رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالحاضرين الظهر جماعة وفيما كان الناس قد أحاطوا به صعد ( صلى الله عليه وآله ) على منبر أعد من أحداج الإبل وأقتابها ، وخطب في الناس رافعا صوته ، وهو يقول : " الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ، ونعوذ به من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن أضل ، ولا مضل لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلا هو ، وأن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد ، أيها الناس إني أوشك أن أدعى فأجيب ، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجهدت ، فجزاك الله خيرا .
قال ( صلى الله عليه وآله ) : " ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن جنته حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ؟ " قالوا : بلى نشهد بذلك . قال ( صلى الله عليه وآله ) : " اللهم اشهد " .
ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : " وإني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا " . فنادى مناد : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، وما الثقلان ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : " كتاب الله سبب طرف بيد الله ، وطرف بأيديكم ، فتمسكوا به ، والآخر عترتي ، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا " .
وهنا أخذ بيد علي ( عليه السلام ) ورفعها ، حتى رؤي بياض آباطهما ، وعرفه الناس أجمعون ثم قال : " أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : " إن الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه ( 1 ) . اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأحب من أحبه ، وابغض من بغضه ، وأدر الحق معه حيث دار " ( 2 ) .
فلما نزل من المنبر ، استجازه حسان بن ثابت شاعر عهد الرسالة في أن يفرغ ما نزل به الوحي في قالب الشعر ، فأجازه الرسول ، فقام وأنشد :
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأكرم بالنبي مناديا
يقول فمن مولاكم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولم تر منا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق ومواليا
هناك دعا : اللهم ! وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا
مصادر الواقعة : هذه هي واقعة الغدير استعرضناها لك على وجه الإجمال ، وهي بحق واقعة لا يسوغ لأحد إنكارها بأدنى مراتب التشكيك والقدح ، فقد تناولها بالذكر أئمة المؤرخين أمثال : البلاذري ، وابن قتيبة ، والطبري ، والخطيب البغدادي ، وابن عبد البر ، وابن عساكر ، وياقوت الحموي ، وابن الأثير ، وابن أبي الحديد ، وابن خلكان ، واليافعي ، وابن كثير ، وابن خلدون ، والذهبي ، وابن حجر
( 1 ) لقد كرر النبي ( صلى الله عليه وآله ) هذه العبارة ثلاث مرات دفعا لأي التباس أو اشتباه .
( 2 ) راجع للوقوف على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلامة الأميني ( رحمه الله ) . ( * )
العسقلاني ، وابن الصباغ المالكي ، والمقريزي ، وجلال الدين السيوطي ، ونور الدين الحلبي إلى غير ذلك من المؤرخين الذين جادت بهم القرون والأجيال .
كما ذكره أيضا أئمة الحديث أمثال : الإمام الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى الموصلي ، والبغوي ، والطحاوي ، والحاكم النيسابوري ، وابن المغازلي ، والخطيب الخوارزمي ، والكنجي ، ومحب الدين الطبري ، والحمويني ، والهيثمي ، والجزري ، والقسطلاني ، والمتقي الهندي ، وتاج الدين المناوي ، وأبو عبد الله الزرقاني ، وابن حمزة الدمشقي إلى غير ذلك من أعلام المحدثين الذين يقصر المقال عن عدهم وحصرهم .
كما تعرض له كبار المفسرين ، فقد ذكره : الطبري ، والثعلبي ، والواحدي - في أسباب النزول ، والقرطبي ، وأبو السعود ، والفخر الرازي ، وابن كثير الشامي ، والنيسابوري ، وجلال الدين السيوطي ، والآلوسي ، والبغدادي .
وذكره من المتكلمين طائفة جمة في خاتمة مباحث الإمامة وإن ناقشوا نقضا وإبراما في دلالته كالقاضي أبي بكر الباقلاني في تمهيده ، والقاضي عبد الرحمن الإيجي في مواقفه ، والسيد الشريف الجرجاني في شرحه ، وشمس الدين الأصفهاني في مطالع الأنوار ، والتفتازاني في شرح المقاصد ، والقوشجي في شرح التجريد إلى غير ذلك من المتكلمين الذين تعرضوا لحديث الغدير وبحثوا حول دلالته ووجه الحجة فيه .
واقعة الغدير ورمز الخلود :
أراد المولى عز وجل أن يبقى حديث الغدير غضا طريا على مر الأجيال لم يكدر صفاء حقيقته الناصعة تطاول الأحقاب ، وكر الأزمان ، وانصرام الأعوام ، ويرجع ذلك إلى أمور ثلاثة
1 - إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد هتف به في مزدحم غفير يربو على عشرات الآلاف عند منصرفه من الحج الأكبر ، فنهض بالدعوة والإعلان ، وحوله جموع من وجوه الصحابة وأعيان الأمة ، وأمر بتبليغ الشاهد الغائب ليكونوا كافة على علم وخبر بما تم إبلاغه .
2 - إن الله سبحانه قد أنزل في تلك المناسبة آيات تلفت نظر القارئ إلى الواقعة عندما يتلوها وإليك الآيات :
أ - " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ " ( 1 ) .
وقد ذكر نزولها في واقعة الغدير طائفة من المفسرين يربو عددهم على الثلاثين ، وقد ذكر العلامة البحاثة المحقق الأميني في كتاب " الغدير " نصوص عبارات هؤلاء ، فمن أراد الاطلاع عليها ، فليرجع إليه .
ب - " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا " ( 2 ) .
وقد نقل نزول الآية جماعة منهم يزيدون على ستة عشر .
ج - " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ " ( 3 ) .
وقد ذكر أيضا نزول هذه الآية جماعة من المفسرين ينوف على الثلاثين ، أضف إلى ذلك أن الشيعة عن بكرة أبيهم متفقون على نزول هذه الآيات الثلاث في شأن هذه الواقعة ( 4 ) .
( 1 ) المائدة : 67 .
( 2 ) المائدة : 3 .
( 3 ) المعارج : 1 - 3 .
( 4 ) راجع في شأن نزول هذه الآيات كتاب الغدير 1 : 214 و 217 . ( * )
3 - إن الحديث منذ صدوره من منبع الوحي ، تسابقت الشعراء والأدباء على نظمه ، وإنشاده في أبيات وقصائد امتدت رقعتها منذ عصر انبثاق ذلك النص في تلك المناسبة إلى عصرنا هذا ، وبمختلف اللغات والثقافات ، وقد تمكن البحاثة المتضلع العلامة الأميني من استقصاء وجمع كل ما نظم باللغة العربية حول تلك الحادثة ، والمؤمل والمنتظر من كافة المحققين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم استنهاض هممهم لجمع ما نظم وأنشد في أدبهم الخاص .
وحصيلة الكلام : قلما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامة ، وفي التاريخ الإسلامي والأمة الإسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير ، وقلما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدثين والمفسرين والكلاميين والفلاسفة والأدباء والكتاب والخطباء وأرباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة ، وقلما اعتنوا بشئ مثلما اعتنوا بها . هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ أن يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام كان معروفا بين المسلمين بيوم عيد الغدير ، وكانت هذه التسمية تحظى بشهرة كبيرة إلى درجة أن ابن خلكان يقول حول " المستعلي ابن المستنصر " : " فبويع في يوم غدير خم ، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 487 هـ " ( 1 ) .
وقال في ترجمة المستنصر بالله ، العباسي : " وتوفي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة ، قلت : وهذه هي ليلة عيد الغدير ، أعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة ، وهو غدير خم " ( 2 ) .
وقد عده أبو ريحان البيروني في كتابه " الآثار الباقية مما استعمله أهل الإسلام
( 1 ) وفيات الأعيان 1 : 60 .
( 2 ) المصدر نفسه . ( * )
من الأعياد " ( 1 ) .
وليس ابن خلكان ، وأبو ريحان البيروني ، هما الوحيدين اللذين صرحا بكون هذا اليوم هو عيد من الأعياد ، بل هذا الثعالبي قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين ( 2 ) .
إن عهد هذا العيد الإسلامي ، وجذوره ترجع إلى نفس يوم " الغدير " ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر المهاجرين والأنصار ، بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على علي ( عليه السلام ) وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى . يقول زيد بن أرقم : كان أول من صافح النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعليا : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وباقي المهاجرين والأنصار ، وباقي الناس ( 3 ) .
فالحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
شذرات من فضائله يطيب لي أن أشير إلى بعض خصائصه قياما ببعض الوظيفة تجاه ما له من الحقوق على الإسلام والمسلمين عامة ، فنقول : إن له خصائص لم يشاركه فيها أحد :
1 - ولادته في جوف الكعبة .
2 - احتضان النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) له منذ صغره .
3 - سبقه الجميع في الإسلام .
4 - مؤاخاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) له من دون باقي الصحابة .
( 1 ) ترجمة الآثار الباقية : 395 ، الغدير 1 : 267 .
( 2 ) ثمار القلوب : 511 .
( 3 ) راجع مصدره في الغدير 1 : 270 . ( * )
5 - حمله من قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) على كتفه لطرح الأصنام الموضوعة في الكعبة .
6 - استمرار ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من صلبه .
7 - بصاق النبي ( صلى الله عليه وآله ) في عينيه يوم خيبر ، ودعاؤه له بأن لا يصيبه حر ولا قر .
8 - إن حبه إيمان وبغضه نفاق .
9 - إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) باهل النصارى به وبزوجته وأولاده دون سائر الأصحاب .
10 - تبليغه سورة براءة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
11 - إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) خصه يوم الغدير بالولاية .
12 - إنه القائل : " سلوني قبل أن تفقدوني " .
13 - إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) خصه بتغسيله وتجهيزه والصلاة عليه .
14 - إن الناس جميعا من أرباب الأديان ، وغيرهم ينظرون إليه كأعظم رجل عرفه التاريخ ( 1 ) .