إن الإمام ( عليه السلام ) شرع بالرواية عن جده وآبائه عندما اندفع المسلمون إلى تدوين أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد الغفلة التي استمرت إلى عام 143 هـ ( 2 ) حيث اختلط آنذاك الحديث الصحيح بالضعيف وتسربت إلى السنة ، العديد من الروايات الإسرائيلية والموضوعة من قبل أعداء الإسلام من الصليبيين والمجوس ، بالإضافة إلى المختلقات والمجعولات على يد علماء السلطة ومرتزقة البلاط الأموي .
ومن هنا فقد وجد الإمام ( عليه السلام ) أن أمر السنة النبوية قد بدأ يأخذ اتجاهات خطيرة وانحرافات واضحة ، فعمد ( عليه السلام ) للتصدي لهذه الظاهرة الخطيرة ، وتفنيد الآراء الدخيلة على الإسلام والتي تسرب الكثير منها نتيجة الاحتكاك الفكري والعقائدي بين المسلمين وغيرهم .
إن تلك الفترة كونت تحديا خطيرا لوجود السنة النبوية ، وخلطا فاضحا في
( 1 ) الإرشاد : 270 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 257 .
( 2 ) تاريخ الخلفاء للسيوطي - خلافة المنصور الدوانيقي ، فقد حدد تاريخ التدوين بسنة 143 ه . ( * )
كثير من المعتقدات ، لذا فإن الإمام ( عليه السلام ) كان بحق سفينة النجاة من هذا المعترك العسر .
إن علوم أهل البيت ( عليهم السلام ) متوارثة عن جدهم المصطفى محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، الذي أخذها عن الله تعالى بواسطة الأمين جبرئيل ( عليه السلام ) ، فلا غرو أن تجد الأمة ضالتها فيهم ( عليهم السلام ) ، وتجد مرفأ الأمان في هذه اللجج العظيمة ، ففي ذلك الوقت حيث أخذ كل يحدث عن مجاهيل ونكرات ورموز ضعيفة ومطعونة ، أو أسانيد مشوشة ، تجد أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) يقول : " حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب ، وحديث علي حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وحديث رسول الله قول الله عز وجل " .
بيد أن ما يثير العجب أن تجد من يعرض عن دوحة النبوة إلى رجال قد كانوا وبالا على الإسلام وأهله ، وتلك وصمة عار وتقصير لا عذر فيه خصوصا في صحيح البخاري .
فالإمام البخاري مثلا يروي ويحتج بمثل مروان بن الحكم ، وعمران بن حطان وحريز بن عثمان الرحبي وغيرهم ، ويعرض عن الرواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ! ! أما الأول : فهو الوزغ بن الوزغ ، اللعين بن اللعين على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأما الثاني : فهو الخارجي المعروف الذي أثني على ابن ملجم بشعره لا بشعوره ، وأما الثالث : فكان ينتقص عليا وينال منه ، ولست أدري لم هذا الأمر ؟ إنه مجرد تساؤل .
إن للإمام الصادق وراء ما نشر عنه من الأحاديث في الأحكام التي تتجاوز عشرات الآلاف ، مناظرات مع الزنادقة والملحدين في عصره ، والمتقشفين من الصوفية ، ضبط المحققون كثيرا منها ، وهي في حد ذاتها ثروة علمية تركها الإمام ( عليه السلام ) ، وأما الرواية عنه في الأحكام فقد روى عنه أبان بن تغلب ثلاثين ألف حديث
حتى أن الحسن بن علي الوشاء قال : أدركت في هذا المسجد ( مسجد الكوفة ) تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد ( 1 ) .
وأما ما أثر عنه من المعارف والعقائد فحدث عنها ولا حرج ، ولا يسعنا نقل حتى القليل منها ، ومن أراد فليرجع إلى مظانها ( 2 ) .
يقول " سيد أمير علي " بعد النقاش حول الفرق المذهبية والفلسفية في عصر الإمام : " ولم تتخذ الآراء الدينية اتجاها فلسفيا إلا عند الفاطميين ، ذلك أن انتشار العلم في ذلك الحين أطلق روح البحث والاستقصاء ، وأصبحت المناقشات الفلسفية عامة في كل مجتمع من المجتمعات ، والجدير بالذكر أن زعامة تلك الحركة الفكرية إنما وجدت في تلك المدرسة التي ازدهرت في المدينة ، والتي أسسها حفيد علي بن أبي طالب المسمى بالإمام جعفر والملقب بالصادق ، وكان رجلا بحاثة ومفكرا كبيرا جيد الإلمام بعلوم ذلك العصر ، ويعتبر أول من أسس المدارس الفلسفية الرئيسية في الإسلام .
ولم يكن يحضر محاضراته أولئك الذين أسسوا فيما بعد المذاهب الفقهية فحسب ( 3 ) بل كان يحضرها الفلاسفة وطلاب الفلسفة من الأنحاء القصية ، وكان الإمام " الحسن البصري " مؤسس المدرسة الفلسفية في مدينة البصرة ، وواصل بن عطاء مؤسس مذهب المعتزلة من تلاميذه ، الذين نهلوا من معين علمه الفياض وقد عرف واصل والإمام العلوي بدعوتهما إلى حرية إرادة الإنسان . . . ( 4 ) .
( 1 ) الرجال للنجاشي : 139 برقم 79 .
( 2 ) الإحتجاج 2 : 69 - 155 ، التوحيد للصدوق ، وقد بسطها على أبواب مختلفة .
( 3 ) كأبي حنيفة ومالك .
( 4 ) مختصر تاريخ العرب ، تعريب : عفيف البعلبكي : 193 . ( * )
وأما حكمه وقصار كلمه ، فلاحظ تحف العقول ، وأما رسائله فكثيرة منها رسالته إلى النجاشي والي الأهواز ، ومنها : رسالته في شرائع الدين نقلها الصدوق في الخصال ، ومنها : ما أملاه في التوحيد للمفضل بن عمر ، إلى غير ذلك من الرسائل التي رسمها بخطه ( 1 ) .
نتف من أقواله ونقتطف من وصاياه وكلماته الغزيرة وصية واحدة وهي وصيته لسفيان الثوري : " الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وترك حديث لم تروه ( 2 ) ، أفضل من روايتك حديثا لم تحصه " . " إن على كل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فدعوه " ( 3 ) .
من أقوال العلماء المحدثين فيه ( عليه السلام ) ونختم هذا البحث بما قاله أبو زهرة في هذا المجال : إن للإمام الصادق فضل السبق ، وله على الأكابر فضل خاص ، فقد كان أبو حنيفة يروي عنه ، ويراه أعلم الناس باختلاف الناس ، وأوسع الفقهاء إحاطة ، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارسا راويا ، وكان له فضل الأستاذية على
( 1 ) ولقد جمع أسماء هذه الرسائل السيد الأمين في أعيانه 1 : 668 .
( 2 ) أي لم تروه عن طريق صحيح ، والفعل مبني للمجهول .
( 3 ) اليعقوبي ، التاريخ 3 : 115 . ( * )
أبي حنيفة فحسبه ذلك فضلا . وهو فوق هذا حفيد علي زين العابدين الذي كان سيد أهل المدينة في عصره فضلا وشرفا ودينا وعلما ، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزهري ، وكثير من التابعين ، وهو ابن محمد الباقر الذي بقر العلم ووصل إلى لبابه ، فهو ممن جعل الله له الشرف الذاتي والشرف الإضافي بكريم النسب ، والقرابة الهاشمية ، والعترة المحمدية ( 1 ) .
وبما كتبه الأستاذ أسد حيدر إذ قال : كان يؤم مدرسته طلاب العلم ورواة الحديث من الأقطار النائية ، لرفع الرقابة وعدم الحذر فأرسلت الكوفة ، والبصرة ، وواسط ، والحجاز إلى جعفر بن محمد أفلاذ أكبادها ، ومن كل قبيلة من بني أسد ، ومخارق ، وطي ، وسليم ، وغطفان ، وغفار ، والأزد ، وخزاعة ، وخثعم ، ومخزوم ، وبني ضبة ، ومن قريش ، ولا سيما بني الحارث بن عبد المطلب ، وبني الحسن بن الحسن بن علي ( 2 ) .
وفاته : ولما توفي الإمام شيعه عامة الناس في المدينة ، وحمل إلى البقيع ، ودفن في جوار أبيه وجده ( عليهما السلام ) ، وقد أنشد فيه أبو هريرة العجلي قوله :
أقول وقد راحوا به يحملونه * على كاهل من حامليه وعاتق
أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى * ثبيرا ثوى من رأس علياء شاهق
غداة حثا ، الحاثون فوق ضريحه * ترابا وأولى كان فوق المفارق
فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا .
( 1 ) محمد أبو زهرة ، الإمام الصادق : 30 .
( 2 ) أسد حيدر ، الإمام الصادق 1 : 38 نقلا عن كتاب جعفر بن محمد ، لسيد الأهل . ( * )