض فقرات كتاب العهد نفسه، إذ يقول في إحداها: (أني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب، ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227][14].
ويعلق القاضي عبدالجبار على ما جاء لهذه الوثيقة لقوله: (وهذا كلام من يشتد اهتمامه بالدين واحتياطه للمسلمين)[15].
والدليل على صحة إمامة عمر بن الخطاب أنه التأم في عهد شمل المسلمين، وهي الظاهرة الجلية في أيام خلافة الشيخين، استمرارًا لأيام الرسول صلوات الله عليه، إذ يقرر النوبختي (210هـ- 922م) أنه (صار مع أبي بكر السواد الأعظم والجمهور الأكثر فلبثوا معه ومع عمر مجتمعين عليهما راضين بهما)[16].
موقف أهل السنة والشيعة من خلافة عمر:
بعد أن أوضح لنا النوبختي الإجماع على صحة إمامة الخليفة الثاني، فمن المرجح إذًا أن الطعن في خلافته جاء متأخرًا عن عصره، ودليلنا أن عليًا بن أبي طالب نفسه قد أشاد بعمر بن الخطاب وشهد له. ويورد ابن تيمية العبارة التي جاءت على لسان ابن عباس، والتي حاول أن يطمئن بها عمرًا عند بكائه من هول المطلع حين أشرف على الموت. قال ابن عباس: (فلا تبك يا أمير المؤمنين، فوالله لقد أسلمت فكان إسلامك فتحًا، ولقد أمرت فكانت إمارتك فتحًا، ولقد ملأت الأرض عدلًا، وما من رجلين من المسلمين يكون بينهما ما يكون بين المسلمين فتذكر عندهما إلا رضيا وقنعا به)[17]، وقد أضاف ابن عباس إلى هذا، أن عليًا بن أبي طالب يشهد بهذه الشهادة عند الله. وكان علي حاضرًا فأكد حديث ابن عباس ووجه كلامه إلى عمر بن الخطاب بقوله: (نعم يا أمير المؤمنين أنا أشهدُ بهذا عند الله)[18].
فظهور النقد والإنكار والتجريح تم يأت إدا إلا من متأخري الشيعة، حتى دفع بعض غلاتهم إلى وضع الأحاديث التي تخدم هذا الغرض. يذهب ابن قتيبة إلى أن الحديث المنسوب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والذي يقول فيه: "ليردن على الحوض أقوام ثم ليختلجن دوني فأقول: يا رب أصحابي، أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم"[19].
هذا الحديث أوله الشيعة ليتخذوا منه حجة في طعن الخلفاء الراشدين، فيعلق ابن قتيبة على ذلك بقوله: (قالوا - وهذه حجة للروافض - في إكفارهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عليًا وأبا ذر والمقداد وسلمان وعمار بن ياسر وحذيفة)[20].
أما أوائل (البتريه) - وهم إحدى فرق الشيعة الزيدية - فقالت: أن عليًا كان أولى الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفضله وسابقته وعلمه، وهو أفضل الناس كلهم بعده وأشجعهم وأسخاهم وأورعهم وأزهدهم، وأجازوا مع ذلك إمامة أبي بكر وعمر، وعدوهما أهلًا لذلك المكان والمقام، وذكروا أن عليًا سلم لهما الأمر ورضي بذلك وبايعهما طائعًا غير مكره، وترك حقه لهما، ولذلك فإنهم راضون عما رضي، وأن ولاية أبي بكر صارت رشدًا وهدي لتسليم علي ورضاه ولولا رضاه وتسليمه لكان أبو بكر مخطئًا، ضالًا، هالكًا[21].
وفي هذا المعنى أيضًا يقول ابن تيمية: (ويكفي الإنسان أن الخوارج الذين هم أشد الناس تعصبًا راضون عن أبي بكر وعمر في سيرتهما وكذا الشيعة الأولى أصحاب علي كانوا يقدمون عليه أبا بكر وعمر)[22].
ويؤكد أهل السنة أن عليًا كان محبًا للشيخين معترفًا بما لهما من مكانة ونستطيع أن نختار من بين العديد من أقواله المؤيدة لهذا ما أورده البخاري (256هـ- 869م) في صحيحه على لسان علي حين مات عمر بن الخطاب، فيقول: (ما خلفت أحدًا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله أني كنت لا أظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أني كنت كثيرًا أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر)[23].
ولكن الشيعة المتأخرين أنكروا هذا، فصدق عليهم المثل القائل بأنهم ملكيين أكثر من الملك نفسه، وألصقوا بعمر بن الخطاب - كما فعلوا قبل هذا بأبي بكر - أخطاء وعيوبًا لكي يطعنوا في صحة إمامته، فقد جمع ابن المطهر الحلي (736هـ- 1335م) عدة انتقادات يوجهها إلى عمر، منها ما يختص بالفقه، وما يتعلق بتصرفاته كخليفة للمسلمين، وسنقتصر على تناول الثانية.
ويذكر الحلي أن عمر بن الخطاب أخطأ في ثلاثة مواضيع:
الأول: جعل الأمر شورى مخالفًا من تقدمه، فلم يعهد أو يترك الأمر لاختيار المسلمين.
الثاني: سوى بين الفاضل والمفضول ومن حق الأول التقدم على الثاني.
الثالث: طعن في الستة الأشخاص الذين اختارهم للشورى، وذكر أنه يكره أن يتقلد إمامة المسلمين ميتًا كما تقلده حيًا، ثم عاد فتقلدها ميتًا بأن جعل الإمامة في ستة[24].
تفنيد ورد شيخ الإسلام ابن تيمية على الطعون الموجهة إلى خلافة عمر:
وقد تناول ابن تيمية هذه الطعون الثلاثة بالتفنيد والرد. وسنعرضها حسب ترتيبها:
أولًا: جعل الأمور شورى:
كان عمر بن الخطاب كثير المشاورة لأصحابه فيما لم يرد فيه نص، ولهذا السبب التجأ إلى الاجتهاد. فإذا كان الحلي قد ذكر أن الإمام منصوص عليه وهو معصوم، فكيف يكون هذا الإمام أعظم من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، الذي كان ينزل القرآن مصححًا لأفعاله مثلما فعل حينما ولى - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة؛ فنزلت الآية فيه: ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ ﴾ [الحجرات: 6].
كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكم في القضية المعينة باجتهاده، ولذلك نهى المحكوم له أن يأخذ ما حكم له به إذا كان الباطن بخلاف ما أظهره. ولما كان عمر بن الخطاب إمامًا للمسلمين، فإنه اجتهد في استخلافه الأصلح، ورأى أن هؤلاء الستة أحق من غيرهم، ولم يعين واحدًا منهم بالذات عشية أن يكون غيره أحق منه وأصلح للولاية (وهذا أحسن اجتهاد إمام عادل ناصح لا هوى له)[25]؛ لأنه بذلك قد نفذ ما أمرت به الآيات القرآنية من الحض على الشورى والعمل بها. وقد فضل عمر عدم تعيين واحد من الستة حتى لا يحدث الاختلاف والمنازعة، إذ جبل على ذلك البشر جميعًا بما فيهم أولياء الله المتقين، فرأى الفضل متقاربًا في الستة، ورأى أيضًا أنه إذا عين واحدًا قد لا يحسن القيام بإمامة المسلمين فيصبح عمر نفسه مسئولًا عنه لنسبته إليه، فترك تعيين واحد منهم خوفًا من التقصير، حيث رأى في كل واحد من الستة ما منعه من تعيينه وتقديمه على غيره. وقصد المصلحة في أن يبايعوا واحدًا منهم باختيارهم)[26].
ولما راجعه المسلمون ليستخلف شخصًا بعينه بالاسم رفض قائلًا: (إن الله تعالى لم يكن يضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فبذلك ترك الأمر لهؤلاء الصحابة الذين مات عنهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو راض، يختارون من بينهم الذي يجمعون عليه، وله في النبي - صلى الله عليه وسلم - سوة حسنة؛ إذ إنه - صلى الله عليه وسلم - حينما رأى المسلمين يجتمعون على أبي بكر استغنى عن كتابة الكتاب الذي عزم أن يكتبه لأبي بكر؛ كما أنه ليس هناك دليل على الاستخلاف.
وهكذا قام عمر بأداء أكثر الأمرين مصلحة وأقلهما مفسدة (فإن الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الناس على غاية ما يمكن من الصلاح لا لرفع الفساد بالكلية، فإن هذا ممتنع في الطبيعة الإنسانية إذ لا بد فيها من فساد)[27].
ثانيًا: الجمع بين الفاضل والمفضول:
وكان هؤلاء الستة متقاربين في الفضيلة، فقد كان الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يفاضلون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان، ولم ينكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك حينما يبلغه.
هذا هو التفضيل الثابت بالنص. أما التفضيل الثاني فقد ثبت بإجماع المهاجرين والأنصار، وكما ظهر لما توفي عمر بن الخطاب فإنهم أجمعوا على مبايعة عثمان من غير رغبة ولا رهبة، فإنه لم يعط أحدًا منهم مالًا ولا ولاية، ولم يكن لبني أمية شوكة حينئذ، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل تعليقًا على ذلك: (لم يجتمعوا على بيعة أحد كما اجتمعوا على بيعة عثمان)[28]، لأنه لم ينكر أحد من الستة - أو غيرهم - ولاية عثمان في ذلك الوقت، مع أن فيهم كافة الصحابة أمثال عمار بن ياسر وصهيب وأبو ذر والمقداد بن الأسود وابن مسعود، وفيهم أيضًا العباس بن عبد المطلب، ومن النقباء مثل عبادة بن الصامت، وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري، وهم جميعًا من الصحابة الذين وصفهم الله تعالى بأنه ﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54]. وقد بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يقولوا الحق حيثما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم حسب باقي نص الآية السالف ذكرها ﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54] ولم ينكر منهم أحد ولاية عثمان[29].
ثالثًا: طعنه في الستة أشخاص:
إن طعن عمر بن الخطاب فيهم لا يعني أنه يفضل غيرهم عليهم في الإمامة بل كره أن يتقلد غيرهم الإمامة لأنه لا أحد أحق بالإمامة منهم. ولا تبعة عليه لأنه اختار الستة لخشيته من تبعة تعيين واحد منهم، أما كراهيته في تقلد الأمر حيًا، فإن هذا المعنى يفسر على غير حقيقته؛ لأنه تقلد الأمر باختياره، فليس خوفه إذًا إلا من تبعة الحساب مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، فخوف عمر إذًا من التقصير في الطاعة يعني كمال طاعته لله، فإنه كان يستطيع أثناء حياته منع نوابه مما يكرهه منهم لأنه كان متمكنًا من مراقبتهم وتعقب أفعالهم، أما بعد موته فإنه لا سلطان له عليهم، فكره تقلد الأمر ميتًا لهذا السبب[30].
وينفي ابن تيمية أن عمرًا جعل الأمر في أربعة ثم في ثلاثة ثم في واحد لأن هذا غير ثابت من وجهة نظر ابن تيمية؛ لأن النقل الثابت في صحيح البخاري يدل على أن الستة أنفسهم هم الذين حصروا الأمر في ثلاثة، ثم جعل هؤلاء الثلاثة الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف، ولا دخل لعمر بن الخطاب في ذلك.
كما يستبعد ابن تيمية ما ذكره الحلي من تفضيل عمر لعثمان، وحتى إن فعل، فهو لا يعني محاباة عثمان وإلا لكان ولاه بدلًا من تعيين الستة، لا سيما أنه من المعروف عن عمر أثناء حياته جراءته في الحق حتى أطلق عليه الشيعة أنفسهم (فرعون هذه الأمة)، ولو أراد تعيين عثمان ابتداءً لفعل دون الالتجاء إلى مثل هذه الحيلة (فإذا كان في حياته لم يخف من تقدم أبي بكر والأمر في أوله والنفوس لم تتوطن على طاعة أحد معين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا صار لعمر أمر، فكيف يخاف من تقديم عثمان عند موته والناس كلهم مطيعوه وقد تمرنوا على طاعته؟)[31]. كما أنه ليس بينه ويبن عثمان من أسباب الصلة أكثر مما بينه وبين علي سواء من جهة القبيلة أو غيرها، وقد أخرج عمر ابنه وابن عمه من الأمر، فليس هناك سبب إذًا يدعوه إلى تفضيل عثمان أو على أو غيرهما إذ لا يحتاج إلى واحد منهم لا في أهله ولا في دينه، وقد يستساغ قبول هذا التصرف من عمر لو أراد محاباة أحدهما لا حاجته إليه، فإذا لم تكن الحاجة قائمة فما الذي يدعوه إلى التفضيل لا سيما عند الموت وهو الوقت الذي يسلم فيه الكافر ويتوب فيه الفاجر؟
ليس إذًا لعمر مانع دنيوي يدفعه إلى ذلك. بقي الدين، فلو كان الدين يقتضي ذلك لفعله، وإلا فليس من المقبول أن يقدم على فعل ما يعلم أنه يعاقب عليه في الآخرة، ولا ينتفع به في دنياه أو آخرته. ولم يكن عمر من ناحية أخرى يُخالف على أهله بعد وفاته لأنه صرف الأمر عنهم، وهو على يقين من أن عليًا أعدل وأتقى من أن يظلمهم لو ولي الأمر بعده.
إذا قيل أن عليًّا وعثمان لا يجتمعان على أمر واحد فهو قول منسوب كذبًا إلى عمر، فلم يكن بينهما نزاع أثناء حياته، بل كان أحدهما أقرب إلى صاحبه من سائر الأربعة إليهما لأنهما من بني عبد مناف، ووقائع التاريخ تدل بوضوح على اتفاق بني العباس وبني أمية في أول الأمر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ووقعت الفرقة بينهما فيما بعد عندما ولي بنو العباس وصار بينهم وبين بعض بني أبي طالب الاختلاف[32]، كما ينفي ابن تيمية صلة القرابة بين عبد الرحمن وعثمان لأن الأول من بني زهرة والثاني من بني أمية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المسعودي (346هـ- 657م)، مروج الذهب، ج 2، ص 157.
[2] القاضي عبد الجبار، المغني، ج 2، القسم الثاني، ص 3.
[3] ابن قتيبة. الإمامة والسياسة، ص 19.
[4] دكتور، محمد حسين هيكل. الفاروق عمر، ج 1، ص 76.
[5] ابن الجوزي، تاريخ عمر بن الخطاب، ص 217.
[6] إمام الحرمين، غياث الأمم، مخطوط، ص 9.
[7] رد الباقلاني على الشيعة يشمل الصفحات، 197، وما بعدها، من كتابه (التمهيد).
[8] القاضي عبد الجبار. المغني ج 2، القسم الثاني ص 6.
[9] الجويني. غياث الأمم. مخطوط، ص 65.
[10] ابن خلدون، المقدمة، ص 210.
[11] The Caliphat. Sir T.W. Arnold.
[12] المقدمة، ص 211.
[13] ابن تيمية، منهاج السنة، ص 166.
[14] الطبري، ج 4، ص 54، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة. ج 1، ص 19.
[15] القاضي عبد الجبار، المغني ج 2، القسم الثاني، ص 7.
[16] النوبختي، فرق الشيعة، ص 4.
[17] ابن تيمية، منهاج السنة، ج 3، ص 142.
[18] نفس المصدر والصفحة.
[19] ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، ص 295.
[20] نفس المصدر والصفحة.
[21] النوبختي، فرق الشيعة، ص 20.
[22] ابن تيمية، منهاج السنة، ج 3، ص 142.
[23] صحيح البخاري، ج 2، ص 204.
[24] ابن تيمية، منهاج السنة، ج 3، ص 258.
[25] ابن تيمية، منهاج السنة، ج 3، ص 162.
[26] ابن تيمية، منهاج السنة، ج 3، ص 162.
[27] المرجع السابق، ص 164.
[28] المرجع السابق، صح 166.
[29] ابن تيمية، منهاج السنة، ج 3، ص 66.
[30] ابن تيمية، منهاج السنة، ج 3، ص 167.
[31] ابن تيمية، منهاج السنة، ج 3، ص 168.
[32] ابن تيمية: منهاج السنة، ج 3، ص 170.
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/Web/mostafa-helmy/0/40314/#ixzz23RdjWNcc[/size]