إن الإمام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرف ، ولقد قام لفيف من السنة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته ، ومناقبه ، وفضائله ، وجهاده ، وعلومه ، وخطبه ، وقصار كلماته ، وسياسته ، وحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين ، فالأولى لنا الاكتفاء بالميسور في هذا المجال ، وإحالة القارئ إلى تلك الموسوعات ، بيد أننا نكتفي هنا بذكر أوصافه الواردة في السنة فنقول :
هو أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وقائد الغر المحجلين ، وخاتم الوصيين ، وأول القوم إيمانا ، وأوفاهم بعهد الله ، وأعظمهم مزية ، وأقومهم بأمر الله ، وأعلمهم بالقضية ، وراية الهدى ، ومنار الإيمان ، وباب الحكمة ، والممسوس في ذات الله ، خليفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، الهاشمي ، وليد الكعبة المشرفة ، ومطهرها من كل صنم ووثن ، الشهيد في البيت الإلهي ( مسجد الكوفة ) في محرابه حال الصلاة سنة 40 ه . وكل جملة من هذه الجمل ، وعبارة من هذه العبارات ، كلمة قدسية نبوية أخرجها الحفاظ من أهل السنة ( 1 ) .
( 1 ) راجع مسند أحمد 1 : 331 و 5 : 182 - 189 ، حلية الأولياء 1 : 62 - 68 ، الغدير 2 : 33 . ( * )
مكونات الشخصية الإنسانية
تعود شخصية كل إنسان - حسب ما يرى علماء النفس - إلى ثلاثة عوامل هامة لكل منها نصيب وافر في تكوين الشخصية وأثر عميق في بناء كيانها . وكأن الشخصية الإنسانية لدى كل إنسان أشبه بمثلث يتألف من اتصال هذه الأضلاع الثلاثة بعضها ببعض ، وهذه العوامل الثلاثة هي :
1 - الوراثة .
2 - التعليم والثقافة .
3 - البيئة والمحيط .
إن كل ما يتصف به المرء من صفات حسنة أو قبيحة ، عالية أو وضيعة تنتقل إلى الإنسان عبر هذه القنوات الثلاث ، وتنمو فيه من خلال هذه الطرق .
وإن الأبناء لا يرثون منا المال والثروة والأوصاف الظاهرية فقط كملامح الوجه ولون العيون وكيفيات الجسم ، بل يرثون كل ما يتمتع به الآباء من خصائص روحية وصفات أخلاقية عن طريق الوراثة كذلك . فالأبوان - بانفصال جزئي " الحويمن " و " البويضة " المكونين للطفل منهما - إنما ينقلان - في الحقيقة - صفاتهما ملخصة إلى الخلية الأولى المكونة من ذينك الجزأين ، تلك الخلية الجنينية التي تنمو مع ما تحمل من الصفات والخصوصيات الموروثة .
ويشكل تأثير الثقافة والمحيط ، الضلعين الآخرين في مثلث الشخصية الإنسانية ، فإن لهذين الأمرين أثرا مهما وعميقا في تنمية السجايا الرفيعة المودعة في باطن كل إنسان بصورة فطرية جبلية أو الموجودة في كيانه بسبب الوراثة من الأبوين .
فإن في مقدور كل معلم أن يرسم مصير الطفل ومستقبله من خلال ما يلقي إليه من تعليمات وتوصيات وما يعطيه من سيرة وسلوك ومن آراء وأفكار ، فكم من بيئة حولت أفرادا صالحين إلى فاسدين ، أو فاسدين إلى صالحين .
وإن تأثير هذين العاملين المهمين من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى المزيد من البيان والتوضيح . على أننا يجب أن لا ننسى دور إرادة الإنسان نفسه وراء هذه العوامل الثلاثة . مكونات شخصية الإمام علي ( عليه السلام ) لم يكن الإمام علي ( عليه السلام ) بصفته بشرا بمستثنى من هذه القاعدة ، فقد ورث الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جانبا كبيرا من شخصيته النفسية والروحية والأخلاقية من هذه العوامل والطرق الثلاثة ، وإليك تفصيل ذلك :
1 - الإمام علي ( عليه السلام ) والوراثة من الأبوين :
لقد انحدر الإمام علي من صلب والد عظيم الشأن ، رفيع الشخصية هو أبو طالب ، ولقد كان أبو طالب زعيم مكة ، وسيد البطحاء ، ورئيس بني هاشم ، وهو إلى جانب ذلك ، كان معروفا بالسماحة والبذل والجود والعطاء والعطف والمحبة والفداء والتضحية في سبيل الهدف المقدس ، والعقيدة التوحيدية المباركة .
فهو الذي تكفل رسول الله منذ توفي جده وكفيله الأول عبد المطلب وهو آنذاك في الثامنة من عمره ، وتولى العناية به والقيام بشؤونه ، وحفظه وحراسته في السفر والحضر ، بإخلاص كبير واندفاع وحرص لا نظير لهما ، بل وبقي يدافع عن رسالة التوحيد ، والدين الحق الذي جاء به النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله ) ويقوم في سبيل إرساء قواعده ونشر تعاليمه بكل تضحية وفداء ، ويتحمل لتحقيق هذه الأهداف العليا كل تعب
ونصب وعناء .
وقد انعكست هذه الحقيقة وتجلى موقفه هذا في كثير من أشعاره وأبياته المجموعة في ديوانه بصورة كاملة مثل قوله :
ليعلم خيار الناس أن محمدا * نبي كموسى والمسيح ابن مريم
وقوله :
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * رسولا كموسى خط في أول الكتب ( 1 )
إن من المستحيل أن تصدر أمثال هذه التضحيات التي كان أبرزها محاصرة بني هاشم جميعا في الشعب ، ومقاطعتهم القاسية ، من دافع غير الإيمان العميق بالهدف والشغف الكبير بالمعنوية ، الذي كان يتصف به أبو طالب ، إذ لا تستطيع مجرد الوشائج العشائرية ، وروابط القربى ، أن توجد في الإنسان مثل هذه الروح التضحوية .
إن الدلائل على إيمان أبي طالب بدين ابن أخيه تبلغ من الوفرة والكثرة بحيث استقطبت اهتمام كل المحققين المنصفين والمحايدين ، ولكن بعض المتعصبين توقف في إيمان تلك الشخصية المتفانية العظيمة ، بالدعوة المحمدية ، بينما تجاوز فريق هذا الحد إلى ما هو أبعد من ذلك ، حيث قالوا بأنه مات غير مؤمن . ولو صحت عشر هذه الدلائل الدالة على إيمان أبي طالب الثابتة في كتب التاريخ والحديث في حق رجل آخر لما شك أحد في إيمانه فضلا عن إسلامه ، ولكن لا يعلم الإنسان لماذا لا تستطيع كل هذه الأدلة إقناع هذه الزمرة ، وإنارة الحقيقة لهم ؟ !
( 1 ) مجمع البيان 4 : 37 . ( * )
هذا عن والد الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
وأما أمه فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي من السابقات إلى الإسلام والإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد كانت قبل ذلك تتبع ملة إبراهيم .
إنها المرأة الطاهرة التي لجأت - عند المخاض - إلى المسجد الحرام ، وألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول : " يا رب إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم وإنه بنى البيت العتيق ، فبحق الذي بنى هذا البيت و ( بحق ) المولود الذي في بطني إلا ما يسرت علي ولادتي " . فدخلت فاطمة بنت أسد الكعبة ووضعت عليا هناك ( 1 ) .
تلك فضيلة نقلها قاطبة المؤرخين والمحدثين الشيعة ، وكذا علماء الأنساب في مصنفاتهم ، كما نقلها ثلة كبيرة من علماء السنة وصرحوا بها في كتبهم ، واعتبروها حادثة فريدة ، وواقعة عظيمة لم يسبق لها مثيل ( 2 ) .
وقال الحاكم النيسابوري : وقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة ( 3 ) .
وقال شهاب الدين أبو الثناء السيد محمود الآلوسي : " وكون الأمير كرم الله وجهه ، ولد في البيت ، أمر مشهور في الدنيا ولم يشتهر وضع غيره كرم الله وجهه ، كما اشتهر وضعه " ( 4 ) .
( 1 ) كشف الغمة 1 : 60 .
( 2 ) مروج الذهب 2 : 349 ، شرح الشفاء للقاضي عياض 1 : 151 وغيرهما ، وقد أفرد العلامة الأردوبادي رسالة في هذه المنقبة وسماها : علي وليد الكعبة .
( 3 ) شرح عينية عبد الباقي العمري : 15 .
( 4 ) الغدير 6 : 22 . ( * )