إن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قد أعلنها صراحة بقوله لما طالبه مروان بن الحكم بالبيعة ليزيد ، حيث قال : " فعلى الإسلام السلام إذا بليت الأمة
( 1 ) الطبري ، التاريخ 4 : 304 حوادث سنة 61 ه ،ولمعرفة ما جرى على الإمام وأهل بيته حتى نزل أرض كربلاء راجع المقاتل
( 2 ) الإرشاد : 224 - 228 . ( *
براع مثل يزيد " كما عرفت سابقا . نعم إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : " صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي ، وإذا فسدا فسدت أمتي ، قيل : يا رسول الله ومن هما ؟ فقال : الفقهاء والأمراء " ( 1 ) ، فإذا كان صلاح الأمة وفسادها رهن صلاح الخلافة وفسادها ، فقيادة مثل يزيد لا تزيد الأمر إلا عيثا وفسادا .
إن القيادة الإسلامية بين التنصيص والشورى ، ولم يملك يزيد السلطة لا بتنصيص من الله سبحانه ولا بشورى من الأمة ، وهذا ما أدركه المسلمون آنذاك حيث كتبوا إلى الحسين ( عليه السلام ) رسالة جاء فيها : أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضى منها ، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها ( 2 ) .
ولم يكن الولد ( يزيد ) فريدا في غصب حق الأمة ، بل سبقه والده معاوية إلى ذلك كما هو معروف ، وليس بخاف على أحد ، وإلى تلك الحقيقة المرة يشير الإمام علي ( عليه السلام ) في كتاب له إلى معاوية ، حيث يقول : " فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الأمور ، فقد سلكت مدارج أسلافك بادعائك الأباطيل واقتحامك غرور المين والأكاذيب ، وبانتحالك ما قد علا عنك ، وابتزازك لما قد اختزن دونك فرارا من الحق وجحودا لما هو ألزم لك من لحمك ودمك مما قد وعاه سمعك ، وملئ به صدرك ، فماذا بعد الحق إلا الضلال المبين " ( 3 ) .
هذا ونظائره المذكورة في التاريخ ما دفع الحسين إلى الثورة ، وتقديم نفسه
( 1 ) القمي ، سفينة البحار 2 : 30 مادة أمر .
( 2 ) ابن الأثير ، الكامل 2 : 266 - 267 ، الإرشاد : 203 .
( 3 ) نهج البلاغة / الكتاب 65 . ( * )
وأهل بيته قرابين طاهرة من أجل نصرة هذا الدين العظيم ، مع علمه بأنه وفقا لما تحت يديه من الإمكانات المادية لن يستطيع أن يواجه دولة كبيرة تمتلك القدرات المادية الضخمة ما يمكنها من القضاء على أي ثورة فتية ، نعم إن الإمام الحسين ( عليه السلام ) كان يدرك قطعا هذه الحقيقة ، إلا أنه أراد أن يسقي بدمائه الطاهرة المقدسة شجرة الإسلام الوارفة التي يريد الأمويون اقتلاعها من جذورها .
كما أن الإمام ( عليه السلام ) أراد أن يكسر حاجز الخوف الذي أصاب الأمة فجعلها حائرة مترددة أمام طغيان الجبابرة وحكام الجور ، وأن تصبح ثورته مدرسة تتعلم منها الأجيال معنى البطولة والتضحية من أجل المبادئ والعقائد ، وكان كل ذلك بعد استشهاد الإمام ( عليه السلام ) ، والتاريخ خير شاهد على ذلك .
كان المعروف منذ ولادة الإمام الحسين ( عليه السلام ) أنه سيستشهد في العراق في أرض كربلاء وعرف المسلمون ذلك في عصر النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ووصيه ، لذا كان الناس يترقبون حدوث تلك الفاجعة ، كما أن هناك الكثير من القرائن التي تدل بوضوح على حتمية استشهاده ( عليه السلام ) ، ومن ذلك :
1 - روى غير واحد من المحدثين عن أنس بن الحارث الذي استشهد في كربلاء أنه قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : " إن ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء ، فمن شهد ذلك منكم فلينصره " فخرج أنس بن الحارث فقتل بها مع الحسين ( عليه السلام ) ( 1 ) .
2 - إن أهل الخبرة والسياسة في عصر الإمام كانوا متفقين على أن الخروج إلى العراق يكون خطرا كبيرا على حياة الإمام ( عليه السلام ) وأهل بيته ، ولأجل ذلك أخلصوا له النصيحة ، وأصروا عليه عدم الخروج ، ويتمثل ذلك في كلام أخيه محمد بن الحنفية ، وابن عمه ابن عباس ، ونساء بني عبد المطلب ، ومع ذلك اعتذر لهم الإمام
( 1 ) الإصابة 1 : 81 / 266 . ( * )
وأفصح عن عزمه على الخروج ( 1 ) .
3 - لما عزم الإمام المسير إلى العراق خطب وقال : " الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله وصلى الله على رسوله ، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي ، اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا ألاقيه ، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات ، بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خط بالقلم . رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفينا أجور الصابرين ، لن تشذ عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لحمته ، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقر بهم عينه ، وينجز بهم وعده ، ألا ومن كان فينا باذلا مهجته ، موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ، فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى " ( 2 ) .
4 - لما بلغ عبد الله بن عمر ما عزم عليه الحسين ( عليه السلام ) دخل عليه فلامه في المسير ، ولما رآه مصرا عليه قبل ما بين عينيه وبكى وقال : أستودعك الله من قتيل ( 3 ) .
5 - لما خرج الحسين ( عليه السلام ) من مكة لقيه الفرزدق الشاعر فقال له : إلى أين يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ما أعجلك عن الموسم ؟ قال : " لو لم أعجل لأخذت ، ثم قال له : أخبرني عن الناس خلفك " فقال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وأسيافهم عليك ( 4 ) .
6 - لما أتى إلى الحسين خبر قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن
( 1 ) لاحظ المحاورات التي جرت بين الإمام وهؤلاء في الإرشاد : 201 - 202 ، مقاتل الطالبيين 109 ، اللهوف : 20 ط بغداد .
( 2 ) اللهوف : 41 . ( 3 ) تذكرة الخواص : 217 - 218 . ( 4 ) الإرشاد : 218 . ( * )
يقطر ، قال لأصحابه : " لقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف غير حرج ليس عليه ذمام " فتفرق الناس عنه ، وأخذوا يمينا وشمالا ، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انضموا إليه . ومع ذلك فقد واصل ( عليه السلام ) مسيره نحو الكوفة ، ولما مر ببطن العقبة لقيه شيخ من بني عكرمة يقال له : عمر بن لوذان ، فسأل الإمام : أين تريد ؟ فقال له الحسين ( عليه السلام ) : " الكوفة " فقال الشيخ : أنشدك لما انصرفت ، فوالله ما تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف ، فقال له الحسين : " ليس يخفى علي الرأي ، وأن الله تعالى لا يغلب على أمره " ( 1 ) .
في نفس النص دلالة على أن الإمام كان يدرك ما كان يتخوفه غيره ، وأن مصيره لو سار إلى الكوفة هو القتل ، ومع ذلك أكمل السير طلبا للشهادة من أجل نصرة الدين ورد كيد أعدائه ، وحتى لا تبقى لأحد حجة يتذرع بها لتبرير تخاذله وضعفه .
نعم لقد كان الحسين ( عليه السلام ) على بينة من أمره وما سيؤول إليه سفره من مصير محتوم ، فلا شئ يقف أمام إرادته من أجل إعلاء كلمة الدين وتثبيت دعائمه التي أراد الأمويون تقويضها ، انظر إليه وهو يخاطب الحر بن يزيد الرياحي الذي يحذره من مغبة إصراره على موقفه حيث يقول له : " أفبالموت تخوفني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله فخوفه ابن عمه وقال : أين تذهب فإنك مقتول ، فقال :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى * إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبورا وخالف مجرما
فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم * كفى بك ذلا أن تعيش وترغما " ( 2 )
( 1 ) الإرشاد : 223 .
( 2 ) الإرشاد : 225 ، الطبري في تأريخه 5 : 204 . ( * )
ثم إنه كان لشهادة الحسين ( عليه السلام ) أثر كبير في إيقاظ شعور الأمة وتشجيعها على الثورة ضد الحكومة الأموية التي أصبحت رمزا للفساد والانحراف عن الدين ، ولأجل ذلك توالت الثورات بعد شهادته من قبل المسلمين في العراق والحجاز ، وهذه الانتفاضات وإن لم تحقق هدفها في وقتها ، ولكن كان لها الدور الأساسي في سقوط الحكومة الأموية بعد زمان .
ولقد أجاد من قال : لولا نهضة الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه - رضي الله عنهم - يوم الطف لما قام للإسلام عمود ، ولا اخضر له عود ، ولأماته معاوية وأتباعه ولدفنوه في أول عهده في لحده . فالمسلمون جميعا بل الإسلام من ساعة قيامه إلى قيام الساعة رهين شكر للحسين ( عليه السلام ) وأصحابه - رضي الله عنهم - ( 1 ) .
بلى ، فلا مغالاة في قول من قال : إن الإسلام محمدي الحدوث حسيني البقاء والخلود . ترى أنى للإمام الحسين ( عليه السلام ) الإذعان لحقيقة تسلم يزيد مقاليد خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، يزيد المنحرف الفاسد ، عدو الله وعدو رسوله ، الذي لم يستطع إخفاء دفائنه عندما أحضر رأس سيد الشهداء بين يديه حيث أنشد :
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم * وعدلنا قتل بدر فاعتدل
لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل ( 2 )
( 1 ) جنة المأوى : 208 للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء .
( 2 ) البيتان الأولان لابن الزبعرى ، والثلاثة الأخيرة ليزيد ، لاحظ تذكرة الخواص : 235 . ( * )
وأما بيان خروجه من مكة متوجها إلى العراق والحوادث التي عرضت له في مسيره إلى أن نزل بأرض كربلاء ، والتي استشهد فيها مع أولاده وأصحابه البالغ عددهم 72 شخصا ، ظمآن وعطشان ، فهو خارج عن موضوع البحث . وقد ألفت فيه مئات الكتب وعشرات الموسوعات .
شهادته ( عليه السلام ) : لقد استشهد يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة 61 من الهجرة ، وقيل يوم السبت ، وكان قد أدرك من حياة النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) خمس أو ست سنوات ، وعاش مع أبيه 36 سنة ، ومع أخيه 46 سنة .
فسلام الله عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ويوم يبعث حيا .