ولادته وإمامته ( عليه السلام ) : ولد عام 212 ه ، وهو من بيت الرسالة والإمامة ، ومقر الوصاية والخلافة ، وثمرة من شجرة النبوة .
قام ( عليه السلام ) بأمر الإمامة بعد والده الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، وقد عاصر خلافة المعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز ، وله مع هؤلاء قضايا لا يتسع المقام لذكرها .
قال ابن شهرآشوب : كان أطيب الناس مهجة ، وأصدقهم لهجة ، وأملحهم من قريب ، وأكملهم من بعيد ، إذا صمت علته هيبة الوقار ، وإذا تكلم سماه البهاء ( 1 ) .
وقال عماد الدين الحنبلي : كان فقيها إماما متعبدا ( 2 ) .
( 1 ) ابن شهرآشوب ، مناقب آل أبي طالب 4 : 401 ط قم .
( 2 ) شذرات الذهب 2 : 128 في حوادث سنة 254 . ( * )
وقال المفيد : تقلد الإمامة بعد أبي جعفر ابنه أبو الحسن علي بن محمد ، وقد اجتمعت فيه خصال الإمامة وثبت النص عليه بالإمامة ، والإشارة إليه من أبيه بالخلافة ( 1 ) .
وقد تضافرت النصوص على إمامته عن طرقنا ، فمن أراد فليرجع إلى الكافي وإثبات الهداة وغيرهما من الكتب المعدة لذلك ( 2 ) .
المتوكل ومواقفه الشنيعة مع الإمام ( عليه السلام ) لقد مارس المتوكل نفس الأسلوب الخبيث الذي رسمه المأمون ثم أخوه المعتصم من إشخاص أئمة أهل البيت من موطنهم وإجبارهم على الإقامة في مقر الخلافة ، وجعل العيون والحراس عليهم حتى يطلعوا على دقيق حياتهم وجليلها .
وكان المتوكل من أخبث الخلفاء العباسيين ، وأشدهم عداء لعلي ، فبلغه مقام علي الهادي بالمدينة ومكانته هناك ، وميل الناس إليه ، فخاف منه ( 3 ) ، فدعا يحيى ابن هرثمة وقال : اذهب إلى المدينة ، وانظر في حاله وأشخصه إلينا .
قال يحيى : فذهبت إلى المدينة ، فلما دخلتها ضج أهلها ضجيجا عظيما ما سمع الناس بمثله ، خوفا على علي الهادي ، وقامت الدنيا على ساق ، لأنه كان محسنا إليهم ، ملازما للمسجد لم يكن عنده ميل إلى الدنيا .
قال يحيى : فجعلت أسكنهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه ، وأنه لا بأس عليه ، ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في
( 1 ) الإرشاد : 327 .
( 2 ) الكليني ، الكافي 1 : 323 - 325 ، الشيخ الحر العاملي ، إثبات الهداة 3 : 355 - 358 .
( 3 ) روي أن بريحة العباسي أحد أنصار المتوكل وأزلامه كتب إليه : إن كان لك بالحرمين حاجة فأخرج منها علي بن محمد ، فإنه قد دعا الناس إلى نفسه وتبعه خلق كثير . ( * )
عينى ، وتولي خدمته بنفسي ، وأحسنت عشرته ، فلما قدمت به بغداد ، بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان واليا على بغداد ، فقال لي : يا يحيى إن هذا الرجل قد ولده رسول الله ، والمتوكل من تعلم ، فإن حرضته عليه قتله ، كان رسول الله خصمك يوم القيامة . فقلت له : والله ما وقعت منه إلا على كل أمر جميل . ثم صرت به إلى " سر من رأى " فبدأت ب " وصيف " التركي ، فأخبرته بوصوله ، فقال : والله لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك ، فلما دخلت على المتوكل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته ، وأني فتشت داره ولم أجد فيها إلا المصاحف وكتب العلم ، وأن أهل المدينة خافوا عليه ، فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته وأجزل بره ، وأنزله معه سامراء ( 1 ) .
ومع أن الإمام كان يعيش في نفس البلد الذي يسكن فيه المتوكل ، وكانت العيون والجواسيس يراقبونه عن كثب ، إلا أنه وشي به إلى المتوكل بأن في منزله كتبا وسلاحا من شيعته من أهل قم ، وأنه عازم على الوثوب بالدولة ، فبعث إليه جماعة من الأتراك ، فهاجموا داره ليلا فلم يجدوا فيها شيئا ، ووجدوه في بيت مغلق عليه ، وعليه مدرعة من صوف وهو جالس على الرمل والحصى ، وهو متوجه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن ، فحمل على حاله تلك إلى المتوكل وقالوا له : لم نجد في بيته شيئا ، ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة ، وكان المتوكل جالسا في مجلس الشراب فأدخل عليه والكأس في يده ، فلما رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس التي كانت في يده ، فقال الإمام ( عليه السلام ) : " والله ما خامر لحمي ودمي قط ، فاعفني " فأعفاه ، فقال له : انشدني شعرا ، فقال علي : " أنا قليل الرواية للشعر " فقال : لا بد ، فأنشده وهو جالس عنده :
( 1 ) سبط ابن الجوزي ، تذكرة الخواص : 322 . ( * )
" باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم * وأسكنوا حفرا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد دفنهم * أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل ( 1 )
قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا * فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا "
فبكى المتوكل حتى بلت لحيته دموع عينه وبكي الحاضرون ، ورفع إلى علي أربعة آلاف دينار ثم رده إلى منزله مكرما ( 2 ) .
آثاره العلمية : روى الحفاظ والرواة عن الإمام أحاديث كثيرة في شتى المجالات من العقيدة والشريعة ، وقد جمعها المحدثون في كتبهم ، وبثها الحر العاملي في كتابه الموسوم ب " وسائل الشيعة " على أبواب مختلفة ، ومما نلفت إليه النظر أن للإمام ( عليه السلام ) بعض الرسائل ، وهي :
1 - رسالته في الرد على الجبر والتفويض وإثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين ، أوردها بتمامها الحسن بن علي بن شعبة الحراني في كتابه الموسوم ب " تحف العقول " ( 3 ) .
2 - أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله ، وهذه أيضا أوردها الحراني في تحف العقول .
( 1 ) ربما يروى " ينتقل " .
( 2 ) المسعودي ، مروج الذهب 4 : 11 . ( 3 ) تحف العقول 238 - 352 . ( * )
3 - قطعة من أحكام الدين ، ذكرها ابن شهرآشوب في المناقب .
ولأجل إيقاف القارئ على نمط خاص من تفسير الإمام نأتي بنموذج من هذا التفسير : قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي يسأله ، فلما قرأ الكتاب ، كتب : " يضرب حتى يموت " فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلة ، فكتب : { بسم الله الرحمن الرحيم . . . فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } ( 1 ) ، فأمر به المتوكل فضرب حتى مات ( 2 ) .
شهادته ( عليه السلام ) : توفي أبو الحسن ( عليه السلام ) في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين ودفن في داره بسر من رأى ، وخلف من الولد أبا محمد الحسن ابنه وهو الإمام من بعده ، والحسين ، ومحمد ، وجعفر ، وابنته عائشة ، وكان مقامه بسر من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهر ، وتوفي وسنه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة ( 3 ) .
وقد ذكر المسعودي في إثبات الوصية " تفصيل كيفية وفاته وتشييعه وإيصاء الإمامة لابنه أبي محمد العسكري " فمن أراد فليراجع ( 4 ) .
( 1 ) غافر : 84 - 85 .
( 2 ) مناقب آل أبي طالب 4 : 403 - 405 .
( 3 ) الإرشاد : 327 .
( 4 ) إثبات الوصية : 257 . ( * )