أبو محمد الحسن بن علي الهادي بن محمد الجواد ، أحد أئمة أهل البيت ، والإمام الحادي عشر ، الملقب بالعسكري ، ولد عام 232 هـ ( 1 ) ، وقال الخطيب في تاريخه ( 2 ) وابن الجوزي في تذكرته ( 3 ) : أنه ولد عام 231 ه وأشخص والده إلى العراق سنة 236 ه وله من العمر أربع سنين وعدة شهور ، وقام بأمر الإمامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده ، وقد اجتمعت فيه خصال الفضل ، وبرز تقدمه على كافة أهل العصر ، واشتهر بكمال الفعل والعلم والزهد والشجاعة ( 4 ) ، وقد روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدثين يربو عددهم على 150 شخصا ( 5 ) .
وتوفي عام 260 ه ودفن في داره التي دفن فيها أبوه بسامراء . وخلف ابنه المنتظر لدولة الحق ، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة
( 1 ) الكليني الكافي 1 : ص 503 .
( 2 ) الخطيب تاريخ بغداد 7 : 366 .
( 3 ) ابن الجوزي تذكرة الخواص : ص 322 .
( 4 ) المفيد ، الإرشاد : ص 335 .
( 5 ) العطاردي ، مسند الإمام العسكري وقد جمع فيه كل ما روي عنه وأسند إليه . ( * )
الوقت ، وشدة طلب السلطة ، واجتهادها في البحث عن أمره ، ولكنه سبحانه حفظه من شرار أعدائه كما حفظ سائر أوليائه كإبراهيم الخليل وموسى الكليم ، فقد خابت السلطة في طلبهما والاعتداء عليهما .
وقد اشتهر الإمام بالعسكري لأنه منسوب إلى عسكر ، ويراد بها سر من رأى التي بناها المعتصم ، وانتقل إليها بعسكره ، حيث أشخص المتوكل أباه عليا إليها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر فنسب هو وولده إليها ( 1 ) .
قال سبط ابن الجوزي : كان عالما ثقة روى الحديث عن أبيه عن جده ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز . ثم ذكر الحديث عن جده أبي الفرج الجوزي في كتابه المسمى ب " تحريم الخمر " ، ثم ساق سند الحديث إلى الحسن العسكري وهو يسند الحديث إلى آبائه إلى علي بن أبي طالب وهو يقول : " أشهد بالله لقد سمعت محمدا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : أشهد بالله لقد سمعت جبرائيل يقول : أشهد بالله لقد سمعت ميكائيل يقول : أشهد بالله لقد سمعت إسرافيل يقول : أشهد بالله على اللوح المحفوظ أنه قال : سمعت الله يقول : شارب الخمر كعابد الوثن " ( 2 ) .
ولقد وقع سبط ابن الجوزي في الاشتباه عندما توهم أن إسناد الإمام ( عليه السلام ) هذا الحديث إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مختص بهذا المورد ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، فإن أحاديث أهل البيت مروية كلها عن النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، فهم لا يروون في مجال الفقه والتفسير والأخلاق والدعاء إلا ما وصل إليهم عن النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) عن طريق آبائهم وأجدادهم ، ومروياتهم لا تعبر عن آرائهم الشخصية ، فمن قال بذلك وتصور كونهم مجتهدين مستنبطين ، فقد قاسهم بالآخرين ممن يعتمدون على آرائهم
( 1 ) ابن خلكان ، وفيات الأعيان 2 : 94 .
( 2 ) تذكرة الخواص : ص 324 . ( * )
الشخصية ، وهو في قياسه خاطئ ، منذ نعومة أظفارهم إلى أن لبوا دعوة ربهم لم يختلفوا إلى أندية الدروس ، ولم يحضروا مجلس أحد من العلماء ، ولا تعلموا شيئا من غير آبائهم ، فما يذكرونه من علوم ورثوها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وراثة غيبية لا يعلم كنهها إلا الله سبحانه والراسخون في العلم .
وهذا الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) يبين هذا الأمر بوضوح لا لبس فيه ، حيث يقول : " إن حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وحديث رسول الله قول الله عز وجل " ( 1 ) .
وروى حفص بن البختري ، قال : قلت لأبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) أسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك ، فقال : " ما سمعته مني فاروه عن أبي ، وما سمعته مني فاروه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) " ( 2 ) .
فأئمة المسلمين على حد قول القائل :
ووال أناسا نقلهم وحديثهم * روى جدنا عن جبرئيل عن الباري
ولقد عاتب الإمام الباقر ( عليه السلام ) سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة حيث كانا يأخذان الحديث من الناس ولا يهتمان بأحاديث أهل البيت ، فقال لهما : " شرقا وغربا فلا تجدان علما صحيحا إلا شيئا خرج من عندنا أهل البيت " .
ورغم أن الخلفاء العباسيين قد وضعوا الإمام تحت الإقامة الجبرية وجعلوا عليه عيونا وجواسيسا ، ولكن روى عنه الحفاظ والرواة أحديثا جمة في شتى المجالات ، بل يروى أن الإمام ( عليه السلام ) ورغم كل ذلك كان على اتصال مستمر بالشيعة الذين كان عددهم يقدر بعشرات الملايين ، وحيث كان لا مرجع لهم سوى الإمام ( عليه السلام ) .
( 1 ) الإرشاد : ص 274 .
( 2 ) وسائل الشيعة ج 18 ، الباب الثامن من أبواب صفات القاضي ، الحديث 86 . ( * )
كما أن الكلام عن أخلاقه وأطواره ، ومناقبه وفضائله ، وكرمه وسخائه ، وهيبته وعظمته ، ومجابهته للخلفاء العباسيين بكل جرأة وعزة وما نقل عنه من الحكم والمواعظ والآداب ، يحتاج إلى تأليف مفرد وكفانا في ذلك علماؤنا الأبرار ، بيد أنا نشير إلى لمحة من علومه .
1 - لقد شغلت الحروف المقطعة بال المفسرين فضربوا يمينا وشمالا ، وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولا ، ولكن الإمام ( عليه السلام ) عالج تلك المعضلة بأحسن الوجوه وأقربها للطبع ، فقال : " كذبت قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا سحر مبين تقوله ، فقال الله : { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ } أي : يا محمد ، هذا الكتاب الذي نزلناه عليك هو الحروف المقطعة اليي منها " ألف " ، " لام " ، " ميم " وهو بلغتكم وحروف هجائكم ، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم ، ثم بين أنه لا يقدرون عليه بقوله : { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } ( 1 ) " ( 2 ) .
وقد روي هذا المعنى عن أبيه الإمام الهادي ( عليه السلام ) ( 3 ) .
2 - كان أهل الشغب والجدل يلقون حبال الشك في طريق المسلمين فيقولون إنكم تقولون في صلواتكم : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } أو لستم فيه ؟ فما معنى هذه الدعوة ؟ أو أنكم متنكبون عنه فتدعون ليهديكم إليه ؟ ففسر الإمام الآية قاطعا لشغبهم فقال : " أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمالنا " .
( 1 ) الإسراء : 88 .
( 2 ) الصدوق ، معاني الأخبار : ص 24 ، وللحديث ذيل فمن أراد فليرجع إلى الكتاب .
( 3 ) الكليني : الكافي ج 1 كتاب العقل والجهل الحديث : ص 20 ، 24 - 25 . ( * )
ثم فسر الصراط بقوله : " الصراط المستقيم هو : صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة ، أما الأول فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شئ من الباطل ، وأما الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنة الذي هو مستقيم ، لا يعدلون عن الجنة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنة " ( 1 ) ، وكان قد استفحل أمر الغلاة في عصر الإمام العسكري ونسبوا إلى الأئمة الهداة أمورا هم عنها براء ، ولأجل ذلك يركز الإمام علي أن الصراط المستقيم لكل مسلم هو التجنب عن الغلو والتقصير .
3 - ربما تغتر الغافل بظاهر قوله سبحانه : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } ويتصور أن المراد من النعمة هو المال والأولاد وصحة البدن ، وإن كان كل هذا نعمة من الله ، ولكن المراد من الآية بقرنية قوله : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ( 2 ) هو نعمة التوفيق والهداية ، ولأجل ذلك نرى أن الإمام يفسر هذا الإنعام بقوله : " قولوا اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك ، وهم الذين قال الله عز وجل : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا } ثم قال : ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحة البدن وإن كان كل هذا نعمة من الله ظاهرة " ( 3 ) .
4 - لقد تفشت آنذاك فكرة عدم علمه سبحانه بالأشياء قبل أن تخلق ، تأثرا بتصورات بعض المدارس الفكرية الفلسفية الموروثة من اليونان ، فسأله محمد بن صالح عن قول الله : { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } ( 4 ) فقال : " هل
( 1 ) الصدوق معاني الأخبار : ص 33 .
( 2 ) الفاتحة : 7 .
( 3 ) المصدر نفسه : 36 .
( 4 ) الرعد : 39 : ( * )
يمحو إلا ما كان وهل يثبت إلا ما لم يكن " ؟ فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي : إنه لا يعلم الشئ حتى يكون ، فنظر إلي شزرا ، وقال : " تعالى الله الجبار العالم بالشئ قبل كونه ، الخالق إذ لا مخلوق ، والرب إذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه " ( 1 ) .
( 1 ) المسعودي ، إثبات الوصية : ص 241 . ( * )