ترك الكتابة
كان رفضهم وتصدّيهم للأمر النبوي في كلّ مرّة (كما حصل ذلك في مثل حجّة الوداع ورزية يوم الخميس وعدم إنفاذ جيش أسامة) سبباً في ترك النبيّ(صلى الله عليه وآله) لكتابة الوصية هذه المرّة (في رزية يوم الخميس) من بابٍ أولى ؛ لأنّهم رموه هنا بالهجر والهذيان! فطعنوا في عصمته ونبوّته هنا صراحة وكذّبوه(صلى الله عليه وآله) بعد ما فعلوه في منعه والتصدّي له حين أراد(صلى الله عليه وآله) تبليغهم هذا الأمر مشافهة في حجّة الوداع، مع حرصه(صلى الله عليه وآله) على توفير البيئة والظرف المناسبين حيث اختار أفضل الأوقات وأنسبها للقبول والتسليم وهو حجّة الوداع!!
فعدم تسليم وقبول قريش لهذا الأمر مهما كلّفهم ذلك أوّلاً، وعلمه(صلى الله عليه وآله) بما سيؤول إليه حالهم، وما يخططون له، وما سيقومون به بعد وفاته(صلى الله عليه وآله) إن كتب تلك الوصية ثانياً؛ كلّ ذلك جعل رسول الله(صلى الله عليه وآله) يرجح عدم كتابة تلك الوصية المهمّة بعد رفضهم لها وعدم تقديمهم الكتاب الذي طلب منهم تقديمه له(صلى الله عليه وآله)، وتنازعهم واختلافهم ورميه بالهجر والهذيان والعياذ بالله؛ ممّا سيؤدّي إلى طعنهم في شخصه الشريف(صلى الله عليه وآله) وعصمته ونبوّته ووصيته، وزعمهم وادّعائهم أنّه(صلى الله عليه وآله) قد كتب تلك الوصية في مرض موته وهو في حالة هجر وهذيان!! وأنّه غلب عليه مرض الموت كما صرّحوا حينها فأثّر فيه المرض وغيَّره، وأنّه (حاشاه وصلّى عليه الإله) لم يكُن في تمام عقله ووعيه فلم يدرِ ما يقول وما يكتب ــ والعياذ بالله ــ فهذا ما سيحصل بالتأكيد إن هم عجزوا وفشلوا في منع رسول الله(صلى الله عليه وآله) من كتابة وصيته التي أراد كتابتها وأصرّ عليها.
ولذلك استمات عمر وحزبه ومن معه في منع رسول الله(صلى الله عليه وآله) من الكتابة، لتسهل المهمّة عليهم مستقبلاً في أخذ ومصادرة الخلافة والاستبداد بها دون عليّ(عليه السلام)، ومخالفة النصوص والإشارات دون عناء الاصطدام بالوصية الصريحة والمكتوبة الناصّة على عليّ(عليه السلام) من قبل النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وبحضورهم وشهادتهم هم أنفسهم ورضاهم كما حاول رسول الله(صلى الله عليه وآله) فعله وتحقيقه؛ فإنّه حينئذ سيؤدّي إلى طعنهم المباشر بالنبيّ(صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى، فاجتهادهم يكون حينئذ في مقابل النص الواضح المكتوب المشهود من قبلهم والمقدّم فيه القرطاس بأيديهم؛ فيؤدّي ذلك إمّا إلى التقاتل والصدام مع عليّ(عليه السلام) وحزبه المؤمنين الذي سيكون شاملاً ومحتدماً في هذه الحالة عمّا هو الحال عليه لو لم تكتب الوصية؛ لأنّهم حينئذ سيخالفون نصّاً إلهياً بتنصيب النبيّ(صلى الله عليه وآله) واضحاً وصريحاً لا لبس فيه ولا مجال للالتفاف عليه، أو أنّه سيؤدّي إلى الخروج عن الدين بشكل سافر لطعنهم المباشر أو تشكيكهم بشخص النبيّ(صلى الله عليه وآله) أو نبوّته أو عصمته! نعوذ بالله من الخذلان ومن مسالك الشيطان.
ابن تيمية قد كفانا المؤنة!
وجدت ابن تيمية يعترف بهذا الفهم تماماً، وينصّ على هذه الحقيقة فعلاً، وهو ليس رافضياً بكلّ تأكيد! بل هو شيخ إسلامهم، وأشدّ الناس بغضاً ومحاربة للشيعة! فقد قال ما نصّه: "فلمّا كان يوم الخميس همَّ أن يكتب كتاباً فقال عمر: (ماله أهجر؟) فشك عمر هل هذا القول من هجر الحمى، أو هو ممّا يقول على عادته؟ فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى، فكان هذا ممّا خفى على عمر،
كما خفى عليه موت النبيّ(صلى الله عليه وآله) بل أنكره، ثمّ قال بعضهم: هاتوا كتاباً. وقال بعضهم: لا تأتوا بكتاب. فرأى النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّ الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة ؛ لأنّهم يَشُكُّون هل أملاه مع تغيّره بالمرض؟ أم مع سلامته من ذلك؟ فلا يُرفع النزاع، فتركه"(1)، انتهى كلام ابن تيمية بلفظه.
فتأكّد النبيّ(صلى الله عليه وآله) من عدم جدوى أيّة محاولة منه لإقناعهم بامتثال أمره وردعهم عن تمرّدهم واستكبارهم وغيّهم؛ فردّ عليهم هذه المرّة بطردهم ــ على غير عادته(صلى الله عليه وآله) من عدم قيامه يوماً ما بطرد أحد من بيت النبوّة أبداً مهما فعل ذلك الشخص ومهما أساء ــ فأوضح وأشار بصدور مثل هذا الفعل منه(صلى الله عليه وآله) إلى أنَّ الخطب عظيم، والرزية كبيرة، واعتراضهم عليه هنا ليس خطأً شخصياً ولا بسيطاً، ناهيك عن كونه ممدوحاً وصحيحاً كما يزعم البعض!! فيكون فعله(صلى الله عليه وآله) غضبة واضحة غضبها لله تعالى ولدينه، وحسرة صريحة، بل صرخة مدوِيّة على مصير أمّته وما يحدق بها ممّا تخططهُ قريش لهذه الأمّة المسكينة وتكيد لها من بعده(صلى الله عليه وآله)، فدلّ على ذلك وأكّده أيضاً بقوله(صلى الله عليه وآله) لهم حين ردّوا عليه(صلى الله عليه وآله): "فذهبوا يردّون عليه فقال: (دعوني) ــ وفي رواية: (قوموا عنّي) ــ فإنّ الذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه)"(2) كما رواه البخاري.
وقد استظهر ورجّح ابن حجر في فتحه إنكار النبيّ(صلى الله عليه وآله) على مانعيه من الكتابة ــ بخلاف ما يزعمه بعض المرقعين ــ عند شرحه لهذا الحديث فقال: "قلت: ويحتمل عكسه، أي: إنّ الذي أشرتُ عليكم به من الكتابة خير ممّا تدعونني إليه من عدمها، بل هذا هو الظاهر"(3).
1- منهاج السنّة لابن تيمية (6/315).
2- صحيح البخاري (4/31) و(5/137)، ومسلم في صحيحه أيضاًً (5/75)، وبلفظ قوموا عنّي: البخاري (1/37) و(7/9) و(8/161).
3- فتح الباري (8/102).
وجود النص:
يشهد لوجود هذا الرفض من قبل الحزب القريشي المعارض وعدم تسليمهم لهذا الأمر وتصدّي النبيّ(صلى الله عليه وآله) لهم في المقابل؛ ما جاء في الحديث الذي يرويه بريدة وعمران بن حصين اللّذان يحكيان لنا حادثة حصلت بين عليّ(عليه السلام) ومخالفيه والمعترضين عليه من مناوئيه خلال هذه الفترة أيضاً ــ أي: آخر أيام حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ــ وموقف النبيّ(صلى الله عليه وآله) من هذين الفريقين، وفيه ما نصّه: "فقال لهم النبيّ(صلى الله عليه وآله): (ما تريدون من عليّ إنّ عليّاً مّني وأنا من عليّ وهو ولي كلّ مؤمن بعدي)"(1).
فهذا الحديث ــ وغيره ــ يوضّح وقوع الرفض والطعن في الإمام(عليه السلام) وعدم الرغبة فيه والتعاقد والتآمر عليه منذ حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وحتّى وفاته(عليه السلام)(2)؛ ولذلك كان(صلى الله عليه وآله) كثيراً ما يؤكّد على حُبّ عليّ(عليه السلام) مبيّناً أنّ بغضه علامة على النفاق وأنّ سبّه بمنزلة سبّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) نفسه وسبّ النبيّ سبّ الله تعالى(3)، هذا من جهة.
1- رواه الترمذي وحسنه (3713)، والنسائي في الخصائص (ص13و17)، وابن حبان (2203)، وأحمد (4/437) و(1/330)، والطيالسي (868و2875)، والحاكم (3/110) و(3/133) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، ومن ثمّ أقرّهم الألباني، وعن الطريق الآخر قال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي أيضاً، وأقرّهم الألباني كذلك انظر السلسلة الصحيحة (2223)، وقال ابن حجر عنه أيضاً في الإصابة وإسناده قوي، وفيه تآمر أربعة من الصحابة على علي(عليه السلام) منهم خالد، فراجع الحديث بتمامه.
2- وهنالك روايات عديدة وبمناسبات شتّى تثبت انحراف الناس عن علي(عليه السلام) وبغضهم له، كحديث بريدة الذي ذكرناه آنفاً، وحديث عائشة في البخاري الذي يبيّن سبب مبايعة علي لأبي بكر والتماس مصالحته حين قالت ما نصّه: "فلمّا ماتت فاطمة استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته..." وغيرها كثير، فراجع ثمة. وكذا حديث وهب بن حمزة حين قال: "خرجت مع علي من المدينة إلى مكة.... فلمّا قدمت لقيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقلت: رأيت من علي كذا وكذا فقال: لا تقل هذا فهو أولى الناس بكم بعدي" قال عنه الهيثمي: رواه الطبراني وفيه دكين ذكره ابن أبي حاتم ولم يضعّفه أحد وبقية رجاله وثّقوا.
3- روى الحاكم (3/121)، وأحمد (6/323)، والنسائي في خصائص علي (ص99) وغيرهم عن أبي عبد الله الجدلي عن أم المؤمنين أم سلمةO قولها لهم: أيُسب رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيكم (في ناديكم)؟ فقلت: معاذ الله أو سبحان الله فقالت:سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: (من سبّ علياً فقد سبّني)، صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وكذا صحح طرقه الهيثمي فقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجدلي وهو ثقة، راجع مجمعه (9/130).
ومن جهة أخرى ففي حديث (وهو وليكم بعدي) نصّ من النبيّ(صلى الله عليه وآله) على خلافة وولاية الإمام عليّ(عليه السلام) بعده(صلى الله عليه وآله).
وممّا يدل على نصّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) على إمامة عليّ(عليه السلام) هنا؛ وصف بعض علماء السنّة الحديث المتقدّم بأنّه: "ممّا يقوّى به معتقد الشيعة"!! وأنّه "لو صحّ لدلّ على خلافة عليّ بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) دون فصل"، كما فهم ذلك المباركفوري السلفي حيث قال ما نصّه: "وقد استدلّ به الشيعة على أنّ عليّاً(رضي الله عنه) كان خليفة بعد رسول الله من غير فصل، واستدلالهم به عن هذا باطل فإنّ مداره عن صحّة زيادة لفظ بعدي وكونها صحيحة محفوظة قابلة للاحتجاج والأمر ليس كذلك.. ــ ثمّ قال ــ وظاهرٌ أنّ قوله بعدي في هذا الحديث؛ ممّا يقوّى به معتقد الشيعة"(1)، فالمباركفوري السلفي المتشدد يعترف بدلالة الحديث ونصّه على كون عليّ(عليه السلام) خليفة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) من غير فصل، ولكنه لم يسلّم بها وردّها بسبب تضعيفه لكلمة (بعدي) في الحديث، فهو يفهم ذلك ويسلم به لو كان الحديث عنده ثابتاً بتمامه!!
وقد تبيّن لي لاحقاً صحّة هذه الكلمة وخطأه في تضعيفها وردّها وبطلان قوله فيها وتقليده لابن تيمية في ذلك دون فحص أو تحقيق أو متابعة أو تدقيق، حيث وجدت ما فعله الألباني عندما بحث في طرق الحديث وأخرج أسانيدها وصححها بنفسها بحسب ضوابط وقواعد علم الحديث، إضافة لتقويتها بما
1- تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي (10/146).
يعضدها من شواهد ومتابعات كحديث الغدير المتواتر باعتراف الألباني الذي جعله وهذا الحديث ذو دلالة وإشارة واحدة ومعنى واحد للولاية فيهما!!
فلمّا وجدت هذه الكثرة من الأقوال وشدّة اختلافهم في هذا الحديث، بحثت فيه بنفسي، مع أنّي رأيت تصحيح محدّث العصر الألباني السلفي الذي أطمئن لعلمه وأثق به لسعة اطّلاعه وإنصافه عموماً، ولكن ليطمئن قلبي ولتقوى حجّتي أمام ربّي، إن سألني كيف وثقت بالألباني وأخذت بقوله وتصحيحه لهذا الحديث دون غيره؟ خصوصاً بعد ما رأيت من فعله وتساهله في تصحيح حديث كتاب الله وسنّتي وتأويله لحديث كتاب الله وعترتي أهل بيتي بمعانٍ بعيدة وغير مقبولة، وما إلى ذلك من هفواته بل زلاّته ؛ ولذلك بحثت في الأحاديث بنفسي.
فابن تيمية يكذّبه، والمباركفوري يشكك به ويطعن في كلمة مهمّة فيه بسبب تفرّد بعض الرواة من الشيعة بهذه الكلمة بزعمه رغم اعترافه بصدقهما ووثاقتهما!! فوجدت بأنّ للحديث طريقين: أحدهما عن الأجلح الكندي، وهو شيعي ولكنّه ثقة وصدوق عند علمائنا، كما أنّ الطريق الثاني عن جعفر بن سليمان، وهو ثقة عندنا أيضاً ومن رجال مسلم.
فوجدت أنّ المباركفوري يضعّف كلمة (بعدي) في الحديث مع توثيقه لرواته وصحّة سنده عنده! معللاً فعلته تلك بأنّ كلّ طريق من هذين الحديثين فيه راوٍ شيعي وقد تفرّدا بزيادة لفظ (بعدي) في الحديث خلافاً لقواعد الحديث كما صرّح الألباني بذلك، فقال المباركفوري: "والظاهر أنّ زيادة لفظ (بعدي) في هذا الحديث من وهم هذين الشيعيين"!! فضعّف هذا الحديث العظيم بجرّة قلم! مع أنّ دعواه هذه كاذبة أصلاً ؛ لأنّ هذا الحديث لا يروى بطرق وأسانيد أخرى من دون هذه الكلمة ليقول بأنّ هذه الكلمة من وهم هذين الشيعيين، وكذلك وجود طرق أخرى للحديث فيها هذه الكلمة وليس في أسانيدها شيعي واحد كما في حديث ابن عباس ووهب بن حمزة، وخصوصاً حديث
وهب ففيه فوائد متعددة، فإنّه ينصّ على معنى الولاية مع وجود كلمة بعدي فيها، فروى عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال له عن عليّ(عليه السلام): (إنّه أولى الناس بكم بعدي)(1)، فهذا الحديث أصرحها دلالة وأدلّها على مقام ومعنى ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام).
تناقض الألباني:
أذكر أنّي قبل اطّلاعي على كلام الشيخ الألباني كنت قد اقتنعت حينها بقول المباركفوري طبعاً، فأزال همّي وارتحت قليلاً بسبب شرحه وقوله وتنفّست حينها الصعداء!
ولكن بعد أيام قلائل حصل ما لم يكن بالحسبان! حين وجدت بأنّ الألباني يصحح هذا الحديث، بل وجدت أنّه أتى له بطريق ثالث صححه أيضاً ــ بعد دفاعه المستميت طبعاً عن الطريقين الأوّلين وتصحيحه لهما ــ والذي أخرجه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وكذا ابن حجر العسقلاني والهيثمي عن ابن عباس، وهو بسند آخر وليس فيه الأجلح الكندي أو جعفر بن سليمان.
ففاجأني الألباني حين صحح هذا الحديث بقوّة! ثمّ فاجأني أيضاً حينما ردّ واستنكر كلام ابن تيمية بأشدّ أسلوب وأعنف لفظ! بل لم أرَ كلاماً للألباني بهذا المستوى من الهجوم والقسوة في حقّ ابن تيمية كما فعل هنا ــ مع إعجابه الشديد به والسير على نهجه، بل التزامه لنفس مدرسته وآرائه ــ حين وصف ابن تيمية ورماه بالجرأة والتسرّع والمبالغة في الردّ على الشيعة، قائلاً: "فمن العجيب حقّاً أن يتجرّأ شيخ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث وتكذيبه في منهاج السنّة
1- مجمع الزوائد للهيثمي (9/109) وقال: رواه الطبراني وفيه دكين ذكره ابن أبي حاتم ولم يضعّفه أحد وبقية رجاله وثّقوا.
(4/104) كما فعل بالحديث المتقدّم هناك (من كنت مولاه) مع تقريره رحمه الله أحسن تقرير... ــ إلى أن قال ــ هذا كلّه من بيان شيخ الإسلام وهو قويّ متين كما ترى!! فلا أدري بعد ذلك وجه تكذيبه للحديث؛ إلاّ التسرّع والمبالغة في الردّ على الشيعة، غفر الله لنا وله"(1).
ولمّا رجعت إلى كلام ابن تيمية فوجئت مرّة ثالثة ممّا قاله الألباني عن تقرير وردّ وفهم ابن تيمية ووصفه إيّاه بأنّه قويّ متين(!!)؛ فإنّ الواضح والصريح من كلام ابن تيمية أنّه يكذّبُ الحديثَ ويقول باستحالة صدوره عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويردّ معناه، بل لا يرى له معنى صحيحاً لأجل تناقض متنه(بزعمه)! وعدم استفادة معنى له يصح لغةً، فتناقض الألباني هنا! وقام بتصحيح الحديث وفهمه في نفس الوقت بفهم ابن تيمية الذي يكذّب الحديث ويردّه بسبب خطورة معناه وادّعائه عدم وجود معنى صحيح يفهم منه أصلاً!! فوقع الألباني هنا في تناقض صارخ وتخبّط واضح وخلط فاضح وغفلة غير لائقة بمثله، ولكن ما جعلني أصدّق بصدور مثل هذا الأمر عنه هو قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}(2).
كبير السلفية (الألباني) يردّ بعنف على شيخ إسلامه لصالح الشيعة:
قد أثارني وأذهلني ردّ الألباني هنا، وبهذه العبارات القاسية، وإنكاره على ابن تيمية، وهو من هو عنده وعند كلّ سلفي!! وتذكّرت مورداً آخر يتكلّم الألباني فيه على ابن تيمية بقسوة، وذلك في سلسلته الصحيحة عند كلامه في
1- سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ محمّد ناصر الدين الألباني (ح2223).
2- النساء: 82.
حديث الغدير حيث قال: "إذا عرفت هذا، فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحّته أنّني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية، قد ضعّف الشطر الأوّل من الحديث، وأمّا الشطر الآخر فزعم أنّه كذب! وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرّعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ويدقق النظر فيها. والله المستعان"(1) انتهى.
وأنا أقول: الله المستعان عليه وعلى أمثاله.
فنفعني ذلك نفسياً ومعنوياً ؛ لأنّه حطّم وأسقط بكلامه هذا هيبة ابن تيمية ومكانته التي كانت لا تضاهى عندنا وتقليدنا الأعمى له وعدم تخطئته في شيء أبداً، حتّى سهّل عليَّ بعد ذلك التحرر من ردوده ورفضه لجلِّ أحاديث فضائل أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) وخصائصه، ومحاولته تجريدها عن معانيها ودلالاتها العظيمة، وكلامه الواضح البطلان وتشدده إلى حدّ التطرّف والجرأة والاستهانة والطعن الواضح في أئمة البيت(عليهم السلام)، ذلك الطعن الذي لم نعهده من سائر أئمة السنّة.
وكذلك تبيّنت لي مخالفاته وشذوذ آرائه عموماً والإجماعات التي يدعيها دائماً مبالغة واعتداداً، بل تدليساً وزوراً وبهتاناً(2)!!
1- سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/344)، (ح1750).
2- كما كان شيخنا وأستاذنا محمّد عياش الكبيسي يقول لنا ذلك دائماً ويثبت بالدليل في خطب الجمعة وغيرها بأنّ ابن تيمية كثير المبالغات وغير دقيق في ادّعائه للإجماعات وخصوصاً في العقائد، وقد بحث ذلك وأثبته في رسالة الماجستير التي قدّمها في بداية التسعينيات لكلية الشريعة وحضرنا مناقشتها آنذاك، ولكننا لم نكن نصدّق أيّ شيء من تلك الادعاءات لاعتقادنا كراهية عياش له وتحامله عليه ؛ لأنّه من أتباع مدرسة الإخوان المسلمين، حتّى رأيت كلام الألباني هذا فيه، فأصبحت حينئذ أتقبّل كلام من يطعن في آرائه أو يشكك في دقته أو يدّعي مخالفاته وشذوذه، بعد أن كنّا نعتقد فيه أنّه يمثل الحقّ المطلق الذي لا يمكن خطأه، ولا يمكن لأحد مهما كان تخطئته أو الرد عليه، حينما نستذكر دائماً ونردد ما يذكره الذهبي أو المزي من تلاميذه حين قال في ابن تيمية: "لم أر مثله ولم يرَ مثل نفسه"!!!
وهذا الطعن والتشكيك من الألباني في ابن تيمية بسبب أحاديث تدعم الشيعة، ثمّ التخبّط والضعف عند كلامهم عموماً في أحاديث وأدلة الشيعة التي تذكر أهل البيت(عليهم السلام)، أكّد لي ضعف مذهب أهل السنّة وضعف علمائهم عند الردّ على الشيعة، وقوّة تلك الأدلة التي تستدل بها هذه الفرقة (الشيعة)، بحيث وجدت في هذا الحديث فقط عدّة أقوال متناقضة وتخريجات باردة وغير مقنعة بالمرّة، بل والله إنّها لتضحك الثكلى!
فقد رأيت ما انتهى إليه علم وتحقيق المباركفوري السلفي الذي ضعّف كلمة (بعدي) في الحديث تقليداً لابن تيمية ولكن بحجّة أخرى غير حجّة ابن تيمية، حيث جعلها من وهم راويين شيعيين موثّقين عنده أيضاً تفرّدا بذكر هذه الزيادة!
والأمر ليس كما زعم بأنّهما تفرّدا بزيادة كلمة (بعدي) في الحديث! فالحديث لم يرد بطرق أخرى من دون هذه الكلمة أصلاً حتّى يُحتمل ويُقبل ما قاله واعتذر به، وحتّى لو تنزّلنا معه فيما ادّعاه، فإنّ من المتّفق عليه عند العلماء أنّ زيادة الثقة مقبولة، وقد اعترف هو بوثاقتهما وصدقهما، ولذلك أطلق على زيادتهما بالوهم وليس الكذب! وكذلك فإنّ الألباني ردّ هذا القول وفنّده عند تصحيحه لهذا الحديث، حيث قال ما نصّه: "فإن قال قائل: راوي هذا الشاهد شيعي، وكذلك في سند المشهود له شيعي آخر، وهو جعفر بن سليمان، أفلا
يعتبر ذلك طعناً في الحديث، وعلّة فيه؟! فأقول (والكلام للألباني): كلا ؛ لأنّ العبرة في رواية الحديث إنّما هو الصدق والحفظ، وأمّا المذهب فهو بينه وبين ربّه فهو حسيبه، ولذلك نجد صاحبي الصحيحين وغيرهما قد أخرجوا لكثير من الثقات المخالفين كالخوارج والشيعة وغيرهم..."(1).
ثمّ رأيت بأنّ تكذيب ابن تيمية لهذا الحديث وردّه للحديث متناً لا سنداً، مخالفة صريحة وواضحة منه لأصول وقواعد العلماء والمحققين عند الحكم على الأحاديث! فحكم عليه بالضعف من خلال متنه ومعناه لا من خلال سنده كما هو معهود، معنى ومتناً لا سنداً ورجالاً، فزعم استحالة صدوره عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) لغة لا لوجود كذّاب في سنده، فتأمّل!
ثمّ رأيت أيضاً تصحيح الألباني للحديث وردّه على تكذيب ابن تيمية له بشكل مباشر، وعلى طعن المباركفوري فيه بشكل غير مباشر ؛ لأنّه قام بذكر نفس قوله وإشكاله ــ الذي ذكرناه ونقلناه قبل سطور ــ فقد ردّ الألبانيُّ عليهما هنا بقوّة ومتانة، بل وجرأة غير معهودة لمثله على مثلهما كأعمدة محترمين عند السلفيين، وخصوصاً على مثل ابن تيمية!!
ثمّ رأيت الألباني بعد ذلك كلّه ينقض غزله فيفهم الحديث بعد تصحيحه له بنفس فهم ابن تيمية الذي نصّ على عدم وجود معنى صحيح للحديث، وكذَّبه لأجل ذلك متناً ومعنى لا سنداً ؛ لأنّ رجاله رجال مسلم! فتمّ لي العجب والاستغراب على أتمّ وجه وأجلى صورة!!
فخلص لي من كلّ ذلك: أنّ كلامهم (المباركفوري، وابن تيمية، والألباني) في هذا الحديث ــ كما هو شأنهم في غيره من أحاديث الخلاف ــ عبارة عن تخبّط
1- السلسلة الصحيحة للألباني (ح2223).
واضح وهوى متّبع وعدمِ التزامٍ للحقّ والقواعد العلمية عند نقده، سواء كان في سنده أم في متنه ودلالته؛ فكان حاصل كلام كلّ واحد منهم بتمامه ينقض بعضه بعضاً، وغير مقنع لأيّ عاقل مكلّف بأخذ عقيدته بدليل وبرهان.
ولي هنا وقفة بسيطة وتساؤل بريء: هل سيكون كلامهم في مثل هذا الحديث سنداً ومتناً كما هو حال كلامهم فيه لو ورد مثله في فضل أبي بكر أو عمر وكان أحد رواته ناصبياً أو عاملاً أو مقرّباً عند السلطة مثلاً؟!! هذا السؤال نحتاج فعلاً إلى الإجابة عنه دائماً.فجمعت بين أقوالهم فيه، فاخترت من بينها ما اتّفقوا عليه، وكان صحيحاً ومقنعاً ومنطقياً ومنصفاً وصادراً عن غير هوى أو حميةٍ أو عصبيةٍ أو تقليد، ومفسّراً بعضه بعضاً ومكمّلاً بعضه لبعض ويدلّ بعضه على صحّة الآخر ويؤكّده، فوجدت:
1ــ إنَّ الحديثَ صحيحٌ، كما أكّد الألبانيُّ ذلك؛ فحق لي حينئذ الاستدلال به والعمل عليه.
2ــ إنَّ ظاهرَ معناه ممّا يقوى به معتقد الشيعة كما نصّ على ذلك المباركفوري وأقرّه ؛ فحقّ لي حينئذٍ فهم الحديث بحسب ذلك واستدلالي به على خلافة عليّ بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) مباشرة ودون فصل، كما اعترف بتلك الدلالة وأقرّها المباركفوري السلفي نفسه أيضاً، ولكنّه اشترط لثبوت ذلك المعنى صحّة كلمة (بعدي) في الحديث! فيقال له؛ إنّ هذا الحديث قد صححه من هو أعلم وأدق منه سواء القدماء كالحاكم والذهبي والترمذي أم المعاصرين كشيخ السلفية وخاتمة محدّثي العصر! الألباني وغيره.
3ــ ظهور كذب ابن تيمية، واتّباعه للهوى والتعصّب الأعمى والحقد على أهل البيت(عليهم السلام) ونصب العداء لهم؛ فوجب ردّ كلامه هنا جملة وتفصيلاً لثبوت
الحديث بأسانيد صحيحة لا يمكن الطعن بها أو الغمز فيها! فكلام ابن تيمية يخالف وينافي نفس قواعد السلفية مع كونه منهم بل مؤسسهم؛ كما قال الألباني وغيره(1): "يجب الأخذ بالحديث الصحيح ولو كان متنه يعارض المذهب ولا يوافق ما إليه نذهب، وكذا النظر يجب أن يوجّه إلى سنده دون متنه وما إلى ذلك"!
فوجدت نفسي ألتزم أمراً لم يلتزمه أحد غيري ممّن ذكرت! فعزوت ذلك إلى عهدي لنفسي بأن أتجرّد عن التعصّب المذهبي وأن أبحث عن الحقّ وأتّبعه، أينما أراه وعند من أجده، بخلاف ما هم عليه من التزام مذهب معيّن ومعتقد لا يحيدون عنه مهما جاءتهم من أدلة معارضة ومناقضة لما يذهبون إليه، فكانت رؤيتي للحديث من خارج دائرة التقليد الأعمى الذي يلتزمه هؤلاء سلفاً، كعدم الاعتقاد بإمامة عليّ(عليه السلام) مهما ظهرت وقويت أدلتها لمعارضتها ومخالفتها للكثير ممّا التزموه واعتقدوه، كعقيدة عدالة جميع الصحابة، وأفضلية الشيخين وصحّة خلافتهما، وعدم وجود نصّ صحيح على خلافة عليّ(عليه السلام)، وغير ذلك ممّا أجمعت عليه الأمّة بزعمهم!
فرأيتُ نصَّ هذا الحديث واضحاً جليّاً، أمّا هم فإنهم لم ولن يستطيعوا الأخذ به ؛ لأنّهم لا يرون بأنّ مثل هذا الحديث يمكن أن يزلزل ويهدم وينقض هذه الإجماعات وهذه العقائد الراسخات!! أو ينسف المذهب من أساسه! أو يأت على بنيانهم من القواعد! أو يدمّر كلّ شيء بأمر الله! كما وصف تعالى ذلك الدليل الذي طلبه بعض المعاندين استهزاءً ودون جدوى بالإجابة والإيمان والإذعان فقال(عزوجل): {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا
1- كما صرّح بذلك الألباني في غير ما موضع من كتبه.
اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}(1)، فاضطروا إلى ردّه سنداً مرّة، ومتناً أخرى، وتأويلاً ولَياً لعنقه ثالثة، وفهمه بسذاجة وتخبّط وتناقض رابعة!
وهكذا نرى كلامهم في سائر الآيات وأحاديث الخلاف ؛ لأنّ مذهب السنّة قد تأسس على ذلك فلا يمكن لأحدهم أن يحيد عن ذلك أو ينظر في أدلة المخالف بإنصاف وعدم تقليد، وإلاّ فإنّه يُكفَّرُ مرّةً، ويُبدَّعُ أخرى، ويُرمى بالرفض ثالثة، أو يُهاجَم ويُحارب ويُفصل من عمله ويُنحى عن منصبه على أقل التقديرات.
فرأيتُ بأنَّ كلّ من تكلّم في هذا الحديث لم يتكلّم بإنصاف أو حجّة علمية! فقطعت بأنّه لا عذر لي أمام الله تعالى بترك هذا الحديث، أو الأخذ به، بحسب فهم الألباني، أو قول ابن تيمية، أو تفلسف المباركفوري ؛ لأنّهم تناقضوا فيه كثيراً! فتحتّم علي بأن لا ألتزم قول أحد من هؤلاء، خصوصاً وأنّ مذهبي السلفي يُحتِّم عليَّ التزام فهم السلف الصالح! من القرون الخيرية الثلاثة! دون غيرهم من المتأخرين عنهم كهؤلاء.
وبعد ما رأيت جرأة الألباني على ابن تيمية ونكيره الشديد عليه، تشجّعت للبحث في ذلك ــ دون الخوف من مخالفة أحد بعد اليوم ــ ولكن بفهم دقيق ونظر مقبول وتأمّل معقول، يمكنني أن أقابل به ربّي(وتعالى سبحانه) يوم القيامة وأحتجّ به حين أُسأل يومها دون خجل أو وجل أو تردد أو ضعف، فكلّنا يعلم بأنّ الله(وتعالى سبحانه) قد ذمّ تقليد الآباء والكبراء والسادة والأحبار والرهبان دون دليل مقنع معقول معتد به، وقد طالبنا تعالى بالدليل فقال(عزوجل): {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
1- الاحقاف: 24 ــ 25.
صَادِقِينَ}(1)، فجعل ذلك منهاجاً وطريقاً للوصول إلى الحقّ وعدم المؤاخذة وقبول العذر في الدنيا والآخرة دون نكير من أحد أو استهجان.
فرأيت بأنّ الحديث! صحيح كما نصّ عليه الألباني والحاكم والذهبي وغيرهم، فبقي عندي فهم الحديث؛ فرفضت فهم الألباني له وتوّهمه وخلطه فيه بوضوح، حيث عجبت من وقوعه فيه مع سعة علمه وظاهر إنصافه! ولكنني تذكرت عدم عصمته وقول مالك: "كلٌ يؤخذ من قوله ويُرَدُّ إلاّ صاحب هذا القبر(صلى الله عليه وآله)"(2).
وكذلك علمت من خلال استعراضي لأقوالهم واطّلاعي عليها والنظر فيها بأنّ كلامهم متناقض ومتعارض ومتهافت ومضطرب.
وبعبارة أخرى: هو ترقيع واضح لفتق توسع على الراقع، فقطعت بأنّه من عند غير الله ؛ لأنّ الله تعالى تعهّد بأنّ كلامه ودينه لا يحتوي على اختلاف أو تناقض أو فتق فقال عزّ من قائل: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}(3).
شبهة ابن تيمية على الحديث:
رأيت أنّ الألباني قد صحح الحديث ومن ثمّ أحال معناه وفهمه على ابن تيمية، مع أنّ ابن تيمية قد كذّب الحديث وقال بامتناع واستحالة صدوره عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وزعم بأنّ معناه باطل وغير صحيح ولا يستقيم، بل متناقض وغير
1- البقرة: 111، والنمل: 64.
2- البداية والنهاية لابن كثير (14/160) وسير أعلام النبلاء للذهبي (8/93) وأحكام الجنائز للألباني (ص173) وغيرها.
3- النساء: 82.
مفهوم، فلا يمكن صدوره عن خير من نطق بالضاد ومن لا ينطق عن الهوى! فقد قال في منهاج سنّته ما نصّه: "وكذلك قوله: (هو ولي كلّ مؤمن بعدي) كذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بل هو في حياته وبعد مماته ولي كلّ مؤمن وكلّ مؤمن وليه في المحيى والممات، فالولاية التي هي ضدّ العداوة لا تختص بزمان، وأمّا الولاية التي هي الإمارة فيقال فيها والي كلّ مؤمن بعدي، كما يقال في صلاة الجنازة: إذا اجتمع الولي والوالي قدم الوالي في قول الأكثر، وقيل: يقدّم الولي، فقول القائل: (عليّ ولي كلّ مؤمن بعدي، كلام يمتنع نسبته إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فإنّه إن أراد الموالاة لم يحتج أن يقول بعدي، وإن أراد الإمارة كان ينبغي أن يقول وال على كلّ مؤمن"(1) انتهى.
ولكنني لمّا راجعت هذه المسألة في كتب اللغة وجدت بأنّ الصحيح عكس ذلك تماماً! وهو أنّ الولي يصح أن يأتي بمعنى الخليفة ومتولي الأمر والأولى بالتصرّف أيضاً، بخلاف زعم ابن تيمية.
فقد قال الجوهري: "كلّ من ولي أمر شيء فهو وليه"(2).
وقال ابن منظور: "ولي في أسماء الله تعالى الولي هو الناصر، وقيل: المتولّي لأمور العالم والخلائق القائم بها"(3).
ورجّح العيني في عمدة القاري ذلك فقال: "ومن أسماء الله تعالى الوالي وهو مالك الأشياء جميعها المتصرّف فيها، ومن أسمائه الولي: المتولّي لأمور العالم والخلائق القائم بها(4).
وكذلك قال ابن الأثير: في أسماء الله تعالى الولي هو الناصر، وقيل: المتولّي
1- منهاج السنّة لابن تيمية (7/391).
2- الصحاح للجوهري (6/2529).
3- لسان العرب لابن منظور (15/406).
4- عمدة القاري للعيني (8/85).
لأمور العالم والخلائق القائم بها، ومن أسمائه(عزوجل) الوالي وهو مالك الأشياء جميعها المتصرّف فيها، وكأنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي(1).
وهذه النصوص تشير إلى صحّة إطلاق الولي على المتولّي للأمور خلافاً لما زعمه ابن تيمية، وهذا التفريق لطيف ومتين في الردّ عليه وكشف تدليسه وتعمّده استعمال المغالطات، حيث إنّ الأفصح والأبلغ هو عين ما قاله رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فاللغة تصحح بل توجب قول النبيّ(صلى الله عليه وآله) لعليّ(عليه السلام) عند وجود النبيّ(صلى الله عليه وآله) وولايته الفعلية: (أنت ولي كلّ مؤمن بعدي) فاجتماع (ولي مع بعدي) صحيح ومقبول، بل هو أصح من جمع كلمة (والي) مع (بعدي)؛ لاشتراط الفعلية ومباشرة الأمر فعلاً وواقعاً لمن يسمّى والياً كما ذكرنا ذلك عن ابن الأثير في نهايته وغيره، ولذلك اتّفق وتعارف في كلّ زمان على تسمية من يجعله الخليفة أو الملك أو الحاكم خليفة من بعده بمصطلح (ولي العهد) ولم يقل أحد بجواز إطلاق (والي العهد) عليه ناهيك عن وجوبه كما زعمه هذا الناصب الجاهل الضال؛ فسقط كلام ابن تيمية من رأس وتبيّن تدليسه وقلبه للحقائق بالعكس!!
ثمّ إنّ من المعروف عند كلّ أحد، استعمال الولي بمعنى المتولّي للأمر أو الأولى بالأمر؛ كما في قولنا: ولي العهد وولي الأمر وولي الدم وولي المقتول وولي المرأة وولي الطفل، وكلّ ذلك قالوا عنه: إنّه بمعنى الأولى بالتصرّف في ذلك المتعلّق من غيره، ومن ثمّ نصّ ابن الأثير على صحّة هذا الإطلاق فقال: "وكلّ من ولي أمراً أو قام به فهو مولاه ووليه، وكما ذكرناه في حديث وهب من
1- النهاية لابن الأثير (5/226).
قول رسول الله(صلى الله عليه وآله) له في عليّ(عليه السلام): (لا تفعل فإنّه أولى الناس بكم بعدي)"(1) فتأمّل!!
كلام لعمر ينقض زعم ابن تيمية:
بعد كلّ ما قدّمناه من أدلة في معنى الولي؛ نختم بما نصّ عليه عمر بن الخطّاب نفسه من صحّة إطلاق كلمة ولي على الخليفة خلافاً لما زعمه ابن تيمية، فقد روى البخاري قول عمر وفيه: "فتوفى الله نبيّه(صلى الله عليه وآله) فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله... (ثمّ قال عمر): ثمّ توفى الله أبا بكر فقلت: أنا ولي ولي رسول الله"(2).
ومن الواضح جدّاً أنّ عمر قد قصد من الولي هنا الخليفة، وإلاّ لما قال "أنا ولي ولي رسول الله" ؛ لأنّه لا يمكن أن يقصد عمر هنا: أنا محب محب رسول الله أو أنا ناصر ناصر رسول الله(صلى الله عليه وآله) ؛ لأنّه سوف لن يكون للكلام أيّ معنى، وخصوصاً بعد تكراره للفظ الولي وإخباره عن نفسه بأنّه ولي ولي رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فتعيّن بأن يكون قصده ومراده أنا خليفة خليفة رسول الله دون أدنى شك أو شبهة أو ريب ــ خصوصاً مع شهرة تسمية عمر حينئذ بخليفة خليفة رسول الله، حتّى غيّروها إلى أمير المؤمنين لاحقاً ــ فلا نحتاج بعد هذه الرواية الثابتة والصريحة وبعد قول عمر هذا إلى دليلٍ آخر للردّ على زعم ابن تيمية وتكذيبه حينما ادّعى مدلّساً عدم
1- قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/109): رواه الطبراني وفيه دكين ذكره ابن أبي حاتم ولم يضعّفه أحد وبقية رجاله وثّقوا.
2- راجع صحيح البخاري (8/9)، وولي ولي رسول الله معناها خليفة خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله) كما هو معلوم، وقد صرّحت الروايات الكثيرة بقولهم لعمر: يا خليفة خليفة رسول الله، حتّى غيّر ذلك عمر بعد أن أطلقها عليه البعض فاستحسنها عمر وقال: إذا جاء بعدي خليفة فستقولون له: يا خليفة خليفة خليفة رسول الله قولوا: يا أمير المؤمنين!
صحّة وعدم جواز إطلاق كلمة الولي على ولاية الأمر!
فابن تيمية يكذّب الحديث ويردّه ليس من ناحية السند، وإنّما من حيث المتن والمعنى! فهو يدّعي عدم دلالته على معنى صحيح البتة؛ وبالتالي فلا دلالة للحديث عنده، ومع هذا الكلام الواضح والصريح منه يقوم الشيخ الألباني بتصحيح الحديث سنداً ويحيل تفسيره على ابن تيمية ويدّعي تفسيره للموالاة هنا بالمحبة والنصرة التي أنكر انطباقها هنا ابن تيمية لأنّه ردّ الحديث لأجل ذلك، فمع أنّ ابن تيمية لا يرى للحديث معنى صحيحاً نرى أنّ الألباني يحيل فهمه على ابن تيمية ويصفه بأنّه قويّ متين!!
فرأيتُ أنّ من حقّي الطعن على فهم الألباني، وكلام ابن تيمية من قبله، لخلط الأخير وتدليسه وإنكاره للمعنى الصحيح والواضح للحديث، أمّا الألباني فقد غضّ نظره عن كلمة (بعدي) وأهميتها في الحديث والذي جعل ابن تيمية يكذّبه دون النظر أو الطعن في السند، ولكنه لغفلته وسذاجته ــ من باب حسن الظن بهِ ــ أحال فهم معنى الحديث على ابن تيمية الذي قام بتكذيب الحديث لأجل كلمة (بعدي) لعلمه بتأثيرها على المعنى ودّقة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وبلاغته وتعمّده في قولها مع شدّة ما كان يحيط به من ظروف قاهرة، ومعرفته بعدم تقبّل قريش لذلك الأمر ومحاولتهم منعه مهما كلّفهم ذلك ؛ لأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان كلامه فصلاً كما هو معروف لدى الجميع.
النتيجة واحدة مهما كانت الاحتمالات!
بعد كلّ هذا توجّب عليَّ التسليم بمؤدّى هذا الحديث الذي نصّ على أنّ عليّاً(عليه السلام) ولي كلّ مؤمن بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أي: أنّه خليفته والأولى بالتصرّف في شؤون الأمّة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فالحديث يدلّ على خلافة عليّ(عليه السلام) على كلّ الاحتمالات؛ فإنّ قوله(صلى الله عليه وآله): (وهو وليكم بعدي) هنا يحتمل معنيين لا ثالث لهما:
إمّا بمعنى: إنّه بعدي في (المكانة والمنزلة والمحبة)، فيكون عليّ(عليه السلام) أفضل الخلق ورتبته تأتي بعد رتبة ومنزلة ومكانة رسول الله(صلى الله عليه وآله)؛ فيكون الرجل الثاني في الأمّة، ويكون أحقّهم بالمحبة والتقديم والتفضيل من بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله).
وهذا المعنى لا يقول به أهل السنّة ولا يلتزمه أحد منهم، وهو مخالف لعقيدتهم في وجوب تفضيل الثلاثة عليه! وهو مشكل أيضاً لإجماع أهل السنّة على وجوب الاعتقاد بالأفضلية بحسب ترتيب الخلافة وعدم جواز مخالفة ذلك مطلقاً، فإنّه(عليه السلام) ــ بحسب هذا الفرض لمعنى الحديث ــ سوف يكون أولى بالخلافة وأليق بها من الثلاثة؛ لكونهم يرتبون أفضلية الخلفاء والصحابة بحسبها، وهذا يعني بأنّ خلافة عليّ(عليه السلام) حينئذ تلزمهم ؛ لأنّهم يوجبون خلافة الفاضل على المفضول! (1).
أو بمعنى: بعدي (زماناً وظرفاً)، وهذا المعنى أيضاً ينصّ على أولوية الإمام عليّ(عليه السلام) بالناس من أنفسهم وفي تولّي شؤونهم بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) مباشرة وخلافته له تبعاً، فيكون ذلك نصاً على خلافته وإمامته دون أدنى شك؛ فأحلاهما مرّ وكلّ حرفِ جرٍّ يجر!!
فأصبح واضحاً لديّ بعد ذلك، أنّ التعصّب والتلاعب هو الذي تسبب في غمط الحقّ أهله وفهم مثل هذه النصوص بالشكل الذي فهمه ابن تيمية أو الألباني أو المباركفوري أو غيرهم، فلابدّ من الثورة والتمرّد والتحرر من ذلك.
1- فقد استدل عمر بن الخطّاب في السقيفة لخلافة أبي بكر بتقديمه للصلاة بالناس وأسبقيته وهجرته مع النبي(صلى الله عليه وآله)، وكذلك فعل أهل السنّة في كتب العقائد وقولهم المتّفق عليه بتقديم الثلاثة في التفاضل يؤيّد من باب الالتزام هذا القول، إذ إنّ الفهم العرفي سوف يسلّم أنّ الأفضل يجب أن يؤمّر وإلاّ لما ترتبوا هذا الترتيب في الأفضلية، وهذا يعني ضمناً التزامهم بالقول بوجوب تقديم الفاضل، وكذلك فعلوا واعتقدوا في الخلفاء الآخرين وأوجبوه.
حرمةُ التقليد في العقائد
من هنا فقد أملى عليَّ قلبي وعقلي وضميري أنّ أوجّه دعوتي إلى كلّ حرّ يتّبع الحقّ والدليل، ويطلب النجاة والفوز بالجنّة؛ بأن لا يقلّد في عقيدته دون دليل قاطع، فقد حذّر تعالى من اتّباع الظن والهوى فقال عزّ من قائل: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}(1)، ويجب أيضاً أن يراجع أدلة سائر الفرق الأخرى بتجرّد وإنصاف دون التزام موقف مسبق ورثه من دين الآباء، وكذلك عدم التسليم لهذا العالم أو ذاك قبل أن يقتنع قناعة تامّة بقوله، وكذلك عدم التسليم لهم حينما يشك في مخالفة أقوالهم لدلالة الحديث أو لدلالة بعض مفرداته، فإنّنا سوف نقابل علاّم الغيوب المطّلع على السرّ وأخفى، ولات حين مناصٍ ولات حين مندمِ!!
فلنحذر يا إخوتي أشدّ الحذر من تقليد الآباء أو السادة والكبراء حينما يشرّعون لنا غير شرع الله، ويدعوننا إلى غير حكم الله، ويقولون لنا قولاً على غير مراد الله، فإنّ الله تعالى قد حرّم علينا حينئذٍ طاعتهم ولم يقبل منّا التذرّع بقولهم، وسوف لن يمنع العذاب عنّا إن أطعناهم واتّبعناهم وهم بهذا الحال، فقال عزّ من قائل: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ
1- النجم: 23.
الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}(1).
وقد أكدّ الله تعالى على إفراد حجّية قول الرسل المعصومين على الناس دون غيرهم، لئلا يحتجّ أحد من الناس بغير الرسل أو يتعذّر باتّباع قول غير المعصوم على الاستقلال أو طاعته وإن كان قوله بخلاف العقل والمنطق والبرهان، فحذّر تعالى من ذلك قائلاً: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حجّة بَعْدَ الرُّسُلِ}(2)، فأكّد هنا بوضوح بأنّه لا يصح لأحد أن يحتج على الله تعالى يوم الحساب لتبرير ما ذهب إليه بأيّة حجّة غير الرسل(عليهم السلام) وما نصّت على حجيته الرسل، وبالتالي فلا يجوز طاعة أحد من الكبراء أو السادة أو الأحبار أو الرهبان على نحو الاستقلالية في حجّية قوله كما هو الحال مع رسل الله وحججه من أوصيائهم(عليهم السلام)، أمّا الاحتجاج بمثل الصحابة أو أصحاب المذاهب الأربعة أو غيرهم واتّباعهم، فلا يمكن قبول قولهم والاحتجاج به على الله تعالى ؛ لأنّه تعالى لم ينصبهم ولم يأمر رسوله(صلى الله عليه وآله) بنصبهم حجّة على الناس أبداً، خصوصاً مع الوصية بغيرهم وعدم عصمتهم، وكذلك عدم الإشارة إليهم بالاتّباع والالتزام لا من قريب ولا من بعيد!
مع وقوع الاختلاف الكبير فيما بينهم، وكذلك وقوع المخالفات الصريحة والواضحة منهم للنصوص الشرعية كما حصل ذلك في مثل الأمر بالتراويح، والنهي عن المتعتين، والتيمم عند فقد الماء، وإباحة النبيذ أو تناول الخمر من دون إسكار، والنهي عن التحديث بالسنّة وحرقها وحرق المصاحف، وإحداث الأذان الثالث، وإتمام الصلاة في مورد وجوب القصر، وتولية الفسّاق من أمثال يزيد والوليد والحجاج وعبد الله بن أبي سرح على رقاب المسلمين والسكوت عليهم
1- الأحزاب: 66ـ 68.
2- النساء: 165.
وعلى ظلمهم، وجرأتهم على أولياء الله ومدينة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهدم وحرق بيت الله الحرام وإضفاء الشرعية عليهم والدفاع المستميت عنهم، ومن ثمّ تولّي الخوارج والنواصب وتفضيلهم على أتباع أهل البيت(عليهم السلام) ومتوليهم والمتمسّكين بهم بحسب وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله)!
مع أنّ الله تعالى قد أكّد في مقابل ذلك على اختياره لحججه بنفسه ودون خيرة أو إذن أو موافقة من أيّ أحد من العالمين والخلق أجمعين، فقال(عزوجل): {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(1) وقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(2)، دون أن يعبأ بقول ورأي الملائكة الكرام، وطلب ورغبة خليله إبراهيم(عليه السلام) كما دلَّ على ذلك قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(3) فردَّ تعالى على الملائكة وعلى إبراهيم(عليه السلام) مع كمال عقولهم ومقبولية قولهم، ليبيّن للجميع بأنّه هو المتفرّد بالخلق والاختيار والتنصيب والعلم بالأصلح والأفضل والمستحق لهذه المناصب دون غيره مهما كان علمه وسعة عقله وصواب رأيه ورؤيته، فالخالق المختار يكون بكلّ تأكيد أعلم بما خلق وما أودع من إمكانيات في كلّ فرد من جميع خلقه والمصلحة المترتبة على ذلك الاختيار بخلاف اختيار سائر خلقه الفقراء المحدودين بالنسبة إليه تعالى، وقد أكّد تعالى ذلك بقوله: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(4).
وقد أكّد هذه الحقيقة رسول الله(صلى الله عليه وآله) نفسه كما يروي البخاري وغيره حين
1- القصص: 68.
2- البقرة: 30.
3- البقرة: 124.
4- الأنعام: 124.
قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلّما هلك نبي خلفه نبي، وأنّه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأوّل فالأوّل أعطوهم حقّهم فإنّ الله سائلهم عمّا استرعاهم)(1)، وهذا واضح في الإشارة به إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) حينما قال له رسول الله(صلى الله عليه وآله) دون غيره ممّن خلفهم على المدينة وفي آخر غزوة غزاها قبل وفاته(صلى الله عليه وآله): (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي)(2)، فحديث المنزلة فيه نفس قوله(صلى الله عليه وآله) في الحديث الآخر الذي يبيّن كيفية الخلافة في هذه الأمّة وهو قوله(صلى الله عليه وآله): (وأنّه لا نبي بعدي)، وفي هذا الحديث نسب الاسترعاء لله تعالى، وأوصاهم أيضاً بإعطائهم حقّهم وبيعة أَوَّلهِم فأيّ أوّل غير عليٍّ(عليه السلام)؟ وأيّ حقّ غير الخلافة الإلهية؟ وأيّ استرعاء لهم من الله تعالى غير إعطائهم الولاية والأولوية على الناس من بعده؟ خصوصاً مع وجود رواية لحديث المنزلة يرويه ابن أبي عاصم في كتاب السنّة(3)، وحسّنه الألباني بلفظ: (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّك لست نبياً وأنت خليفتي في كلّ مؤمن من بعدي). وفي رواية أخرى ذكرها الألباني في تخريجه وتحقيقه بكتاب السنّة لأبن أبي عاصم (ص552) عن الحاكم (3/132) وصححها ووافقه الذهبي بلفظ: وقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): (أنت وليي في كلّ مؤمن بعدي). فتأمّل جيّداً!!
فوجوب الإيمان بوجود خلفاء لخاتم الأنبياء والمرسلين يكونون أئمة معصومين مختارين من الله تعالى ومنتجبين من بين الخلق أجمعين أمر لابدّ منه على ما قررناه هنا، بدلالة الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والعقل والمنطق وسنّة الله التكوينية والتشريعية في خلقه وشرائعه، بالإضافة إلى أقوال العلماء
1- البخاري (4/144) ومسلم (6/17).
2- البخاري (4/208) و(5/129) ومسلم (7/120).
3- السنّة لابن أبي عاصم (551).
وإجماع الأمّة من وجوب الإمامة وتنصيب إمام على الأمّة يكون خليفةً لرسول الله(صلى الله عليه وآله)، فيحمي الدين ويحقق الحقّ المبين ويطبّق الشرع المتين وينتصف للمظلوم من الظالم اللئيم، مع ترجيح الجميع لكون ذلك الخليفة هو الأفضل أو الأصلح.
ومع كلّ هذه الأدلة ننقل هنا كلمة رائعة للحافظ ابن حجر العسقلاني في تقرير ما قلناه عند كلامه عن نزول عيسى(عليه السلام) وصلاته واقتدائه بإمام المسلمين الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر(عجل الله تعال? فرجه الشر?ف) فقال: "وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمّة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال أنّ الأرض لا تخلو عن قائم لله بحجة، والله أعلم"(1).
خلاصة الكلام في هذا المقام:
فنتيجة القول بعدم جواز التقليد في العقيدة؛ عدم جواز اتّباع وتقليد أحد مهما كان من دون حجّة قاطعة ودليل على حجّية قوله أو نصّ شرعي على وجوب اتّباعه، بخلاف ما ثبت لأهل البيت(عليهم السلام) من خصوصية وأهمية وتفضيل كآية التطهير وحديث الثقلين، وخصوصية عليّ(عليه السلام) التي نطق بها ابن عباس حبر الأمّة وترجمان القرآن حين قال: "إذا أتانا الثبت عن عليّ لم نعدل به"(2)، فمن
1- فتح الباري (6/358).
2- الاستيعاب (3/1104)، والإصابة (4/467)، وعند ابن الأثير عن ابن عباس أيضاً قال: إن ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل عنه إلى غيره.
فائدة مهمّة: وهذا الكلام واضح في إثبات وبيان خصوصية وحجّية وتميّز لقول الإمام علي(عليه الس