3 - البيئة الرسالية وشخصية الإمام :
ولو أضفنا ذينك الأمرين ( أي ما اكتسبه من والديه الطاهرين بالوراثة ، وما تلقاه في حجر النبي ) إلى ما أخذه من بيئة الرسالة والإسلام من أفكار وآراء رفيعة ، وتأثر عنها أدركنا عظمة الشخصية العلوية من هذا الجانب .
ومن هنا يحظى الإمام علي ( عليه السلام ) بمكانة مرموقة لدى الجميع ، مسلمين وغير مسلمين ، لما كان يتمتع به من شخصية سامقة ، وخصوصيات خاصة يتميز بها .
وهذا هو ما دفع بالبعيد والقريب إلى أن يصف عليا بما لم يوصف به أحد من البشر ، ويخصه بنعوت ، حرم منها غيره ، فهذا الدكتور شبلي شميل المتوفى سنة 1335 هـ / 1917 م وهو من كبار الماديين في القرن الحاضر يقول : الإمام علي بن أبي طالب عظيم العظماء نسخة مفردة لم ير لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لا قديما ولا حديثا ( 2 ) .
قال عمر بن الخطاب : " عقمت النساء أن يلدن مثل علي بن أبي طالب " ( 3 ) .
ويقول جورج جرداق الكاتب المسيحي اللبناني المعروف : " وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كل زمن عليا بعقله وقلبه
( 2 ) الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 1 : 37 .
( 3 ) الغدير 6 : 38 ط النجف . ( * )
ولسانه وذي فقاره " ( 1 ) .
هذه الأبعاد التي ألمحنا إليها هي الأبعاد الطبيعية للشخصية العلوية .
البعد المعنوي لشخصية الإمام ( عليه السلام ) :
غير أن أبعاد شخصية الإمام علي ( عليه السلام ) لا تنحصر في هذه الأبعاد الثلاثة ، فإن لأولياء الله سبحانه بعدا رابعا ، داخلا في هوية ذاتهم ، وحقيقة شخصيتهم ، وهذا البعد هو الذي ميزهم عن سائر الشخصيات وأضفى عليهم بريقا خاصا ولمعانا عظيما .
وهذا البعد هو البعد المعنوي الذي ميز هذه الصفوة عن الناس ، وجعلهم نخبة ممتازة وثلة مختارة من بين الناس ، وهو كونهم رسل الله وأنبياءه ، أو خلفاءه وأوصياء أنبيائه .
نرى أنه سبحانه يأمر رسوله أن يصف نفسه بقوله : " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " ( 2 ) .
فقوله : " بشرا " إشارة إلى الأبعاد البشرية الموجودة في كل إنسان طبيعي ، وإن كانوا يختلفون فيها فيما بينهم كمالا ولمعانا .
وقوله : " رسولا " إشارة إلى ذلك البعد المعنوي الذي ميزه ( صلى الله عليه وآله ) عن الناس وجعله معلما وقدوة للبشر ، فلأجل ذلك يقف المرء في تحديد الشخصيات الإلهية على شخصية مركبة من بعدين : طبيعي وإلهي ولا يقدر على توصيفها إلا بنفس ما وصفهم به الله سبحانه مثل قوله في شأن الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ
( 1 ) الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 1 : 49 .
( 2 ) الإسراء : 93 . ( * )
فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } ( 1 ) وقد نزلت في حق الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) آيات ، ووردت روايات . كيف وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) " ( 2 ) .
وقال ( صلى الله عليه وآله ) : " من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي فليوال عليا بعدي ، وليوال وليه ، وليقتد بالأئمة من بعدي ، فإنهم عترتي خلقوا من طينتي ، رزقوا فهما وعلما ، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي " ( 3 ) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي ( رض ) ( 4 ) .
وقال الإمام الفخر الرازي : من اتخذ عليا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه ( 5 ) .
وقال أيضا : من اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى لقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم أدر الحق مع علي حيث دار ( 6 ) .
( 1 ) الأعراف : 57 .
( 2 ) أخرجه الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخه 4 : 410 .
( 3 ) أخرجه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء 1 : 86 .
( 4 ) مناقب أحمد لابن الجوزي الحنبلي : 163 .
( 5 ) تفسير مفاتيح الغيب 1 : 205 .
( 6 ) المصدر نفسه : 204 . ( * )
تسليط الضوء على شخصيته السامية :
لا عتب على اليراع لو وقف عند تحديد شخصية كريمة معنوية خصها الله تعالى بمواهب وفضائل ، وكفى في ذلك ما رواه طارق بن شهاب ، قال : كنت عند عبد الله ابن عباس فجاء أناس من أبناء المهاجرين فقالوا له : يا بن عباس أي رجل كان علي بن أبي طالب ؟ قال : ملئ جوفه حكما وعلما وبأسا ونجدة وقرابة من رسول الله ( 1 ) .
روى عكرمة عن ابن عباس قال : ما نزل في القرآن : " يا أيها الذين آمنوا " إلا وعلي ( عليه السلام ) رأسها وأميرها ، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان ، وما ذكر عليا إلا بخير ( 2 ) .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما نزل في أحد من كتاب الله ما نزل في علي ( 3 ) . وقال ابن عباس : نزلت في علي أكثر من ثلاثمائة آية في مدحه ( 4 ) .
نكتفي في ترجمة علي ( عليه السلام ) بكلمتين عن تلميذيه اللذين كانا معه سرا وجهرا .
1 - قال ابن عباس - عندما سئل عن علي - : رحمة الله على أبي الحسن ، كان والله علم الهدى ، وكهف التقى ، وطود النهى ، ومحل الحجى ، وغيث الندى ، ومنتهى العلم للورى ، ونورا أسفر في الدجى ، وداعيا إلى المحجة العظمى ، ومستمسكا بالعروة الوثقى ، أتقى من تقمص وارتدى ، وأكرم من شهد النجوى بعد محمد المصطفى ، وصاحب القبلتين ، وأبو السبطين ، وزوجته خير النساء ، فما يفوقه أحد ،
( 1 ) شواهد التنزيل 1 : 108 ح 153 .
( 2 ) مسند أحمد 1 : 190 ، تاريخ الخلفاء : 171 .
( 3 ) الصواعق المحرقة ، الباب التاسع ، الفصل الثالث : 76 .
( 4 ) تاريخ الخلفاء : 172 . ( * )
لم تر عيناي مثله ، ولم أسمع بمثله ، فعلى من أبغضه لعنة الله ولعنة العباد إلى يوم التناد ( 1 ) .
2 - إن معاوية سأل ضرار بن حمزة بعد موت علي عنه ، فقال : صف لي عليا ، فقال : أو تعفيني ؟ قال : صفه ، قال : أو تعفيني ؟ قال : لا أعفيك ، قال : أما إذ لا بد فأقول ما أعلمه منه : والله كان بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يقلب كفيه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب . كان والله كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة ، ولا نبتدئه عظمة ، إن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله . فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ، وكأني أسمعه وهو يقول : يا دنيا أبي تعرضت ؟ أم إلي تشوقت ؟ هيهات هيهات غري غيري ، قد باينتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير ، وعيشك حقير ، وخطرك كثير ، آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق .
قال : فذرفت دموع معاوية على لحيته فما يملكها وهو ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء ، فقال معاوية : رحم الله أبا الحسن ! كان والله كذلك ، فكيف حزنك
( 1 ) ميزان الاعتدال 1 : 484 . ( * )
عليه يا ضرار ؟ قال : حزن من ذبح ولدها في حجرها ، فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها ( 1 ) .
هذه شذرات من فضائله ، وقبسات من مناقبه الكثيرة التي حفظها التاريخ من تلاعب الأيدي .
غير أنه لا يعرف عليا غير خالقه ، وبعده صاحب الرسالة الكبرى ابن عمه المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) .