روى ابن عساكر قال : رجلٌ له صحبة كان عند يزيد بن معاوية حين أتي برأس الحسين بن علي (عليه السّلام) إن لم يكن أبا برزة الأسلمي أو زيد بن أرقم فهو(1) غيرهما(2) , أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عبد الواحد ، أنا شجاع بن علي ، أنا أبو عبد الله بن مندة ، أنا خيثمة بن سليمان ، نا الفضل بن يوسف ، نا سعيد بن عثمان الجزاز ، نا عمرو بن شمر ، عن محمّد بن سوقة ، عن عبد الواحد القرشي ، قال : لمَّا أتي يزيد بن معاوية برأس الحسين بن علي (عليه السّلام) تناوله بقضيب ، فكشف عن ثناياه ، فوالله ما البرد بأبيض من ثناياه ، ثمّ أنشأ يقول :: يفلقن هاماً من رجال أعزّةٍ علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
فقال له رجلٌ عنده : يا هذا , ارفع قضيبك ، فوالله لربما رأيتُ شفتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مكانه يقبّله . فرفعه متذمّراً عليه فغضب(3) .
(1) وقد نقل الخوارزمي في مقتله 2 / 64 ـ كما يأتي ـ : أن هذا المُعترِض هو سمرة بن جندب صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
(2) وهذا يدفع قول ابن تيمية الذي أخذ على نفسه الدفاع عن ملعون فاسق مثل يزيد بن معاوية حتّى أخذ يُبرّئه من نكث رأس الحسين (عليه السّلام) ، وقد استدلّ برواية ذُكرت عن أنس وأبي برزة الأسلمي ، وهما في الكوفة ، والدليل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من اعتراض أنس على ابن زياد حينما نكت رأس الحسين (عليه السّلام) .
وأقول : وهذا الدليل باطل عاطل ؛ لأنّ أكثر ما يثبته هو أنّ أنس كان في الكوفة ، أمّا أنّه لم يخرج ويذهب إلى الشام فهذا لا يدلُّ عليه ؛ خصوصاً مع كونهم طافوا بحرم الحسين (عليه السّلام) , بنسائه (عليه السّلام) البلدان , فالمدّة طويلة .
والشيء الآخر إنّا لو سلّمنا دلالتها فهي تدلّ على وجود أنس في الكوفة ، وأمّا أبو برزة فهي لا تدلّ على وجوده في الكوفة لا من قريب ولا من بعيد ، بل وحتّى لو سلّمنا أنّ أنس وأبا برزة في الكوفة فهذا أيضاً لا ينفي ما فعله يزيد بن معاوية ؛ لكون المُعترِض عليه رجلٌ آخَر كما ذكره ابن عساكر وابن الأثير والخوارزمي ، وبعد مراجعة كلام المؤرّخين والمحدّثين لا ينكر ما فعله يزيد برأس الحسين (عليه السّلام) إلاّ مكابر .
(3) تاريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر 68 / 95 .
قال مؤلّف الكتاب (ابن الجوزي) : ولمَّا جلس يزيد وضع الرأس بين يديه وجعل ينكث بالقضيب على فِيه ويقول :
يفّلقنَ هاماً من رجال أعزّةٍ علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
فقال أبو برزة , وكان حاضراً : ارفع قضيبك ، فوالله لرأيت فاه رسول الله على فِيه يلثمه(1) .
روى ابن الجوزي قال : أنبأنا علي بن عبيد الله بن الزغواني ، قال : أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة ، عن أبي المرزباني ، قال : أخبرنا محمّد بن أحمد الكاتب ، قال : أخبرنا عبد الله بن أبي سعد ، قال : حدثنا محمّد بن أحمد ، قال : حدثنا محمّد بن يحيى الأحمري ، قال : حدثنا ليث ، عن (مجاهد)(2) قال : جيء برأس الحسين بن علي (عليه السّلام) فوضع بين يدي يزيد بن معاوية ، فتمثَّل بهذين البيتين يقول :
لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا جزعَ الخزرجِ من وقعِ الأسلْ
فـأهـلّوا واسـتهلّوا فـرحا ثـم قـالوا لي بغيب لا تشلْ
قال مجاهد : نافق فيها ، ثمّ والله ما بقي من عسكره أحدٌ إلاّ تركه(3) .
روى ابن الأثير قال : روى محمّد بن سوقة ، عن عبد الواحد القرشي ، قال : لمَّا أتى يزيد برأس الحسين بن علي (رضي الله عنهما) تناوله بقضيب فكشف عن ثناياه ، فوالله ما البرد بأبيض منها ، وأنشد :
(1) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ـ ابن الجوزي 5 / 342 .
(2) كما في البداية والنهاية لابن كثير 8 / 192 .
(3) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ـ ابن الجوزي 5 / 343 .
يفلّقن هاماً من رجالٍ أعزّةٍ علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
فقال له رجلٌ عنده : يا هذا , ارفع قضيبك ، فوالله ربما رأيتُ شفتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فكأنّه يقبّله . فرفع متذمّراً عليه مغضباً . أخرجه أبو نعيم(1) .
وروى الطبري قال : وأوفده إلى يزيد بن معاوية ومعه الرأس ، فوضع رأسه بين يديه ، وعنده أبو برزة الأسلمي , فجعل ينكت بالقضيب على فيه ويقول :
يفلّقن هاماً من رجالٍ أعزّةٍ علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
فقال له أبو برزة : ارفع قضيبك ، فوالله لربَّما رأيتُ فاه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله) على فيه يلثمه(2) .
قال ابن كثير ، وابن الجوزي ـ واللفظ للأوّل ـ : لمَّا وضع رأس الحسين (عليه السّلام) بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينكت بقضيب ـ كان في يده ـ في ثغره ، ثمّ قال : إنّ هذا وإيّانا كما قال الحصين بن الحمام المري :
يفلّقن هاماً من رجالٍ أعزّةٍ علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
فقال له أبو برزة الأسلمي : أمَا والله لقد أخذ قضيبك هذا مأخذاً ، لقد رأيتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشفه . ثمّ قال : ألا إنّ هذا سيجيء يوم القيامة وشفيعه محمّد ، وتجيء وشفيعك ابن زياد . ثمّ قال : فولّى(3) .
(1) أسد الغابة ـ ابن الأثير 5 / 381 ، وفي ط / 283 .
(2) تاريخ الطبري 3/ 298 ، تهذيب الكمال ـ المزي 6 / 428 .
(3) أنساب الأشراف ـ البلاذري3 / 417 قال : قالوا : وجعل يزيد ينكث بالقضيب ثغر الحسين ، ووضع رأسه بين يديه ، فقال أبو برزة الأسلمي : أتنكت ثغر الحسين ! لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً ربما رأيتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشفه . أمّا أنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وشفيعك ابن زياد ، ويجيء الحسين (عليه السّلام) وشفيعه محمّد (صلّى الله عليه وآله) . ثمّ قام . ويقال : إنّ القائل رجلٌ من الأنصار .
وقد رواه ابن أبي الدنيا ، عن أبي الوليد ، عن خالد بن يزيد بن أسد ، عن عمار الدهني ، عن جعفر ، قال : لمَّا وضع رأس الحسين (عليه السّلام) بين يدي يزيد ، وعنده أبو برزة , وجعل ينكت بالقضيب ، فقال له : ارفع قضيبك ، فلقد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يلثمه(1) .
ويأتي ما فعله يزيد بن معاوية برأس الإمام الحسين (عليه السّلام) في الفصل المتعلّق بالرأس الشريف .
روى الخوارزمي قال : ثمّ أُتي بالرأس حتّى وضِع بين يدي يزيد في طستٍ من ذهب ، فنظر إليه وأنشد :
يفلّقن هاماً من رجالٍ أعزّةٍ علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
ثمّ أقبل على أهل المجلس وقال : إنّ هذا كان يفخر عليَّ ويقول : إنّ أبي خيرٌ من أبي يزيد(2) ، واُمِّي خيرٌ من اُمِّ يزيد ، وجدِّي خيرٌ من جدِّ يزيد ، فهذا هو الذي قتله .
فأمّا قوله : بأنّ أباه خيرٌ من أبي ، فلقد حاجّ أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه ؛ وأمّا قوله : بأنَّ اُمِّي خيرٌ من اُمِّ يزيد ، فلعمري لقد صدق إنّ فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خيرٌ من اُمِّي ؛ وأمّا قوله : بأنّ جدَّه خيرٌ من جدِّي ، فليس لأحد
(1) البداية والنهاية ـ ابن كثير 8 / 209 ، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ـ ابن الجوزي 5 / 341 بإيجاز .
(2) وفي المطبوع : (أب يزيد) , والظاهر ما أثبتناه .
يؤمن بالله واليوم الأخر أن يقول : بأنّه خيرٌ من محمّد(*) ؛ وأمّا قوله : بأنّه خيرٌ منّي ، فلعلّه لم يقرأ(*)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(1)
ثمّ دعا بقضيب خيزران فجعل ينكت به ثنايا الحسين (عليه السّلام) وهو يقول : لقد كان أبو عبد الله حسن المضحك . فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي ، أو غيره من الصحابة ، وقال له : ويحك يا يزيد ! أتنكت بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة (عليه السّلام) ؟! لقد أخذ قضيبك هذا مأخذاً من ثغره ؛ أشهد لقد رأيتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن (عليه السّلام) ويقول : (( إنّهما سيِّدا شباب أهل الجنّة ، وقَتَلَ اللهُ قاتلَهما ولعنَه ، وأعدَّ له جهنّم
(*) أقول : صحيح إنّ الذي يؤمن بالله لا يقول مثل هذا ، ولكن مَن لا يؤمن بالله واليوم الآخر ـ مثل الملحد والمجوسي ـ فإنّه يقول هذا وغيره ، ويزيد بن معاوية لا يؤمن بهذا ؛ لاشتهار كفره ، ومن شواهده قوله : ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا . . . . وفعل ما فعل بالعترة الطاهرة .
وسيذكر الخوارزمي بعد هذا بسندٍ متصل تصريح يزيد بهذه الأبيات الدالّة على الأقل على كفره الباطني وهو النفاق ، وإلاّ لا يوجد مؤمنٌ بالله ورسوله يشكّ في كفر يزيد بن معاوية بعد معرفة حاله . . . كما سيأتي بعض ذلك في ترجمته من الفصل السادس .
(*) أقول : لعلّ بعض النواصب يتمسّك بهذه الآية ليزيد بن معاوية , فحقٌ له أن يتمسّك بها على براءة السارق والغاصب من الناس حقوقهم ؛ وذلك لأنّه مُلكٌ آتاه اللهُ إيّاه ! وما هذا إلاّ من سخف العقول التي ابتعدت عن الحق و استولى عليها الشيطان ؛ إذ المُلك الذي يؤتيه اللهُ مَن يشاء هو ما كان بحقِّ ، لا ـ والعياذ بالله ـ بطريق الباطل . راجع ما أذكره في ترجمته من كيفية بيعته التي أخذها له أبوه معاوية ، وتصريح بعض علماء الخلاف بهذا في تصويب ثورة الحسين (عليه السّلام) من الفصل السادس .
(1) سورة عمران / 26
الا ان نواصب العصر في الدرك الاسفل من النار بما صنعوا بابن بنت رسول الله